Quantcast
Channel: أوراق مسافر
Viewing all 37 articles
Browse latest View live

نحن والتاريخ الهجري 3

$
0
0

لم يعرف الموريتانيون في حياتهم تاريخا غير القمري الهجري، فاعتمدوا عليه في مناحي أنشطهم المختلفة، حيث لم يحدثنا التاريخ عن تقويم آخر غيره، عُرف في هذه البلاد من قبل، ولا في البلاد الملاصقة، باستثناء التاريخ المسيحي الروماني في الشمال الإفريقي، والذي اختلط بعضه عند السكان  ببعض التقاويم الأمازيغية التي لم  تصل إلينا.
   وقد أعطى الموريتانيون للأشهر القمرية أسماء اجتهد  البعض في تقديم دلالات سائغة لها، نورد بعضها للقاضي مْحمد بن أحمد بن ودادي حيث يقول:
1 – عاشور (محرم) رأس السنة الهجرية، سموه بذلك لوقوع عاشوراء فيه، وهي مناسبة يُحيِيها المسلمون بالعبادة من صوم ونافلة وصدقة، لأن فيها انتصر سيدنا موسى عليه السلام على فرعون.
2 – التْبيع (صفر) فتحاشوا ذكره  باسمه، لتشاؤم العرب به، سمي صفراً لوباء اعترى الناس فيه فاصفرت ألوانهم, أو لأنهم كانوا فيه يغزون القبيلة فيتركونها صفراً من المتاع, وكان الناس يتشاءمون منه لأن الحروب التي توقفت في الأشهر الحرم تعود فيه فينتشر الخراب والدمار. فسموه التابع: لما قبله.
3 – المولود (ربيع الأول) سموه بذلك لمولد الرسول صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر منه.
4 – الابيظ الاول (ربيع الآخرة)
5 – الابيظ الثاني أو الوسطاني (جمادى الأولى)
6 – الابيظ الثالث أو التالي بمعنى الأخير (جمادى الآخرة) وقد سموها هذه الأشهر البيض الثلاثة، لخلوها من حدث بارز.
7 – اﻟﮕصير (القُصيّر) الأول (رجب).
8 – اﻟﮕصير (القُصيّر) الثاني (شعبان) وقد سميا بذلك لوقوعهما قبل شهر رمضان، الذي يحتاج صومه وقيامه إلى إرادة ولوازم مادية، لذلك سُميا القصيران، ترقبا لتلك المعركة مع النفس.
10 الفطر الأول (شوال) وسمي بذلك لوقوع عيد الفطر المبارك فيه.
11 – الفطر الثاني (ذي القعدة) وقد أُتبِع لصاحبه، لخلوه من حدث خاص مميز.
12 – العيد (ذو الحجة) وسمي بذلك لوقوع عيد الأضحى فيه. ولم يسموه الحج، باسم هذا الحدث الكبير، لصعوبة تأدية هذه الفريضة عليهم، لبعدهم عن الحرمين الشريفين.
وقد قرأت لمحمد بن عبد الله الحمدان في "المجلة العربية" السعودية (عدد384 بتاريخ محرم 1430هـ ـ يناير 2009) أن أهل نجد كانوا يطلقون على بعض الأشهر القمرية الأسماء التالية: محرم: العُمر، صفر: سِفر بسين مكسورة، شوال: الفطر الأول، ذي القعدة: الفطر الثاني، ذي الحجة: الضحية.  
وجاء في المقال أن لبعض الأعراب (البدو) أسماء لبعض الأشهر مثل: رجب: غَراء،  شعبان: قُصيّر بتشديد الياء، لأنمها ينقضيان بسرعة، فيأتيهم رمضان الذي لا يريدونه، وأن أعرابيا قيل له: لقد جاء رمضان، فأجاب لأُبدِّدنَّ شمله بالأسفار. 
تتواصل الأوراق بعد اﻟﮕيطنه بإذن الله


نحن ورمضان 1

$
0
0
تشهد العاصمة حياة رمضانية تضاهي مثيلاتها في الدول الإسلامية العربية، حيث يشتد الإقبال على المساجد، لتلاوة القرءان الكريم ودراسة الحديث النبوي الشريف، وتلقي الدروس في العبادات وخاصة الصوم.
ومن المظاهر المؤثّرة استعمال باحات المساجد، وغيرها في صلاة العشاء والتراويح، ومنها باحة الملعب الأولمبي الكبير، الذي تتحول مسارب المشي والركض فيه إلى  صفوف من المصلين بالمئات.
وقد شهد هذا الشهر الإعلان عن انطلاق إذاعة للقرءان الكريم، تبث على الموجة الترددية  لكن ما حدث اليوم في الجمعة الثانية من رمضان، لفت نظر مصلي جامع حيّنا، وهو قراءة الإمام لنص مرقون، مكرس للإشادة بقرار ولي الأمر (رئيس الجمهورية) بإنشاء الإذاعة وكذلك بِنيَته في إقامة جامع بالعاصمة يتسع لخمسة عشر ألف مصل، ثم تثمين الحزام الأخضر الجديد الذي ستنطلق حملته يوم غد.
وقد لفتت أنظار المصلين قراءة الإمام لخطبة مكتوبة، لأنه كالغالبية الساحقة من أئمتنا يرتجلون، كما تشوقوا إلى معرفة كنه الموضوع، الذي انجلى عندما وصل الإمام إلى موضوع التشجير، ومكانة الشجرة في الإسلام مستشهدا بالآية الثالثة من سورة الرعد المختومة بـ [... إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون] حيث قرأها في النص [يعملون] ثم فطن وقال [يعقلون] عكس ما كُتب في هذا النص.
وهكذا زال الاستغراب جزئيا، ورجح المصلون أنه نص معمّم من الوزارة الوصية على المساجد، ثم تأكد الأمر عندما وقف أحد المصلين ليقول باستياء "كان الأجدر أن تخصص الخطبة لمواضيع رمضانية، أو جزء منها، وأن يُبتعد عن الحملات ..." حيث رد إمامنا الجليل " .. لقد جاءوا بها وقرأناها، إذ لم يكن فيها ما يخالف الشريعة".
وعلى كل فلم تستغرق الخطبة اليوم إلا حوالي تسع دقائق، بدل المعدل في جامعنا وهو خمس وعشرون دقيقة.
الصواب مع من يا تُرى؟ الوزارة التي لا تريد أن يتجاوزها الركب؟ أو مَن يعارضون إقحام المساجد في الحملات الإعلامية السياسية حفاظا على وحدة المصلين؟

وضع البيئة في ﺘﮕانت: الرشيد نموذجا، محمد محمود ودادي

$
0
0



ألقى السفير/ محمد محمود ودادي أمس محاضرة تحت عنوان
  وضع البيئة في ﺘﮕانت: الرشيد نموذجا
 نظمها "مركز الدراسات والبحوث حول الغرب الصحراوي"  ونادي أصدقاء الطبيعة حضرها لفيف من أساتذة الجامعة ووجوه الثقافة والصحفيين، والمهتمين بالبيئة.
وكانت فرصة للعديد منهم لإعلان تضامنهم مع سكان الرشيد وﺘﮕانت والدعوة إلى فك العزلة عن الرشيد.
وقد وصف الشاعر الكبير  عضو الجمعية الوطنية أحمدو بن عبد القادر ﺘﮕانت بأنها كائن حي، لأن لها رأسا ورقبة (الرقيبة) ومنحرا (لمنيحر) وبطنا (الباطن) وأسنانا (سن تكانت) وظهرا (اظهر تكانت) وكأن من سماها بالهضبة حلق فوقها بالطائرة.
واستعرض إمكانياتها الزراعية والتنموية والسياحية، ومكانة الرشيد الثقافية، مؤكدا بأن عزلة الرشيد والمناطق التابعة له يجب أن تنتهي مع الطريق الجديد بين آدرار وﺘﮕانت، مذكرا بتعاطف الجمعية الوطنية مع السكان، الذين يريدون أن تمر الطريق من قلب الوادي، وليس من جانبه لما في ذلك من أضرار فادحة على السكان. وقد نحى عدد من المتدخلين المنحى نفسه .


مـــدخل

سنحدد أولا موقع الرشيد وتضاريسه قبل طرق موضوعنا

• واد الرشيد هو امتداد لواد اﻠﮕصور الذي يبدأ جنوبا من ﺘﺠﮕجه، ويمر بالحويطات، حيث ينحدر في الاتجاه الشمالي الغربي على مدى خمسين كلم (50) حتى مصبه في قاع الخط، وهو مجرى نهر نابض، يشكل الحد بين ﺘﮕﺎنت وآدرار.
• تحيط بمجرى الوادي سلسلة جبلية، حيث أن الموقع ـ فيما يبدو ـ كان في مرحلة التكوين الجيولوجي الحالي للأرض، عبارة عن جبل شاهق انشق إلى نصفين، مما جعل الوادي ينخفض عن مستوى الأراضي المحيطة به، وعن ﺘﺠﮕجه بحوالي 135 مترا.
وينتشر النخيل على معظم ضفاف الواد حيث يبدأ جنوبا من أم الأرجام، وينتهي في ﮔلتت تاوجافت، حيث يكاد لا ينضب طول السنة.

• وقد أصبح الرشيد مركزا إداريا منذ سنة 1968، وعدد سكانه حوالي عشرين ألف نسمة ومساحته ثمانية آلاف ومئة كلم² (8100) وتتبع المركز بلدية الرشيد التي أطلق عليها اسم الواحات، وبلدية انييملان التي أصبح اسمها التنسيق، ويتبع المركز العديد من الحواضر، مثل: الََحْويطات، وتالمست، الشويخ، المينان، وﺸﮝﻴﮚ تيموجيج، افريوات، آغمشانت، انواشيد، وأشاريم.
• وتتبع المركز الإداري بلدية انييملان، التي تتبعها حواضر الواد الأبيض مثل النّبطْ، وأغلمبيت، والزّويرة، والدندان، وحواضر أخرى في جنوب الواد الأبيض، مثل: التاشوطات، انتاورطه انيعوي، إفرشاي إﮔفان1، إﮔفان2، واد الخير، البيجوج، امريحيمه، ﺘﮕْننتْ، الدفعة، أﮔرج البهنيس، المير، اتويمرات الدميان: محمية تتوسط سهلا، يُعد مرتعا للماشية.
• يعتبر واد الرشيد والواد البيض من أهم أودية (واحات) ﺗﮔانت إنتاجا للتمور، وذلك لجودة الأصناف المغروسة بهما، التي تبلغ أكثر من سبعة وأربعين نوعا، إضافة إلى شجرة الحناء صديقة النخل.
• عرف الواد بإنتاج العديد من الحبوب، أهما: القمح، الشعير، الدخن بأنواعه (تغليت، بشنه، الرحية، متري) مكه (الذرة الصفراء) آدﻠﮔان (لوبيا)، فندي (قطنيات).
• أما الخضروات فهي مجال جديد لكن السكان أبدعوا فيه، حيث ينتجون كميات وافرة، وخاصة من البصل، الثوم، البطاطس، البطاطا الحلوة، الشمندر، الجزر، الملفوف، اللفت، الطماطم، الخيار، الباميا.
• ويعتبر المركز موطنا رئيسا للمراعي، لوجود مساحات كافية لها، سواء في شماله أو جنوبه، ويتمتع بثروة هامة من أنواع المواشي، خاصة الإبل والبقر، والغنم: بضأنها ومعزها.
• ترتع في نواحي المركز مواشي ﺗﮔانت عامة، وآدرار وتيرس زمور، والرﮔيبة وآفطوط في سنوات الخصب، لجودة المراعي وتوفر مياهه، ووجود الموالح الضرورية للماشية.

إن الرشيد هذا جزء من هضبة ﺘﮕانت التي شهدت تدهورا خطيرا في  البيئة على المستويات كافة ونعني بها:
1 - الغابات والغطاء النباتي
2 - الحياة الفطرية (وحوش برية : من طرائد ومفترسة)
3 – الآثار التاريخية

أولا الغابات

• ظلت ﺘﮕانت إلى عهد قريب من أكثر المناطق الموريتانية غابات وتنوعا في الأشجار والأعشاب والبقول، مما يعطي مدلولا للاسم الذي أطلقه عليها الأجداد، وهو ﺘﮕانت أي الغابة.
      وقد يستغرب الملاحظ هذا الوضع بسبب وعورة الأرض وكثرة الجبال، لكن خصوصية المنطقة وفرت لها ـ رغم ذلك ـ احتضان كم هائل من الأشجار والنباتات، تغذيها مياه الأودية التي تُعد ـ هي والروافد المتوسطة والصغيرة ـ بالمئات، وتهبط كلها من الجانب الشرقي من الهضبة، متجهة غربا صوب التامورت والواد الأبيظ، وفي اتجاه الشمال الغربي، إلى واد الكصور (تجكجه ولحويطات والرشيد) بينما تتجه أودية ـ تعد على الأصابع ـ إلى الشرق مثل: أخمس تيدوم، وأودي أمجبور، وأودية قليلة أخرى إلى الجنوب والغرب مثل واد الغنم، وكلاكه. 
ومن الجلي أن العصور الغابرة قد شهدت روافد تتجه من سن ﺘﮕانت الشرقي أيضا إلى الشمال الغربي لكنها نبضت اليوم، أو أغلقتها الرمال، وجهتها منخفض الخط المذكور، والذي كان نهرا، ينتهي في التاخصه التي هي طرف مسطح مائي كبير هو آفطوط، المتصل بنهر سنغال ثم المحيط الأطلسي، حيث عُثر على بقايا حوت (ﮔﺎﮔﻪ) سنة 1965 في الناحية الشرقية من الخط.
•وتنبؤنا الحكايات المعاصرة للحروب القبلية ـ ابتداء من القرن الثامن عشر ـ أن أكثر وحدات المقاتلين أهمية هم حملة الفئوس (القواديم) المكلفين بشق الطرق أمام المحاربين، وقد سلك الفرنسيون النهج نفسه عندما أرادوا شق طرق للقوافل ثم السيارات، كان أخرها وسط الخمسينات لطريقي سوماس وفم البطحة المتجهتين إلى عاصمة الولاية، وقد أدركنا في الصبوة حملات السخرة، لأناس يعملون في شق الطرق وجلب المؤن، وجزء منهم مكلف بقطع الأشجار.
•رغم ذلك حافظت الإدارة الفرنسية على الكثير من الأشجار بوضع خطة تمكن من مراقبتها عبر موظفين ومتعاونين منتشرين في أنحاء الولاية (أهل الصدر) وهو النظام الذي انهار نهائيا مع نهاية السبعينات، مما أفقد الولاية أكثر من 90% من غاباتها وأشجار أوديتها ومرتفعاتها المسطحة (لعدل).

   ودعوني أستعرض معكم الأشجار والنباتات التي تحققتُ منها في الرشيد والمناطق التابعة لمركزه الإداري، وسأنقل أسماء بعضها بالعربية كما نجد في الجزيرة العربية .

•من الشوكيات: أمور (القرظ) أوروارـ أيروار (القتاد) الطلح، التمات (السلم) تيشط (الهلج)، أيگنين (التنضب)، اندرن، آدرس (البشام).
•أشجار مثمرة بفواكه متنوعة: السدر عدة فصائل (برلّه واهريتك) ﻠﮔلية، الحريشه، إمجيج، آكجور، أتيل (السرح).
•أشجار أخرى متنوعة: التيدوم (الدوم): وهو التبلدي في السودان، اتويديمت الذيب (تصغير دومة) تيجط (الأراك) أيزن، تيتارك ـ أصباي (المرخ)، إكيك، أوراش (الأرطى)، الطرفة (الطرفاء) في المنطقة الشمالية من الواد، أيش، أيزژيك، سانقو (أبنوس) باويه أو كليله، فاطمة البيضاء، الّلينه، اجّركْ، تيكفيت، لحويذﮔﻪ، أفرنان (اليتوع) تورجه (العشر) وشجرات سامة مثل تيدنوار، آوريوير، گندفر، وقد انقرضت أشجار في الحيز الواقع في مركز الرشيد مثل القد والرّعيعيد، دنبو، تبننه التي كانت مصدرا رئيسيا للحبال الجيدة.
•الحشائش الكبيرة التي تنبت في السفوح وعلى الضفاف وفي القيع، مثل أهمها الصوّاب (له حب يؤكل) الصبط شجر الحلفاء (السبط)، الحاذ (الحاذ)، الحمرة وعروقها أيطﮕيك، تيليميت، أم ركبه (الثمام)، أيذخير(الإذخر)، الحبق أو اللويزه، اقططفت، الطعمية، الصْفار، النسيل (الحلي)، آگبدان، إزگزيگ، أمژماژ، الجرجير (الجرجير)، تاطرارت (الشيح)، وأخرى سامة مثل أژيد، والتيلوم، ولبثيمه.
•الأعشاب، كثيرة ومتنوعة، بسبب اختلاف تضاريس الأرض من أودية عميقة، ومرتفعات مسطحة وجبلية، وسهول، ومستنقعات ماء، وكثبان رملية، خاصة في الناحية الشمالية. ومن أهم تلك الأعشاب تقية التراب، وهي مثل تقية التيدوم، لا يستغنى عنها في الطبخ، وخاصة لكسكس، لتسهيل البلع، كما يستشفى بها في حالة التخمة والإمساك، وأعشاب ذات حبوب، جيدة لصناعة العيش، مثل آژْ (الزاي مشمومة بالصاد) وتوجد منه ثلاثة فصائل، هي تيشيلاط وهي أجوده، والزيرﮚ وبوعلبة وحشيشته تسمى آژْمليل ، ثم نبتة الحميرة (وحبها دقيق جدا) والتي تشبه التّف غذاء الأحباش والإريتريين المفضل، وأخيرا تمشالت.
•وهناك أعشاب أخرى تخضر في الخريف لتتلاشى مع الحر، مثل: أالسعَد ويسمى تاره، وهو معطر وبه زيت، كْراع الغراب، لَحْمَة، تجاوه، آﮔشيت، الدسمة، البوص، بالنعمان، تلبوت، ألبْ، الطرطاﮔﻪ، ڌﻴﮝﻧﮝﻴﻠﻴت، الحطبة، اجّل، تمريدة.
•وقد انقرض الكمأ، وأنواع من الفطر (طبل النيرب).
ويمكن القول إن الموجود من معظم هذا الغلاف النباتي لا يتجاوز ـ أحيانا ـ االمئات، بينما تلاشت كثافته بفعل التصحر.

ثانيا الحياة الفطرية

•أما الحياة الفطرية، فكانت ﺘﮕانت موطنا رئيسا لها تضرب به الأمثال، من حيث العدد والتنوع، من ذلك الفيل والأسد حتى مطلع القرن العشرين والفهد والنمر الذي قتل آخره في الرشيد سنة 1974 والضبع (ﮔرفاف) والضبع الأسمر، وكلب الخلاء (لخله). وقد انقرضت كلها سوى فصيل واحد من ابن آوى المعروف عند العامة بالذئب، والثعلب والفنك.

• كما ظلت ﺘﮕانت موطنا للطرائد الكبيرة كالمها (الورﮒ) وأجَمَلْ، وأركميم والنعام (الذي شوهد لآخر مرة قرب الرشيد سنة 1967)، ومن الطرائد المتوسطة والصغيرة: الأمهار (الودّان) والغزلان بنوعيها: الدامي والغزال، وآكل النمل (اترده)، والوعل:الراوي، وعرْ.
• ولم يبق اليوم إلا الأرنب الذي لم يكن في الأصل يحسب ضمن الطرائد، والمهدد بالانقراض النهائي، ومثله الظربان بسبب الصيد الجائر.
• وانقرضت أنواع من الزواحف أو تكاد مثل السلحفاة، والقنفذ واليربوع والضفدع.
• وقد انقرضت زواحف سامة كَالبوا (لفليج) وتابلنكه، وكيْروه، بينما ما تزال أفعى الرمل موجودة: أم لقرينات أو الكيشكاشه، وبونينه، وبوظْْـفر، وسَيمام، وبوزرّﻴﮒ.  
•     وثروة الرشيد ومنطقته من أنواع الطيور لا تضاهى، لكن العديد منها انقرض اليوم مثل احبيرة الرﮒ، والحبش، وأخرى كالأوز المهاجر، وهناك طيور مثل القطا والحبارى مهددة بالانقراض بسبب الصيد الجائر. ولم نعد نرى الحدأة، ولا النسر الأزرق، والخفاش الأسود الكبير، والببغاء، والبلبل والكنّاري.

وهكذا اختل التوازن البيئي بدرجة خطيرة، مما أدى إلى نتائج ندرك منها اليوم ـ في انتظار الآتي ـ انتشارا هائلا لأعداد الحمير في البادية والقرى، التي تهدد بانقراض المراعي وتجفيف الغدران، وذلك بعد أن قضت البنادق الحديثة على الوحوش المفترسة خاصة الضبع (ﮔرفاف).
وصاحَبَت ذلك ندرة الأمطار، واتشار التصحر في نواحي الهضبة كلها حتى أن العديد من الطرق الجبلية الوعرة غطتها الرمال وأصبحت سالكة للسيارات.

ثالثا الآثار

     تتمتع منطقة الرشيد بالكثير من المواقع الأثرية التاريخية، أهمها:
•    المستحاثات الحجرية، التي كشف الكثير منها، لكنها لم تحصل بعد على اهتمام المختصين لاستنطاقها وتحديد فترات الصور الموجودة بها.
• الرُّومَدْ، وهي بقايا عمران يعود  إلى العصر الحجريNéolithiques ، أي إلى سبعة آلاف سنة خلت. ويتألف من مجموعة آثار متفرقة متناثرة، على مساحات رملية، تتألف أحيانا من أحجار مسطحة كبيرة لطحن الغلال، وأخرى كأوان لغلي الماء وطهي الطعام، أوان فخارية (قدور) لحفظ الماء والسوائل. والرومد منتشر على طول الواد، ويجري فيها التنقيب بحثا عن الخرز الملون،  مثل العقيق والبلح وﺍﻠﺘﻘﻟﻴﮚ والمرجان، الذي تتحلى به النساء.
• وفي أشاريم موقع رئيسي للآثار، مما يدل على أنه كان منطقة سكنية في العصور الوسطى، وقد عثر فيه نهاية الستينيات على العينة الوحيدة من العملة المرابطية في البلاد، وهي معروضة في المتحف الوطني بنواكشوط.

• وقد تعرضت كل المواقع الأثرية لنهب وافد من الخارج غير مسبوق، يتمثل بالدرجة الأولى في ما سرقه المشاركون في سباق باريس ـ داكار  الذين مكّنتهم سياراتهم التي لا توقفها أشد الرمال وعورة، من الاستيلاء على قطع أثرية لا تقدر بثمن، تمثل كل العصور التاريخية، سواء من الأدوات الحجرية والأواني الخزفية والحديدية والنحاسية، إضافة إلى انتشار تجارة هذه الآثار ضمن مجموعة كبيرة من المواطنين ذوي الصلات بالسياح والزوار الأوروبيين.
• إن ما ارتكب من جرائم في حق البيئة الموريتانية يصل حد الفساد في الأرض الوارد في سورة الروم   (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) هل سنتأمل هذه الآية ونعود إلى الصواب.

17 رمضان1431
28 أغشت 2010       

أبيات لمْحمد بن الطلبة الأباتي

$
0
0
سألالأستاذ حبيب بن أحمد في صفحته في "فيس بوك"بداية شهر يونيه الماضي عن قائل الأبيات التالية:
قد أيقظت دمن قفر مرابــــــــــــعها    تليد ماضي الهوى ونائم الشجن
يا عين جودي بما قد كنت صائنة     من الدموع على تذكار ذي الدمن
هذى منازلنا وذي مـــنازلنا وتي     منازلنا فــــــي سالف الزمـــــــن
العينَ فالنّيرَ فانجيْلاَنَ يا عجبًا     صــارت مراتع أهل البحر والســفن
إنه مْحمد بن الطلبه الأبّاتي (بتفخيم الباء) الذي عاش في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حتى رأى موطنه محتلا من الفرنسيين (أهل البحر والسفن) الذين كانوا يحمون معظمه في الخريف والشتاء، لخصوبة مراعيه، وقربه من سبخة "أشاميم" من أجل "إبل المخزن" كما كان يقال.   
والمنطقة هذه تقع في أقصى جنوب آدرار في "ظلعة الشعرانية" على ضفة منخفض "الخط" الفاصل بين آدرار وﺘﮕﺎنت، التي ينتمي إليها الشاعر.
وما يزال الناس يرددون أشعار مْحمد لما لها من طلاوة، ورومانسية، حيث وجدت له قطعة لدى محمد بن سيدي بابا في الرشيد، الذي كان موطنا لأهل أبات المشهورين بعلمهم وتقواهم، والذين كانوا يملكون فيه حدائق نخيل غناء،  إضافة إلى موطنهم الرئيسي شرقي التامورت.
 تنــــــــــاءت بك الأيام أي تناءِ       وأثْوتك أرضٌ غـــــــير ذات ثواءِ
تجاوزتُ أمَّ البيض والقلبَ بعدها      وخلـَّــفتُ مَقْطيرَ العريضَ وَرائي
وأصبــــحتُ أرجوا لِوادَانَ أَوْبةً        وَوَادانُ عندي كان أرضَ جَلاء
ألا ليت شــــعري هل أبِيتن ليلةً        بخيْرانَ إذ هَضْبُ الظِّباء حَذائي
وهل تر عـــــيني لأﮔْشَــطَََ مَرةً       وفي رَمْل ﻟََﻌﮕﺎلِيَ كان شــــفائي
بلاد بها قَطّعتُ نَظْم تَمائمـــــي          وجرّبتُ فيها للشـــــباب رِدَائي
لياليَ يدعوني الهوى فأُجيبه      وحيث له أدعـــــــــو أجاب دُعائي

محاضرة عن سياسة موريتانيا الخارجية من الاستقلال الى اليوم، بقلم محمد محمود ودادي

$
0
0


من الأعلى واليمين شيخنا بن محمد لقظف، سيدي محممد الديين، محمد بن الشيخ بن أحمد محمود، 
ومن اليمين في الأسفل وان بيران ممدو، المعلوم بن ابراهام، حمدي بن مكناس




الفترة الأولىـ الحكم المدني من 1380- 1398 هـ  إلى 1960 ـ 1978م
الفترة الثانية ـ من سنة 1398 هـ - 1978م إلى اليوم



أولا ـ ظلت موريتانيا بموقعها الاستراتيجي، في الشمال الغربي لإفريقيا وبإطلالتها على المحيط الأطلسي ومتاخمة الصحراء الكبرى، على مر الأزمان جسرا بين الشمال الإفريقي والغرب الإفريقي، وهو ما تحدث عنه بعض من اهتموا قديما بهذه المنطقة وتاريخها، مثل البكري، وبعده ابن خلدون الذي يصفها بالحاجز بين بلاد السودان وبلاد البربر.
  ومن يعرف سكان موريتانيا وتنوعهم، يدرك ما لهم من أهلية للعب أدوار رئيسية في محيطهم، سواء في الناحية الاقتصادية أو في نشر الإسلام واللغة العربية، في إفريقيا، وذلك منذ فجر دخول الإسلام، ثم في المشرق العربي.
•    وللوهلة الأولى عند إعلان الاستقلال، بدأت موريتانيا تبني كيانها لبنة لبنة، بكَدٍّ وجدية، انطلاقا من الصفر، جاعلة من المعركة الخارجية أولى اهتماماتها.
ويمكننا أن نوزع تحرك الدبلوماسية الموريتانية في عهد الرئيس المختار بن داداه على خمسة محاور:
1ـ إفــــــــــــــــريــــــقيــــــا
2ـ العالم العربي والإسلامي
3 ـ مجموعة عدم الانـحياز
4 ـ أوروبــــا وأمــــــريكـا
5 ـ الـــــــــكتلة الاشتراكية

1.    ـ كانت موريتانيا في ظل الاستعمار جزءا من اتحادية غرب إفريقيا التي تضم سبع مستعمرات وتوغو، يحكمها وال عام، ولها مجلس تشريعي إضافة إلى ولاة المستعمرات ومجالسها التشريعية، وعملة واحدة، وكانت عاصمتها دكار التي تتمتع ببنية تحتية من مطارات وموانئ ومعاهد وجامعات، ووسائل اتصال، ومؤسسات مشتركة، ومع الاستقلال ظلت تلك الروابط في غالبيتها قائمة، بل زادت بعدا جديدا ضمن المجموعة الفرنسية  La communauté française  أو منظمة الاتحاد الإفريقي الملغاشي، الموالية للغرب في ظل الحرب البارة، ومثلها المجموعة الناطقة بالإنجليزية التابعة للكومنولث البريطاني، وذلك في مقابل كتلة الدار البيضاء المنادية بعدم الانحياز وبالتضامن الإفريقي الآسيوي، والتي تضم مصر والمغرب وغينيا وغانا ومالي والحكومة الجزائرية الموقتة.
   ثم تكونت كتلة منروفيا التي ضمت عشرين دولة هي المجموعتان القريبتان من الغرب المشار إليهما آنفا، وتونس وإثيوبيا، والتي قررت ـ كمجموعة الدار البيضاء ـ حل نفسها في قمة أديس أبابا في شهر ذي الحجة 1382 هـ - ميه 1963، لتُقام منظمة الوحدة الإفريقية.
   ومنذ الوهلة الأولى، كان الموقف الموريتاني داخل الاتحاد الإفريقي الملغاشي مثيرا للجدل بسبب تناقضه مع مواقف شقيقاتها في المجموعة، فقد رفض الرئيس المختار الانضمام إلى الكيان الذي أقامت فرنسا نواته، وتضم مناطق من الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر، ورأت فيه محاولة لقضم أجزاء من الأرض الجزائرية. ويذكر الرئيس المختار في مذكراته أن أحد زملائه انتقده في اجتماع يرأسه الجنرال دﮔول موقفه المؤيد لوقف الحرب في الجزائر واستقلالها. وقد تكرر الشيء نفسه عندما أثار القضية الفلسطينية، ورفض أي صلة بإسرائيل.
   وبعد إقامة منظمة الوحدة الإفريقية، ظهر هذا التباين علنا بين موريتانيا وشقيقاتها ـ التي أيدتها بقوة في الأمم المتحدة وضغطت لدخولها المحفل الدولي مقايَضةً مع دخول منغوليا الشعبية ـ ذلك أن الرئيس المختار اعتبر أن منظمة الوحدة الإفريقية هي المرجعية السياسية الوحيدة في القارة، بدل المنظمات اٌلإقليمية القائمة سابقا، والتي يرى أن تكون مهامها إقليمية بحتة، وتنحصر في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ونحو ذلك. ويدخل في هذا النطاق انسحاب موريتانيا من المنظمة المشتركة الإفريقية الملغاشيةOCAM  في أقل من سنة بعد إنشائها في قمة نواكشوط في شعبان 1382هـ يناير 1965.
   وبشكل عام كانت الميزة الرئيسية للمواقف الموريتانية الولاء الكامل لمنظمة الوحدة الإفريقية وتطبيق قراراتها، وهو ما جعلها تنفذ قرار قطع العلاقات مع بريطانيا سنة  1384هـ 1965 لمسؤوليتها في انفصال روديسيا الجنوبية، وجعلها تقف بحزم مع الحركات الوطنية في القارة والتي آزرتها سياسيا وعسكريا، فكانت نواكشوط قبلة لزعماء الحزب الإفريقي لتحرير غينيا بساو وجزر الرأس الأخضر، وممثلي حركات تحرير جنوب إفريقيا وموزنبيق وأنغولا وروديسيا الشمالية والجنوبية ونياسالاند، وكانت الوفود الموريتانية في المحافل الدولية تضم أعضاء منهم ليتمكنوا من طرح قضيتهم، كما حمل العديد منهم جوازات دبلوماسية موريتانية، وسُخرت الإذاعة الوطنية لبث برامج الحركات التي يغطي أراضيها الإرسالُ الإذاعي الموريتاني؛ وقد أهّل هذا الموقف موريتانيا لتظل عضوا دائما في لجنة التحرير الإفريقية ومقرها دار السلام، حتى حلِّها بعد تفكيك نظام الميز العنصري في التسعينيات، كما وفقت موريتانيا بحزم ضد انفصال ولاية "بيافرا" في نيجيريا، وفتحت سفارة في لاﮔوص، والحرب مستعرة.
   وقد تُوج هذا النهج برئاسة الرئيس المختار لمنظمة الوحدة الإفريقية في ربيع الثاني1391 ـ 1392هـ1971-1972م حيث قاد لجنة عالية المستوى لزيارة الدول الأعضاء في مجلس الأمن، والدول الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي واليابان، مما أسفر عن إدراك العالم لخطورة استمرار نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، وساهم في عزلته الدولية التي عجلت بسقوطه. وقد أكسب نجاح الرئيس المختار في مهمته تقدير نظرائه الأفارقة، وطالبوه بتولي الرئاسة الدورية مرة ثانية إلا أنه اعتذر بسبب تراكم مهامه الداخلية.
•     وكان يمكن القول إن غالبية رؤساء إفريقيا الغربية قد زاروا موريتانيا، سواء الناطقين بالفرنسية أو الإنجليزية أو البرتغالية، وجميع الرؤساء الأفارقة العرب، ومعظم رؤساء الدول الناطقة بالفرنسية في وسط القارة وشرقيها.
 
2.    أما على الصعيد العربي والإسلامي فكانت البداية متعثرة، حيث رفضت جامعة الدول العربية في اجتماعها بشْتوره (لبنان) سنة 1380هـ 1961م، انضمام موريتانيا، مما شكل صدمة واستنكارا شعبيا، لما له من خطورة على مستقبل مكانة البلاد وعلاقاتها المحلية والدولية ومصالحها الثقافية والاقتصادية، وعلى تطوير اللغة العربية لتحتل مكانها الطبيعي في الإدارة والحياة العامة. وقد بادرت تونس في الإسهام في تلافي تفاقم هذا الوضع قدر الإمكان، فاعترفت بالدولة الجديدة، وأقامت معها علاقات دبلوماسية على الفور، وفتحت الباب أما الطلبة والمتدربين، في مجال القضاء والإعلام والتعليم، والأرصاد الجوية، فشكلوا أول نواة مدربة في هذه القطاعات الحساسة، التي لها صلة مباشرة بحياة الشعب، وتبعتها مصر سنة 1383 هـ  -1963م حيث استقبلت وفدا رسميا مهّد لإقامة العلاقات سنة بعد ذلك، وأرسلت أساتذة للتدريس، واستقبلت عددا كبيرا من الطلبة والمتدربين، وفتحت مركزا ثقافيا في العاصمة، مما هيأ البلاد لاستعادة جزء من توازنها في السبعينيات، بإدخال اللغة العربية في بعض نواحي الحياة العامة.
   ومع دخول الجامعة العربية في ذي القعدة1393 هــ ـ نومبر 1973م تبوأت موريتانيا مكانتها بين شقيقاتها واندمجت في العمل العربي المشترك، واستغلت بسرعة الفرص التي أتيحت لها لتحديث معارفها الأصلية في الثقافة العربية والعلوم الدينية، التي هي مصدر إشعاع لهما، حيث اشتهر علماؤها منذ القرن التاسع عشر في الحواضر الإسلامية المشرقية، وبدأت تعاونا تكامليا مع العديد من الدول العربية، فأرسلت قضاة ورجال شرطة إلى دولة الإمارات العربية، ومعلمين إلى دول أخرى، بينما انتشر طلبتها في الجامعات والمعاهد العربية.
   وقد قام الرئيس المختار بن داداه في مراحل مختلفة بزيارة تونس ومصر والجزائر والمغرب وليبيا والعراق وسوريا والأردن والسعودية ودول الخليج العربية، وثم زار موريتانيا الرئيس الحبيب بورﮔيبه والملك فيصل والشيخ زايد بن سلطان آل نْهيان، والشيخ صُباح السالم الصُباح، والرئيس هواري بو مدين والملك الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي والرئيس جعفر النميري، ووفود وزارية كثيرة من دول الجامعة العربية. وقد قدرت الدول العربية أيما تقدير نهج الرئيس في زياراته أو استقباله قادتها، وهو الاستنكاف عن طلب المساعدة، حيث كان يقول "إن الانقطاع الطويل بيننا، والمسافات الشاسعة التي تباعدنا هي دافعنا إلى صلة الرحم وتجديد عرى الأخوة"
   وقد كان هذا الكبرياء موضوعا يتحدث عنه بإعجاب الدبلوماسيون العرب. مع ذلك تدفقت المساعدات من الدول النفطية مثل السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والعراق وليبيا التي أقامت مصرفا مشتركا، والجزائر، وصناديق التمويل العربية منفردة ومجتمعة. وهكذا أصبح العرب الممولين الرئيسيين لبرامج التنمية والبنية التحتية، مثل طريق الأمل، أيضا، ومشروع آفطوط الساحلي المائي والزراعي، واستصلاح المناطق الزراعية في ضفة نهر السنغال، واستغلال الجبس ومناجم الحديد والنحاس إضافة إلى دعم البنك المركزي والقطاعات الحكومية المختلفة، وتمويل مشاريع النهر المشتركة مع السنغال ومالي، وقد شاركت الدول العربية في بعض هذه التمويلات كالمغرب، وقدمت جميعا الدعم السخي في مجال التكوين والخبرة باستقبال الطلبة والمتدربين، مثل تونس ومصر وسوريا والعراق والمغرب وليبيا، والأردن، كما أرسلت منظمة التحرير بعض الخبراء، وأقيمت شركات مع العديد من الدول العربية، وإن كان الكثير منها لم يعمِّر.
  وبالنسبة للموقف الموريتاني من القضايا العربية، فلم يؤثر فيه قيد أنملة قرار مؤتمر شتورة سنة 1380هـ 1961، فظلت داعمة لكفاح الشعب الجزائري، والفلسطيني والتونسي، حيث أثارها جميعا الرئيس المختار بن داداه في أول خطاب له في الجمعية العامة للأمم المتحدة في جمادى الأولى1381 هـ  ـ أكتوبر  1961م مطالبا بإنهاء استعمار الجزائر والتفاوض مع حكومتها المؤقتة، وإطلاق سراح زعمائها المعتقلين في فرنسا، ومعربا عن التضامن مع شعب تونس في مواجهة العدوان عليه، داعيا إلى الانسحاب من مدينة بنزرت، ومعربا عن تأييد الشعب الفلسطيني حتى يسترجع حقه في أرضه بعودة أصحابها اللاجئين،  عبر تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الشأن، رافضا الاعتراف بإسرائيل.
   وأصبح تأييد موريتانيا للشعب الفلسطيني عنوانا ثابتا في السياسة الخارجية.
   وفي سنة 1969هـ 1389 فُتح أول مكتب رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في نواكشوط، وانطلق من إذاعة موريتانيا صوت الثورة الفلسطينية بالعربية والفرنسية، ليُسمع في أجزاء واسعة من القارة.
   ويعود إلى موريتانيا فضل كبير في تغيير مواقف إفريقيا لصالح القضية الفلسطينية، الذي بلغ ذروته بقطع الدول الإفريقية علاقاتها بشكل شبه جماعي مع إسرائيل سنة 1974.
  وقد لفَت هذا الموقف انتباه الرئيس جمال عبد الناصر، فعبر عنه بقوله لأول وفد رسمي موريتاني يزور القاهرة في محرم سنة 1383هـ يونيه 1963: "لقد انبهرت بموقف الرئيس المختار بن داداه من القضية الفلسطينية ومن قضايا التحرير عامة، وفي إفريقيا خاصة، وخجلت من أنني لم أكن أعرفه، وكذلك من تجاهلنا لهذا البلد العربي الإفريقي الأصيل".
وعلى العموم ركزت موريتانيا جهودها على توطيد العلاقة بين العالم العربي وإفريقيا وإقامة التعاون العربي الإفريقي الذي شكلت قمة القاهرة سنة 1396هـ1977 انطلاقته الرسمية، فتمت إقامة البنك العربي للتنمية في إفريقيا بالخرطوم، والذي شاركت موريتانيا ـ رغم أوضاعها آنذاك ـ في رأس ماله.
   ولم يكن لهذا النجاح أن يتحقق لولا وضوح الرؤية وجهود رجال مخلصين من أمثال المختار بن داداه الذي كان الوسيط النزيه والحكيم الذي تمكن في وقت مبكر من حل خلافاته مع جيرانه كما فعل مع مالي سنة1383هـ 1963، ودوره في حل الخلافات الثنائية، كما فعل بين ليبيا وتونس، وبين سنغال وغينيا، وبين كوت ديفوار وغينيا؛ وبين الدول الناطقة بالفرنسية وتلك الناطقة بالإنجليزية حتى  أُقيمت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وأخيرا في التقريب بين القادة العرب والأفارقة.
   ولا غرو فموريتانيا جسر بين جنوب الصحراء وشمالها، كما أرادتها الجغرافيا والتاريخ والآباء المؤسسون، وهو ما يعترف به الأفارقة والعرب، ويجعلهم يعولون على مواقفها ودورها في التضامن والتعاون العربي الإفريقي. وقد اعترف الكثيرون للرئيس المختار بتلك الخصال وعلى رأسهم ياسر عرفات وجمال عبد الناصر والملك فيصل، والملك الحسن الثاني، وحافظ الأسد و"ليوبولد سدار سنغور" و"هوفوت بوانيى" وأحمدو أهيدجو وهواري بومدين و"أوﻠﻴﺴﻴﮕون أوباصنجو" ومعمر القذافي وعمر "بونغو إنديمبا"، والكثير من السياسيين والكتاب والإعلاميين.
   وعلى الصعيد الإسلامي كانت موريتانيا إحدى الدول المؤسسة للمؤتمر الإسلامي في الرباط سنة 1389هـ 1969، وشاركت في جميع مؤتمراته، كما انضمت إلى المؤسسات التابعة له؛ وكانت أيضا عضوا مؤسسا لرابطة العالم الإسلامي التي أصبح لها شأن في الدعوة والإرشاد ومؤازرة المسلمين عبر العالم في محنهم، رغم طابعها الأهلي، كما أمدت البلادُ العمل الإسلامي المشترك بكوكبة من العلماء، والكوادر الذين يشار لهم بالبنان.
   وكخاتمة لهذا المحور، يجدر بنا أن نذكُر بأن نفوذ الشناقطة الديني في إفريقيا وفي العالم العربي كان خير ظهير للسياسة الخارجية ودعما لمبعوثيها الدبلوماسيين. ففي السنغال وغامبيا وغينيا وسيراليون وساحل العاج وغانا ونيجيريا والكامرون، ودول أخرى، كان أتباع الطرق الصوفية: القادرية بفرعيها الرئيسيين الكنتي والفاضلي، والتجانية بفروعها الثلاثة الحافظي والعمري والحموي، عناوين بارزة للصيت الديني والثقافي، وعونا ومؤازرة للمواطنين الموريتانيين المنتشرين كتجار ومعلمين ومشائخ دين، وهو ما سهل في كثير من الأحيان مهام المبعوثين الرسميين؛ ووطد الصلات بين المهاجرين ووطنهم، الذي بادر بفتح مندوبيات وقنصليات ثم سفارات في بلاد المهجر الإفريقية.
3.    وفي المغرب العربي والمشرق سبق إعلانَ قيام الدولة الموريتانية الحديثة صيتُ العلماء الذين كانوا خير سفراء لبلاد شنقيطي في مراكش والرباط وفاس ومكناس، و توات ومُستغانم وتونس والقيروان، وطرابلس الغرب وفزان، والقاهرة والخرطوم وصنعاء، ومكة المكرمة والمدينة المنورة والدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، والأحساء والكويت والبصرة والزبير وبغداد، وعَمان ودمشق، وبيروت وإسطنبول. لقد وصل إلى هذه الحواضر وغيرها إشعاع المربين الشناقطة والعلماء والمجاهدين والشعراء، فزارها العديد منهم أو استوطنوها، ونذكر بعضهم حسب الأقدمية: سيد أعمر الشيخ بن الشيخ سيد أحمد البكاي، في القرن (9) هـ (16) م وأحمد بابا بن محمد إقيت التنبوكتي (11) هـ (17) والأميرة اخناثة بنت بكار بن اعلي بن عبد الله القرن (12)هـ  ـ (18)م سيدي عبد الله بن رازﮔﻪ، محمدو بن محمدي ، سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي، سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، محمد محمود بن التلاميد، الشيخ ماء العينين، صالح بن محمد بن نوح الفلاني، محمد لقظف الولاتي، الطالب أحمد بن اطوير اجنه، الطالب محمد بن بلعمش، محمد يحيى الولاتي، أحمد الشمس، محمد الأمين بن زيني، أحمد بن الأمين، محمد عبد الله بن زيدان بن غالي، أحمد الشمس، وأبناء ميابى:محمد العاقب، محمد حبيب الله، محمد الخضر، محمد محمود التندغي، محمد أمين بن عبدي بن فال الخير، الحاج محمود با، آبه بن اخطور، وغيرهم. وقد لا حظ الرئيس السنغالي "ليوبلد سدار سينغور" بإعجاب هذا الحضور، خلال زيارته للمشرق سنة 1385هـ 1966، عندما قال إنه لم يكن يتصور ما للموريتانيين من حضور علمي في المشرق العربي.
4.    وعلى صعيد عدم الانحياز، انضمت موريتانيا لهذه الحركة في قمتها ببلغراد سنة 1381هـ 1961 كما أسلفنا، ومن وقتها تميزت السياسة الخارجية بنهج مؤيد لمواقف هذه الكتلة التحررية، المعادية للاستعمار. فوقفت مع حركات التحرير في فلسطين وإفريقيا وآسيا، وربطـت علاقات قوية مع الدول التقدمية، ومعظم دول الكتلة الشرقية، دون أن تفرط في علاقاتها مع فرنسا والدول الغربية كما سنرى في الفقرات الموالية.
5.     أما بالنسبة للعلاقات مع الغرب، فكان يحكمها في البداية إرث موريتانيا كمستعمرة فرنسية لستين سنة، ومصدرُ المرجعية الفكرية والسياسية لنخبتها هو فرنسا، التي فتحت الباب أمام أبنائها للتعليم والتدريب، وقدمت لها الخبرات الفنية الضرورية لتسيير دواليب الدولة، وكانت عرّابها سواء في أوروبا أو عبر الأطلسي، وذلك ضـمن سياسة فرنسية ثابـتة لتقوية المجـموعة الفرنسية  La communauté française التي كان يراد لها أن تضاهي الكومنولث البريطاني، وأن يكونا إلى جانب الغرب في مواجهته للكتلة الاشتراكية.
   ورغم ذلك كانت العلاقات دوما صعبة بين الرئيس المختار والمسؤولين الفرنسيين، مما كان  يُخشى معه توتر يؤدي إلى أزمة، لكن الفرنسيين ـ والحق يقال ـ كانوا مَن يتجاوزون عن عناد الرئيس الموريتاني، الذي رفض يوما قبول ميدالية فرنسية كنظرائه الأفارقة، قائلا إنه لا يتذكر خدمة قدمها لفرنسا تستحق هذا التوشيح، كما رفض بعد الاستقلال أن يتعامل مع الرئيس الفرنسي عبر الدوائر المسؤولة عن المجموعة الفرنسية، التي كان لها وزير وأمانة عامة  في "الأليزى"  لأن لقب شارل دﮔول هو رئيس الجمهورية ورئيس المجموعة الفرنسية، وقد تجلى ذلك الموقف في حادثة نادرة في التعامل الدبلوماسي، عندما رفض السفير ممدو توري ـ بأمر من المختار ـ أن يقدم أوراق اعتماده خارج القناة المعتادة وهي وزارة الخارجية الفرنسية، ثم ذهب إلى بون، غير المقيم فيها، ليقدم أوراق اعتماده للرئيس الألماني قبل أن يقدمها للجنرال دكول عبر وزارة الخارجية.
   وعلى كل حال عاضَدت الدول الغربية المجموعة الإفريقية حتى دخلت موريتانيا الأمم المتحدة، وظلت فرنسا مصدر الدعم الاقتصادي والتقني لموريتانيا، بينما كانت ألمانيا الغربية ـ التي فتحت سنة 1382هـ1962 سفارة في نواكشوط ـ مصدر الدعم الثاني، وهي الحريصة على أن تُبعد من الأفق الإفريقي ألمانيا الشرقية، وكانت إسبانيا سباقة إلى فتح سفارة أيضا سنة1382هـ 1962، كما فتحت موريتانيا سفارة في مدريد هي الثانية في أوروبا بعد باريس، وذلك بحكم وضع الصحراء الغربية، وتلا ذلك بروز السوق المشتركة الأوروبية كمصدر للتعاون الاقتصادي؛ إلى أن وجدت موريتانيا لنفسها آفاقا جديدة، تحدثنا عنها فيما مضى.
•     أما العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت باكورتها فتح سفارة لها بعد الاستقلال مباشرة، بعد تأييدها تمويل البنك الدولي لشركة الحديد الموريتانية "ميفرا" قُبيل إعلان الاستقلال بقليل، حيث زار "يوجين بلاك" رئيس البنك نواكشوط لهذا الغرض، مما شكل رسالة بليغة لدعم الدولة الموريتانية الناشئة.
وفي نهاية الثمانينات من القرن الهجري، منتصف الستينيات من القرن العشرين بالتقويم المسيحي، زار "منن ويليامز" مساعد كاتب الدولة للشؤون الإفريقية موريتانيا، ضمن جولة في المنطقة، ركز فيها على شرح الموقف الأمريكي من إزالة الاستعمار من القارة، ومن القضية الفلسطينية، وكانت الخارجية الأمريكية فطِنة منذ البداية لما تحتله موريتانيا من مكانة عربية إفريقية، حيث تضعها ضمن دائرة شمال إفريقيا في وزارة الخارجية، حتى قبل دخولها الجامعة العربية، وكان معظم دبلوماسييها الأوائل من الناطقين بالعربية.
   وظل الدور الموريتاني ضمن المجموعة الإفريقية الآسيوية في الأمم المتحدة ملفتا للأنظار وللدوائر السياسية الأمريكية على الأخص، التي قبلت به في النهاية ـ ومعها بقية الدول الكبرى ـ كاختيار لغالبية الدول الإفريقية المستقلة حديثا، والتي رأت في عدم الانحياز مخرجا من إكراهات الاصطفاف ضمن الكتلتين المتصارعتين.
  وقد تبين إبان العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن سنة1387هـ 1967 قوة الارتباط  الموريتاني بالدول العربية، وإخلاصها لمواقفها المعلنة، الذي جرّها إلى قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية لأنها ساندت إسرائيل في ذلك العدوان، كما قالت القاهرة ودمشق؛ لكن تلك الصفحة ما لبث أن طويت لتعود العلاقات، التي لم تكن على كل حال في أي يوم مبنية على مساعدات اقتصادية أو ثقافية ذات بال. ويمكننا الجزم بأن القضية الفلسطينية كانت وستظل نقطة حساسة في العلاقات بين نواكشوط و واشنطن.
6.    أما الكتلة الاشتراكية التي كانت في تلك المرحلة تضم الاتحاد السوفيتي، ودول حلف وارسو، وأيضا الصين الشعبية  والدول الاشتراكية في شرق آسيا، فكانت بعيدة عن الاهتمام الموريتاني إبان الاستقلال، وشابَها لفترة وجيزة استعمال الاتحاد السوفيتي حق النقض، حتى فرض دخول منغوليا الشعبية كما سلف. وبعد دخول الأمم المتحدة أُقيمت العلاقات مع الاتحاد السوفيتي الذي فتح سفارة له في نواكشوط، سنوات قبل أن تفتح نواكشوط سفارة في موسكو، تغطي دول أوروبا الشرقية، وبدأت علاقات ثقافية تمثلت في إرسال العديد من الطلبة إلى جامعة الصداقة في موسكو، وأخرى تجارية كان أبرز ما تم فيها شراء الخطوط الجوية الموريتانية الناشئة طائرة "اليوشين" روسية الصنع.
   وقد قربت مواقف الكتلة الشرقية من قضايا التحرير في إفريقيا ومن القضية الفلسطينية كثيرا بين الجانبين، وخاصة في الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية. مع ذلك غادر الرئيس المختار بن داداه السلطة دون أن يزور موسكو، رغم أنه زار رومانيا ويوغسلافيا، لرفضه أن يعامَل كرئيس دولة فقط ويُستقبل من قبل "نيكولاي بودﮔورني" محتجا بأنه أمين عام لحزب الشعب الموريتاني، مما يقتضي أن يُستقبل من قبل "ليونيد بريجنيف" أمين عام الحزب الشيوعي الذي هو صاحب القرار الحقيقي.
   وكادت حادثة توزيع كتاب في نواكشوط سنة1390هـ 1970 منسوب لمؤسسة روسية ويهاجم الدين الإسلامي أن ينسف العلاقات بين البلدين لولا أن تبين سريعا أنه من صنع المخابرات الغربية ضمن الحرب الباردة. أما مع جمهورية الصين الشعبية، فكانت أجرأ خطوة في السياسة الخارجية حتى ذلك الوقت، هي الاعتراف بها وإقامة علاقات دبلوماسية معها في 19 ربيع الأول1385 هـ ـ 19 يوليه 1965م، وقطع العلاقات مع تايوان. ومن الصدف أن صوت موريتانيا كان المتمم لثلثي الأصوات المطلوبة في الجمعية العامة لدخول الصين الشعبية الأمم المتحدة واحتلال مقعدها في مجلس الأمن الذي ظلت تايوان تحتفظ به منذ إنشاء المنظمة، ومن تلك اللحظة، أصبحت نواكشوط قبلة المسؤولين الصينيين، وإحدى بواباتها في إفريقيا، التي انتشرت فيها خلال سنوات قليلة، وهو ما كان فيه للرئيس المختار دور مقدّر لدى القيادة الصينية، بينما أصبحت "ﭙيكين" مركز انطلاق العلاقات الموريتانية مع دول آسيا الشرقية، مثل فيتنام وكوريا الشمالية وكمبوديا. وقد قام الرئيس المختار بن داداه بزيارة الصين عدة مرات كما زار "بيونغ يانغ" و"بنو بن"، وزار "كيم إل سونغ" و"نوردوم سيهانوك" نواكشوط وكذلك قادة فيتنام الجنوبية قبل تحريرها.
   وقد أصبحت الصين الشعبية مصدرا رئيسيا لتمويل مشاريع حيوية، على رأسها ميناء نواكشوط، وجلب مياه الشرب إلى العاصمة وإقامة مؤسسات حيوية كداريْ الثقافة والشباب والملعب الأولمبي، وهو ما أهلها لتكون أهم شريك في التنمية قبل دخول موريتانيا الجامعة العربية كما أسلفنا.
•     وكان نجاح الدبلوماسية الموريتانية في عهد الجمهورية الأولى، عائدا في المقام الأول إلى الرئيس المختار بن داداه الذي ظل يعطي العلاقات الدولية الأولوية، ويباشرها بنفسه، حيث لا يفوّت أية فرصة لتعزيز مكانة بلاده، مثل زياراته التي شملت القارة الإفريقية بأجمعها تقريبا، وغالبية الدول العربية، والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ـ دون الاتحاد السوفيتي ـ ودول أوربا الغربية، وباكستان وتركيا وإيران واليابان، ولم يفوّت فرصة للقاء نظرائه من الرؤساء والقادة، في المحافل الدولية، كما لم يغب عن قمة إفريقية واحدة أو عربية أو إسلامية أو لدول عدم الانحياز، حيث ظل الصوت الموريتاني مسموعا في قضايا العالم الثالث وفي كبريات مشاكل العالم. كما يعود هذا النجاح أيضا لوزراء الخارجية وللسفراء والدبلوماسيين، الذين أثبتوا مَلَكات حقيقية في هذا المجال رغم جدته عليهم، ورغم ضآلة الإمكانيات المادية، وغيبة السند الإعلامي الضروري للتحرك الدبلوماسي.
   ولا بد في هذه المناسبة أن نشيد بأولئك الرواد الذين فتحوا أولى السفارات، ونسجوا خيوطا علاقات ملؤها المودة والصداقة، أفادت موريتانيا في سمعتها وتحركها للتغلب مشاكلها الملحة في التعليم والتكوين والدعم الاقتصادي والفني، كما دافعوا بإخلاص عن قضية بلادهم، وجعلوا منه دولة فاعلة محترمة في المحافل الإقليمية والدولية.
   ومن هؤلاء مامدو تورى في باريس وأوروبا الغربية، سلميان بن الشيخ سيديا في الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بكار بن أحمدو في تونس، الشيخ سعد بوه كان في دكار، سيدي بونا بن سيدي في مدريد، حمود بن عبد الودودو في "أبدجان"، الحضرمي بن خطري في القاهرة، محمد بن الشيخ بن جدو في جدة ودول الخليج والعراق، محمد بن سيدي عالي في "بيكين" وجنوب شرق آسيا، ﭽوب حسينو في "موسكو" ودول أوروبا الشرقية.
   ومن الصدف التي تَشي بما للموريتانيين من استعداد فطري في هذا المجال، وجود سفيرين من أصول موريتانية يمثلان المغرب، والأردن لدى المملكة العربية السعودية إلى جانب السفير الموريتاني، وذلك في بداية سبعينيات القرن الماضي.
•    ونذكّر بأنه بعد الاستقلال احتفظ الرئيس المختار بن داداه بحقيبة الخارجية، إلى أن تولاها  شيخنا بن محمد لقظف من سنة 1381هـ 1962 إلى ذي الحجة 1382هـ إبريل 1963، فالمعلوم بن ابرهام لمدة أربعة أشهر، وسيدي محمد الديين إلى جمادى الثاني 1385هــ أكتوبر 1965، ثم محمد بن الشيخ بن أحمد محمود إلى شوال1385هـ فبراير1966، ثم وان بيران ممدو إلى سنة 1388هـ 1968، فحمدي بن مكناس إلى شعبان 1398هـ يوليه 1978. 




ب ـ المرحلة ما بين 1399هـ 1978م ـ إلى اليوم

•       قامت مجموعة من ضباط الجيش بقيادة رئيس الأركان بالانقلاب على الرئيس المختار بن داداه ونظامه المدني في 4 شعبان 1399هـ 10 يوليه 1978، وألغوا الدستور وحلوا البرلمان ومؤسسات الدولة، والحزب الحاكم، يريدون من  ذلك كما قالوا "إنقاذ البلاد من الانهيار" وإن كانت الدوافع هي وقف الحرب دون أن يعلنوها صراحة، ربما لأسباب تكتيكية. 
   وقد استقبل الجيران الشماليون الانقلاب بتفاوت، كلٌّ لأسبابه، فالحلفاء في نزاع الصحراء لم يعتبروه ضدهم، ربما لأملهم في أن يكون الجيش أقدر على الحسم العسكري، ووقف الاختراقات المتعددة للجبهة الموريتانية الشاسعة، ورأى فيه الطرف المقابل نصرا بإزالة النظام الذي وقّع اتفاقية مدريد؛ بينما التزمت أغلب الدول المجاورة في الجنوب الصمت، وقد التزمت منظمة الوحدة الإفريقية الصمت رغم أن الانقلاب صادف انعقاد قمتها في الخرطوم.
   وقد تنفست أوساط رسمية فرنسية الصعداء لنهاية نظام صعب المراس، سلك منذ وصوله نهجا مستقلا عن المجموعة المحسوبة عليها، وخرج عن الطوق بمراجعة اتفاقيات التعاون وإنشاء العملة وتأميم شركة "ميفرما".
   وعلى كل حال، كانت الدبلوماسية الموريتانية المتأثر الأول من هذا الانقلاب، بسبب انعدام رؤية واضحة، وشل الدور المركزي لوزارة الخارجية، بسبب الخلافات داخل اللجنة العسكرية واختلاف آراء الجناح المدني في الحركة، الذي تولى الاتصالات الخارجية، فلم يكن من المتاح تحديد موقف واضح من القضية المركزية التي كانت سبب الانقلاب وهي نزاع الصحراء.
   فالمفاوضون باسم النظام الجديد أعطوا الانطباع بأنهم يسعون لإرضاء كل الأطراف، لكسب الوقت وتأجيل أي حسم، وهو ما فشلوا في النهاية فيه، وسبّب ضغوطا شديدة، صحبتها محاولات تدخل حتى من جهات غير معنية، تسعى إلى أن تلعب دورا في المشهد.
   وكانت خاتمة الاتصالات التي شملت العديد من العواصم اتفاقية الجزائر التي أخرجت موريتانيا من الحرب، وقضت بالانسحاب من تيرس الغربية، دون ضمانات، ودون أن يسهم ذلك في وقف شامل للحرب؛ فنُظر إلى الخطوة كانحياز لجبهة بوليساريو، مما وتر العلاقات مع المملكة المغربية، والذي بلغ أوجه بقطعها، بعد محاولة انقلاب جمادى الأول1401 هـ مارس 1981.
   وقد ظهرت البلاد معزولة في الساحة الإقليمية بعد أن بدلت تحالفاتها السابقة، وجَمّد معظم الشركاء تمويلاتهم، وانشغلت القيادة بالصراع على السلطة، إلى أن تولاها العقيد معاوية بن الطايع في ربيع الأول 1405 هـ 1984، فدامت له إحدى وعشرين سنة، منها خمس عشرة في ظل دستور ذي طابع رئاسي، نُظمت بموجبه سنة 1414هـ 1992 انتخابات رئاسية شابتها عمليات تزوير واسعة، جسدتها نتائج مقاطعة كوبني التي كان عدد المصوتين فيها أكثر من عدد المسجلين؛ ليصبح التزوير نهجا في كل الانتخابات؛ وفي الوقت نفسه أُتيح الكثير من الفرص في الحصول على التمويل الخارجي، لكن أزمة نهاية الثمانينات وما تخللها من قمع، ظلت مصدر إزعاج للنظام خاصة لدى الدوائر الغربية، ثم جاءت أزمة الخليج التي صُنفت فيها البلاد ـ مع دول عربية أخرى ـ خارجة عن موقف الجامعة العربية المُدين لغزو العراق للكويت. بينما كان الموقف السليم الالتزام بالقانون الدولي والوقوف عند قدسية الحدود الموروثة.
   وللخروج من هذا المأزق غير النظام سياسته مئة وثمانين درجة، فقطع علاقاته بالعراق ثم أقام علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لينتهي به المطاف في نهاية عهده إلى الانضمام إلى حرب الرئيس الأمريكي بوش الابن ضد ما يسمى الإرهاب، جاعلا من موريتانيا موطنا له، باتهام النشطاء السلفيين والعلماء بل المتدينين بالإرهاب، فوضع العشرات في السجون، وسلم البعض إلى الولايات المتحدة، وهدد آخرين بالمصير نفسه، وهي خطوات أرضت الولايات المتحدة الأمريكية، مما أعطى نواكشوط نَفَـسا جديدا في علاقاتها الدولية وشدّ من عضدها لتتعامل بندية مع الجيران، بل مع فرنسا في موضوع منح التأشيرات، كما حصدت ثمار الموقف الجديد من خلال فتح أبواب التمويل الخارجي، الذي لم يُستعمل على أحسن وجه، بسبب  فساد الإدارة، وتفشي الرشوة وأكل المال العام، الذي أصبح نهجا، لم يسلم منه إلا من رحم ربك، وكما يقول أحد كتابنا تَزاوجَ المال مع السلطة.
•    وقد تصاعدت المعارضة للعلاقات مع إسرائيل، التي أجمع الموريتانيون على رفضها، وكانت مع القمع والانسداد الداخلي وانحطاط الأخلاق والقيم، من الأسباب لسقوط نظام الرئيس معاوية بن الطايع؛ وكما هو معروف لم تنته هذه العلاقات إلا السنة الماضية على يد الحكومة الحالية وسط ترحيب عارم من الشعب وطبقته السياسية.
•      وكانت أهم خطوة دبلوماسية للنظام في نهاية الثمانينات مشاركة موريتانيا في تأسيس اتحاد المغرب العربي، الذي هلل له المواطنون وشعوب المغرب العربي، لكنه لم يتمكن ـ للأسف الشديد حتى اليوم ـ من تجاوز العقبات التي صادفته منذ البداية، لكن هذا الانضمام صادف الانسحاب غير المبرر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، الذي جعل موريتانيا بلا ظهير جنوبي أو شمالي تتكئ عليه، مما يُضعف من قدرتها على مواجهة الضغوط الخارجية التي قد تؤثر على استقلال قرارها.
•     وقد تضررت الدبلوماسية الموريتانية من التغييرات الكثيرة لوزراء الخارجية التي لم تكن تخضع لمعيار منطقي، حيث بلغ عددهم خلال الثلاثين سنة الأخيرة عشرين، بينما لم يتجاوز العدد خلال الفترة المدنية التي دامت ثمان عشرة سنة، خمسة وزراء، كان آخرَهم حمدي بن مكناس الذي ارتبط اسمه بالدبلوماسية الموريتانية لمدة عقد من الزمن، تاركا ذكرى رجل وطني، وَفيّ، ومثابر.


خاتمة


   مع مطلع القرن الحادي والعشرين تزداد حاجة البلاد إلى تطوير دبلوماسية  ذكية ونشيطة، وتوسيع دائرة تحركها في العالم، لذلك  على الوزارة أن تضع تعريفا واضحا وشاملا للأهداف ومجالات التحرك، يراعي خصوصياتنا كبلد عربي إفريقي مسلم، له موقع جغرافي متميز وعلاقات تاريخية وثقافية واجتماعية مع محيطه الجنوبي والشمالي وصيت مرموق في المشرق العربي، وهو يتمتع اليوم بعلاقات تجارية وثقافية مع معظم دول العالم ومجموعاته المختلفة، مما أوجد مصالح حيوية تشكل صيانتُها ونموُها أولوية رئيسية، وذلك من خلال:  
-    في المحيط الإقليمي: دعم منظمة استثمار نهر سنغال والاستفادة من ما توفره من منافع زراعية وملاحية وكهرومائية ونقل وسياحة.
-     عقد اتفاقيات شراكة مع مجموعة دول إفريقيا الغربية الاقتصادية، تضمن انسياب التبادل التجاري والمالي معها.
-     السعي بجدية إلى تفعيل التكامل الاقتصادي والثقافي مع دول اتحاد المغرب العربي، بتطبيق نصوص الاتحاد السارية أو بشكل ثنائي.
-    تنشيط العلاقات مع الدول الإفريقية ومنظمتها القارية التي أصبحت أداة سياسية ودبلوماسية معتبرة، يتعامل معها العالم ومجموعاته ودوله النافذة باحترام، كما أصبحت بوابة لسياسات الدول الكبرى المهتمة بالشأن الإفريقي، للإسهام في حل مشاكل القارة الكبرى، من صراعات داخلية ونزاعات حدودية وكوارث طبيعية، واستمرار المساهمة في قوات حفظ السلام بالمناطق الإفريقية. وتوخي الحيطة في الانتماء إلى منظمات قد تجعلنا طرفا في أحلاف حتى لو لم تكن معلنة.
-     تفعيل العلاقات مع الدول العربية، ضمن منظومة الجامعة العربية، وعلى مستوى ثنائي.
-     تطوير العلاقات مع الصين الشعبية ونقلها إلى المستوى الاستراتيجي.
-    تطوير العلاقات مع اليابان، وإقامة علاقات متنوعة مع الهند وباكستان وإندونيسيا وماليزيا، وذلك بعد إقامة العلاقات مع تركيا وإيران التي تأخرت كثيرا، وتلافي التقصير القائم مع مجموعة "الآسيان" التي لم يعد من المصلحة تجاوزها.
-    تفعيل الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي ضمن مجموعة 5 زائد 5 ونادي برشلونة، واستمرار التعاون مع الاتحاد أيضا ضمن مجموعة الدول الإفريقية ودول الكاريبي (ACP).
-    العناية بالعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبرازيل، ودول أمريكية لاتينية أخرى مثل فنزويلا وكوبا التي لها حضور متميز وتعاون نافع مع دول الإقليم.
-    الابتعاد عن بعض التحالفات الموجهة إلى ما يُسمى الإرهاب، والتركيز على التنسيق ضمن دول الإٌقليم لمحاربة عصابات الجريمة المنظمة والسطو والإرهاب.
-    ضمان حضور منتظم وفاعل في المنظمات الإقليمية والعربية والإفريقية والإسلامية، والأمم المتحدة ووكالاتها، مع الحرص على الاستفادة القصوى منها، خاصة في توظيف المواطنين مثل ما تقوم به جل الدول الإفريقية.
-    التكيف مع أوضاع البلاد الاقتصادية التي تفرض التقشف ومنع التبذير، وذلك بتوزيع أكثر توازنا وجدوى للسفارات الحالية، وتحويل بعضها إلى قنصليات، ودعوة جميع الدول التي بها سفارات موريتانية إلى فتح سفارات لها في نواكشوط.
-    إعطاء عناية للمواطنين في الخارج وحمايتهم، مثل  الطلبة والعمال ورجال الأعمال، وتسهيل مهامهم والبحث عن فرص عمل لأصحاب الخبرات، وتشجيع الاستثمار والسياحة في الوطن.

 **
تمت مطالعة المصادر التالية لإعداد هذه المحاضرة

المجال التاريخي
       
1.    بلاد شنقيط المنارة والرباط/ الخليل النحوي 1987
2.        حياة موريتانيا (الجزء السياسي)  المختار بن حامد   1973   
3.    الرسالة الغلاوية/ للشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيد المختار، تحقيق د. حماه الله بن السالم 2007
4.    مجمل تاريخ الموريتانيين/ المختار ﮔاﮔيه 2007
5.     القبائل البيضانية في الحوض والساحل الموريتاني/ بول مارتي تعريب محمد محمود ودادي 2005
في التاريخ الحديث لبناء الدولة وسياسيتها الداخلية والخارجية
6.    موريتانيا على درب التحديات (مذكرات الرئيس المختار بن داداه) 2006
7.    موريتانيا وأوروبا عبر العصور/ محمد سعيد بن همدي 2006
8.    مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا/ محمد الأمين بن سيدي بابا 2005.
9.    L'indépendance coloniale Hamid Almouritany (M.Ch.A.mahmoud) 1968
10.      Mauritanie 1900-1975  Francis de chassey 197510 
Maurice DELAFOSSE: LE HAUT – SENEGAL – NIGER TOM°1 1972
11.    موريتانيا ودورها في نشر الإسلام في غرب إفريقيا للدكتور جمال ولد الحسن ( مجلة الفكر الصادر عن المعهد العالي للفكر الإسلامي الأول شتمبر سنة 1994)
12.    في العلاقات الدولية
مناهج السياسة الخارجية في دول العالم ، بإشراف روي مكريدس ترجمة د. حسن صعب، إصدار مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر
بيروت – نيويورك  1966






بعض من سفراء الجيل الأول للاستقلال
من أعلى الشيخ سعد بوه كان: الجزائر والمغرب، سليمن بن الشيخ سيديا: الأمم المتحدة والولايات المتحدة، محمد بن الشيخ بن جدو مصر والسعودية، الحضرامي بن خطري مصر

وضع اللغة العربية خمسين سنة بعد الاستقلال

$
0
0


   طُرحت في أول اجتماع لمجلس الوزراء في شهر يناير 1961، أي بشهر بعد إعلان الاستقلال يوم 28 نومبر 1960، ثلاث قضايا اعتُبرت أهم ما يواجه الكيان الجديد، وبحلها يمكن تفادي بعض المطبات المنتظرة، وهي:
•    مكانة اللغة العربية
•    مصير المشيخة القبلية
•    التعامل مع الكوادر الذين تركتهم فرنسا لتسيير الإدارة
  
وقد حُسم الموضوعان الأخيران بترك الشيوخ القائمين آنذاك على وضعهم، وامتناع الدولة عن تعيينهم في المستقبل، لأنه من خصوصية القبائل والعشائر، لا دخل للدولة فيه، أما المتعاونون الفنيون الفرنسيون فقد تقرر الاحتفاظ بهم كمستشارين لا يتحملون أعباء رئاسية تنفيذية.
   أما اللغة العربية، فلم يصدر بشأنها قرار حاسم، وتُرك الأمر إلى الهيئات السياسية المنتظر إقامتها، مما فاقم الجدل بين النخب السياسية حولها ونغّص من عيش الجميع، حتى إعلان ترسيمها في فبراير سنة 1968.
   فبعد المؤتمر التأسيسي لحزب الشعب في دجمبر 1961 كان المطلب الدائم لأقسام الحزب، وللناطقين باسم السكان ـ في الزيارات الرسمية وغيرها من المناسبات ـ الترسيم الفوري للغة العربية، وذلك باستثناء قسمين في ضفة النهر، رغم تأكيد السكان التعلق بها، لأنها لغة القرآن الكريم ، وقد تطور الخلاف في صفوف الحزب إلى أن عُلقت أعمال مؤتمره الأول في شهر مارس سنة 1963، حيث ظلت أقلية فاعلة، منها أعضاء في المكتب السياسي والحكومة، تتمسك بالوضع القائم وهو استمرار الفرنسية ـ كما في الدستور آنذاك ـ لغة رسمية واللغة العربية لغة وطنية، متحججين بأن غير ذلك سيثير الاضطراب، بينما قاد الدفاع عن اللغة العربية معلموها الذين كانوا قلة، مقارنة بنظرائهم المتفرنسين، والذين كانوا يعانون من ضيم صارخ، أدناه أن رواتبهم لا تمثل سوى نصف رواتب نظرائهم.
   ونتيجة للاحتقان المستمر اضطرت الحكومة إلى إصلاح التعليم  وإدخال اللغة العربية كمادة إلزامية في المرحلة الثانوية، على أن يُطبق ذلك  تدريجيا، وهو ما أثار أحداث 9  فبراير 1966 التي شهدتها نواكشوط وكيهيدي وأدت إلى موت ستة أشخاص.
   ونتيجة لهذه الأحداث، تسارعت وتيرة التوجه السياسي نحو ترسيم اللغة العربية ووضع خطة ازدواجية التعليم بعد مؤتمر الحزب في يونيه 1966 بالعيون، ضمن تعليم موحد، تتساوى فيه اللغة العربية والفرنسية بحلول سنة 1979، وهو ما أجهضه انقلاب 10 يوليه 1978.
   وينبغي التنويه هنا بأن مَن أعلن قرار مؤتمر العيون بترسيم اللغة العربية عبر الإذاعة هو وان بيران ممدو عضو المكتب السياسي وزير الخارجية نهاية سنة 1966.


وضع اللغة العربية عند الاستقلال


    عندما نعود إلى عهد الاستقلال، نلاحظ أن اللغة العربية كانت لغة جميع الموريتانيين سواء منهم البيظان أو لكور والذين يستعملونها في كتابة لغاتهم المحلية، وهو الأمر الذي كان سائدا حتى ذلك التاريخ، أو قريبا منه في جميع دول إفريقيا المسلمة، سواء كانت ناطقة بالفرنسية أو الإنجليزية؛ وقد ساعد نفور الموريتانيين بجميع مشاربهم اللغوية من المدرسة الفرنسية إلى استمرار احتفاظ اللغة العربية بمكانتها رغم محاربتها من المحتل الذي تفرد بهذا النهج عن الاستعمار الإنجليزي ضد اللغة العربية، بل الموروث الثقافي للشعوب الخاضعة له.
   وبما أن الإدارة في عهد الاحتلال كانت تُسيَّّر باللغة الفرنسية فقط باستثناء محكمة القاضي الشرعي، فإن الكوادر الذين ورثتهم موريتانيا المستقلة وشكلوا نواة الإدارة الجديدة كانوا من المتفرنسين، وكانوا يعتبرون أن إدخال الناطقين بالعربية ساحة العمل سيؤول إلى منافستهم في وظائفهم وحرمانهم من الامتيازات التي يتمتعون بها.         
   وفي هذا الجو الذي تسود فيه الفرنسية، فإن الناطقين باللغة العربية لم يكونوا مؤهلين لتولي مسئوليات إدارية، وهو الأمر الذي تجاوزته السلطات الرسمية بعد ذلك، عندما عينت بعض المسؤولين خارج دائرة التعليم العربي في مناصب عليا وآخرين في الإدارة الإقليمية، التي تغلغل فيها التعريب خلال العقدين الأخيرين.


ويشرّف هؤلاء ما كتب عنهم الرئيس المختار بن داداه في مذكراته "إن مثقفي اللغة العربية قد أثبتوا أنهم قادرون على تحمل أعلى المسؤوليات الوطنية على قدم المساواة مع نظرائهم من الأطر الناطقين بالفرنسية الذين كانوا يعتبرون الناطقين بالعربية "أطرا ناقصين".


   وحتى الستينات لم يكن من المألوف استعمال الفصحى لدى الموريتانيين وحتى غالبية الشعوب العربية إلا في الكتابة، قبل انتشارها عبر الإعلام وخلال المؤتمرات العربية ثم الدولية. وكان تدبيج الخطاب النثري بالعربية الفصحى في البلاد، وإلقاؤه عمليةً ندر من يتصدى لها، بينما كان نظم قصيدة فصحى أو عامية أمرا شائعا ومتداولا في المناسبات، وهي مفارقة تعود إلى ما يلاحظه المهتمون من أن أبناء الحيز الغربي من بلاد شنقيطي، قد نبغوا في الشعر واعتنوا به، بينما نبغ أبناء الحيز الشرقي أي أزواد في كتابة النص العربي النثري.
   ويروي الرئيس المختار ولد داداه في مذكراته أن معلما مساعدا قد ألقى أمامه في إحدى زياراته لتنبدغه في الحوض الشرقي خطابا بليغا في شكله ومضمونه، مما جعله يستدعيه ليتولى ـ بعد تكوينه في الخارج ـ أعلى المسئوليات في الدولة، وهو العلامة عبد الله ولد بيه. وقد أدرج طلاب معهد بوتلميت في مطالبهم سنة 1960 الرغبة في أن يخاطبهم أساتذتهم بالعربية الفصحى خلال إلقاء دروسهم ، ومن هؤلاء الأساتذة الأجلاء المرابط محمد عالي بن عدود وهو من هو.
   وقد سبب تهميش اللغة العربية في أوساط النخبة الحاكمة لجوء الكثير من المستعربين إلى تعلم اللغة الفرنسية سواء بالسماع أو بالكتابة والقراءة،  حتى لا يظلوا على الهامش، فأصبح عدد منهم لا يستهان به مزدوجي اللغة، وهو ما لم يقم به الطرف الآخر. 
   وبالتوازي مع هذا الوضع كانت الحكومة تعمل على قدم وساق لتكوين كوادر باللغة العربية في المجالات الاستراتيجة المتصلة بحياة المواطنين وهمومهم، كالقضاء والتعليم والإعلام، فأرسلت مجموعة من هذه القطاعات الثلاثة إلى تونس، لتنهض بعبء إدخال التعريب في هذه المجالات، لكن بقية قطاعات الدولة ظلت عصية على اللغة العربية بسبب انعدام الكوادر،  وعندما توفروا في الثمانينيات من القرن الماضي، غابت الإرادة لدى السلطة ولديهم هم، فاستكانوا ليكونوا مهمَّشين حتى في الإدارات التي يتحملون مسؤوليتها، معتمدين على كتبتهم المتفرنسين، وهو أمر ما يزال قائما إلى اليوم.


   ويعود للإذاعة الموريتانية الفضل الأول في انتشار اللغة العربية بين فئات الشعب كافة، حيث كانت برامجها المتنوعة في الإخبار والتوجيه والتسلية والخدمات، سببا رئيسيا في انتشار الصيغ العربية والمصطلحات، وفتح آفاق واسعة للمواطنين، لينهلوا من المعارف التي كشفتها وسائل الإعلام، وقربتها.


وقد أجهض انقلاب 10 يوليه 1978 مشروع التعريب وقسم أبناء موريتانيا إلى مدرستين عربية وفرنسية، مما كان له أثر خطير على اللحمة الوطنية، وعشنا تداعياته في أحداث 1989 المؤلمة وما تبعها، وكذلك على وضع التعليم بشكل عام والعربي منه بشكل خاص.


مكانة اللغة العربية اليوم


   يتميز المشهد الوطني بوجود وجهين للدولة الموريتانية، أحدها ناطق بالعربية يتمثل في الإعلام العام والخاص، وفي الحياة السياسية، حيث يحرص الجميع على مخاطبة الناس بلغتهم، أما الوجه الثاني فهو الإدارة المفرنسة حتى النخاع، وحتى في الوزارات التي كانت معقلا منذ الاستقلال للغة العربية، كالتعليم والعدالة والإعلام والشؤون الإسلامية، وذلك في خرق فاضح للدستور، الذي يجعل اللغة العربية لغة البلاد الرسمية.


   إنها مفارقة، أن تظل إدارة الدولة بعد خمسين سنة من الاستقلال معزولة عن المواطنين الذين يحاصرونها ليل نهار لحل مشاكلهم، في غيبة حتى للترجمة التي كان الاحتلال يوفرها، رغم أن أكثر من تسعين بالمئة من السكان كانوا يعيشون آنذاك في البادية.
  ومهما كابرنا وتشدقنا بالوطنية وتغنينا بالأمجاد وبالماضي المضيء،  فإننا نقوم اليوم بعملية انتقام للاحتلال من آبائنا الذين انتصروا عليه في رفضهم لثقافته وتمسكهم بلغتهم ودينهم وأصالتهم، طيلة ستة عقود من احتلاله، كما نقوم بهدم ما أنجزه جيل الاستقلال بعد نضال وتضحيات جسام حتى تعود للعربية مشروعيتها التاريخية ومكانتها كلغة ثقافة وحضارة وعلم وتنمية.


   إن الأمر من الخطورة بحيث يوجب على الحكومة الموريتانية أن تبادر قبل فوات الأوان بتـعريب الإدارة لتكون إدارة المواطنين، وتفعيل الترجمة لمن يحتاجها، مع الإبقاء على استعمال اللغات الأجنبية، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، والعمل الجاد على تُبوُّئِ اللغات الوطنية البولارية والسونينكية والولفية، مكانتها الوطنية.  
   إن ما نعيشه من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية يعود في المقام الأول  إلى محاولة إلغاء هوية هذه البلاد، بالتنكر للغتها، لسان دينها وركيزة توازنها ومصدر مكانتها في العالم، مما عرض للضياع الأجيال التي تعلمت بها، لتحقق العزة والعيش الكريم، ويعرض أيضا أجيال المستقبل للمصير القاتم نفسه. فهاهو أكثر من ستة وثلاثين ألف ملف لخريجي الجامعات، تنام في دهاليز الحكومة، تسعون في المئة منها لخريجي اللغة العربية، الذين عجزت الحكومة عن توفير العمل لهم، خاصة وأنهم ممنوعون رسميا من العمل في البنك المركزي  كما يحرمون من التوظيف في البنوك الوطنية والأجنبية والمؤسسات الاقتصادية والصناعية والتقنية والسفارات والهيئات الأجنبية المعتمدة في البلاد، لأن لغتهم العربية!. ومن هذا الوضع، وليس من الفهم المنحرف للإسلام فقط ـ كما يقال ـ وُلد التطرف واليأس، المفضي إلى الانتحار وحمل السلاح، وهو ـ مع عوامل التهميش الأخرى ـ  مصدر الثورات العربية الجارفة اليوم، في مغرب العرب ومشرقهم.
   وإن من المفارقات أن أبناء أهل السلطة والطبقات الميسورة، لم يعودوا يتعلمون إلا في المدارس الأجنبية وكأن ذلك سيضمن لهم مستقبلا أفضل! في انفصال عن المجموعة الوطنية، حيث أصبح تعليمنا الوطني خاصا بالفقراء والمهمشين الذين لا حول لهم ولا قوة! بينما تُجمِع مراكز البحث المعنية على أن أكبر عوامل كسب العلم واستيعابه والابتكار به، هو عندما يكون باللغة الأم.
   ومن المفارقات أيضا أن اللغة التي اخترناها هي الفرنسية، التي تقاتل من أجل البقاء، بعد أن تراجعت إلى المركز السابع عشر في لغات العالم، بعيدا خلف اللغة العربية، ومعها النفوذ الفرنسي والأوروبي بل الغربي أمام النهوض الشرقي الذي يلحق العرب به اليوم بعد ثوراتهم المباركة.
  
   ومن الدال أن نرى  أن عدد المتصفحين اليوم باللغة العربية للشبكة العنكبوتية (الإنترنت) قد وصل إلى خمسة وستين مليونا وأربعمئة ألف (65400000)  متجاوزين الناطقين بالفرنسية، الذين هم تسعة وخمسون  مليونا وثمانمئة ألف نسمة (59800000)، وليس الأمر بغريب، حيث  أصدرت المنظمة العالمية للفرانكفونية العام الماضي تقريرا يقول إن اللغة الفرنسية في تراجع مطرد، إلا في إفريقيا السوداء.
**
محاضرةلمحمد محمود ودادي ألقيت في احتفال جمعية المرأة للتربية والثقافة
بمناسبة إحياء يوم اللغة العربية


نواكشوط في ‏26‏ ربيع الأول‏ 1432 ـ 2مارس 2011

الذكرى الثانية لرحيل الطيب صالح

$
0
0

بسم الله الرحمن الرحيم

أشكر نادي القصة دعوته لحضور هذا اللقاء، المخلد للذكرى الثانية لرحيل الطيب صالح.
كان أول ما خطر ببالي عندما قررت الحديث في هذا اللقاء ثلاث محطات:
الأولى في الدوحة في ربيع 1975 حيث أقمت مع الطيب صالح علاقة استمرت طيلة العقود الأربعة الأخيرة. كانت المناسبة اجتماع اتحاد الإذاعات العربية، حيث كنت أرأس الوفد الموريتاني، بينما يرأس هو الوفد القطري، بوصفه مديرا عاما للإعلام في قطر أي المشرف على الوزارة قبل أن يكلف بها وزير، حيث كان الآمر الناهي في هذا القطاع الحيوي للدولة الناشئة، والمشرف الفعلي أيضا على الشئون الثقافية.
   خلال الجمعية العامة لاتحاد الإذاعات، وردتْ عدةَ مرات ـ في كلمات رؤساء الوفود ـ الدعوة إلى مدّ يد العون للإذاعات الفقيرة في اليمن والسودان والصومال وموريتانيا؛ وهو ما جعلني أتناولت الكلمة لأقول: إنني ـ نيابة عن نظرائي مديري إذاعات هذه الدول التي تصفونها بالفقيرة ـ أحتج على هذه الطريقة التي تعاملوننا بها، وأرجوكم الكف عنها، لأن مؤسساتكم ليست مخولة أصلا بتقديم العون، بل أنتم – كما يتضح من الوثائق المتداولة ـ بحاجة إلى موازنات تغطي احتياجاتكم الخاصة. وعلى كل فإن الحكومة الموريتانية – إن قررت طلب عون لإذاعتها ـ ستتوجه إلى من يعنيهم الأمر، وهم ملوك وأمراء ورؤساء الدول، وليس إلى مديري الإذاعات، الذين لا يملكون إلا تحسين الصورة أو تشويهها، وهو ما قد يكون وقع اليوم.
وقد ساد وجوم بين الحاضرين بسبب مفاجأة الرد، وبدأ رئيس الجلسة في الاعتذار، ومعه عدد من رؤساء الوفود منهم محمد سعيد الصحاف مدير عام الإذاعة والتلفزيون العراقي آنذاك، وقد اتجه نحوي الطيب صالح من مقاعد الوفد القطري فعانقني وقال بصوت مسموع ما معناه لقد أحسنت.
وفي اليوم الموالي سلّمته رسالة من وزير الثقافة والإعلام آنذاك أحمد بن سيدي بابا تعرب عن الرغبة في التعاون بين القطاعين، فاستفسر مني الطيب صالح قائلا: "هل باستطاعتي أن أسألك عن إمكانية دعمنا لقطاعات الإعلام والثقافة في موريتانيا؟" فضحكت وقلت له: إنكم مَن أعني، حيث تملكون الإمكانيات والصلاحيات عكس زملائنا أمس، ثم استقبل أميرُ دولة قطر رؤساء الوفود، فنبهه الطيب صالح إلى الخطاب الذي حملته، وهكذا زار الطيب صالح نواكشوط في أكتوبر من تلك السنة ليحمل معه مبلغا كبيرا من دولة قطر، موّل تأسيس المعهد الموريتاني للبحث العلمي، ودُعمت منه الوكالة الموريتانية للأنباء، والشركة الموريتانية للصحافة الناشئتان.
   المحطة الثانية كانت هنا في نواكشوط، بعد زيارته لموريتانيا التي قادته لعواصم ولايات الترارزه، وداخلة نواذيبو، وآدرار، ومدينتي المذرذره وشنقيطي، حيث قال: "لو أتيحت الفرصة لإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية لقيل إن منبعها موريتانيا".
   ومن هذا التاريخ كسبتْ موريتانيا الطيب صالح، الذي أصبحت في مقدمة اهتماماته، يتحدث عنها في المهرجانات والندوات واللقاءات، حتى رحيله، فكان سفيرها المتجول الذي لا يوصد أمامه باب، ولسانَها في المنابر العربية والأجنبية، معوضا عن قصورنا في التعريف بأنفسنا، حتى أصبحت موريتانيا لدى محاوري الطيب صالح الموضوع الحاضر، ليس من باب الإلحاق، وإنما منبعا للثقافة العربية، ومصدرا رئيسا للتراث الإسلامي المشترك، ونصدر تسامح وإنصاف، يتجلى في أجمل حلله بما تحتله المرأة الموريتانية من مكانة سامقة، لا بالقوانين المستوردة ودعوات التغريب والمسخ.
  وقد بلغ حبُّ الطيب صالح لموريتانيا وأهلها حدا جعله يخرج أحيانا عن وقاره وهدوئه المعروفين، عندما يُخدش وجه موريتانيا العربي الإسلامي الناصع، حتى ولو كان ذلك من الموريتانيين أنفسهم.
 المحطة الثالثة، في خريف 1988 بباريس، حيث كان يقول "يجب أن تنتهي الحرب في السودان، لئن لا يفقد بلدنا أعز ما لديه، وهو استقلاله وهويته، حتى لو كان ذلك بالانفصال" وها هو السودان ينهي هذه الحرب بالطرق الحضارية، عبر المفاوضات وتقرير المصير لسكان الجنوب، الذين ظلت حركاتهم السياسية والعسكرية مصدر القلاقل وذريعة لتكالب القوى الخارجية على السودان وأمنه، راجين من الله أن نكون في بداية مرحلة جديدة من الاستقرار، ليتمكن هذا البلد الشقيق التوأم، والمفصلي في إفريقيا والعالم العربي من النهوض والتقدم.
   ويومها تحدثنا طويلا عن مستقبل أمتنا العربية والإسلامية وقارتنا الإفريقية وبلديْنا بصورة خاصة، وعن إشكالية العلاقة بين الشمال والجنوب. وكان رأي الطيب صالح أن مصر هي مفتاح الإصلاح في العالم العربي، وأن وضعها آنذاك كان مثبطا للعزائم، وخاصة للسودان، الذي يرتبط معها بعلاقات مؤثرة على حاضره ومستقبله أكثر من أي بلد عربي آخر.
   أما رأيته في العلاقات بين الشمال والجنوب، فتعبر عنها قصصه ومحاضراته وكتاباته الغزيرة في الصحف والمجلات، التي نرجو أن ترى النور حتى ينهل منها الجميع. ولم يتستر الطيب صالح ـ المقيم في لندن والمتشبع بثقافة الغرب ـ على التناقض بين الغرب والشرق، كما لم يجامل في وقوفه ضد الاستلاب والمسخ، الذي هو من تجليات صراع الحضارات، الذي يريد البعض إنكاره خوفا من تغوّل الغرب بعد أحداث 11 شتمبر. ألم يَـنفِـر الطيب صالح من أن توصف أعماله بالعالمية حتى لو ترجمت إلى لغات أجنبية؟ حيث يرى أن العبرة باحترام العمل الأدبي لثقافة الشعب وأصالته، وتعبيره بصدق عن همومه التي هي في النهاية إنسانية.
   ومن فلسفة الطيب صالح نستخلص أن أبناء الجنوب أنداد لأبناء الشمال، لكن الجهل والظلم قد قضى بأن يظلوا متخلفين، يتصارعون داخل حدودهم وبين دولهم، ضمن أنموذج مشوه لنظام فصّله الاستعمار، وأدى إلى عقم في  السياسة ومسخ في الثقافة وترد في الاقتصاد، وتدمير للبيئة، لا خلاص منه إلا بابتكار نموذج محلي أصيل، قد يلتقي مع تجارب الغرب وتجارب الشرق، على أن يوصل إلى حكم ديمقراطي، منبعه الشعب، وقاعدته التداول السلمي على السلطة، ومبتغاه الحكم الرشيد والشفافية، يضمن المساواة والعدل، واحترام التعددية وحقوق الإنسان.
   إنكم  أيها الشباب في نادي القصة مدعوون إلى حمل الرسالة التي تركها الطيب صالح، عبر آثاره الخالدة، لتعبروا ـ بصدق ـ كما فعل هو ـ عن هموم شعبنا، وأن تنيروا له الطريق في صور أدبية أصيلة حتى ندخل القرن الحادي والعشرين، قرن كسر قيود التهميش والظلم، حيث لا منّة على الشعوب من حكامها بل تسابق للحكام على إرضاء الشعوب.
   إن انتفاض قطاعات واسعة من شباب الأمة العربية، على رأسهم شباب تونس ومصر، ليبشر بالخير، خاصة وأنهم رسخوا قواعد جديدة هي أن التغيير ممكن دون إراقة الدماء، ودون الفتنة بين الأغنياء والفقراء، أو بين أتباع الأديان، وفوق ذلك أن التغيير يتم دون إذن من القوى المهيمنة في العالم، بل حتى دون علمها.
   لقد أثبت شباب تونس ومصر أن شباب الأمة بخير، ودحضوا ما كان يروج عنه  من ضياع ولهث خلف المال والمتعة.
ذلكم نتاج تراكم ما خلفته الرؤية الثاقبة لكتّاب ومفكرين وفلاسفة وأدباء وروائيين وقصاصين، ورجال دين وسياسة، في طليعتهم الأديب الزاهد المسلم الطيب صالح، رحمه الله




بابا أحمد بن حمّه الأمين في ذمة الله

$
0
0

   انتقل إلى رحمة الله يوم الجمعة عاشر ربيع الأول الأستاذ بابا أحمد بن حمَه الأمين في مكة المكرمة حيث كان يجاور المسجد الحرام منذ سنة 1995، بعد مرض عانى منه خلال السنوات الأخيرة، فدفن بجوار أمه التي جاورت في نهاية خمسينات القرن الماضي وضريح أخيه لأمه، رحمهم الله جميعا، وأسكنهم فسيح جنانه، وألهم الأهل والمريدين والأصدقاء الصبر وحسن العزاء. إنا لله وإنا إليه راجعون.
   لقد أُصبت كغيري بالحزن العميق لفقدان علم بارز كرّس حياته للعلم وخدمة الناس، منذ نعومة أظافره وحتى آخر أيامه. ولد الفقيد سنة 1936 في الكرباله من ولاية البراكنه، لأبيه البكاي بن حمّه الأمين حفيد الشيخ سيد المختار الكبير الكنتي، ولأمه فاطمه بنت أبنو عمر الأبييريه. وقد فقد أباه صغيرا، لكن ذلك لم يفتّ في عزيمة الأم الصالحة التي ربته أحسن تربية، فحفظ القرءان الكريم في سن مبكرة، ثم نهل من معين حضرة الشيخ المربي سيدنا بن حمادي بن زين العابدين بن الشيخ سيد المختار، ومن هناك انتقل إلى بوتلميت.
ذكرياتي مع الفقيد
في سنة 1957 التقيته لأول مرة في بوتلميت، عندما وفدت للدراسة في معهدها العربي الإسلامي، الذي أنشأه الشيخ المصلح والداعية الكبير عبد الله بن الشيخ سيديا رحمه الله، بدعم من حكومة مستعمرة موريتانيا، لاستقبال الطلبة الموريتانيين وأبناء مستعمرات إفريقيا الغربية، قبل أن يتحول إلى مؤسسة وطنية بعد الاستقلال. 
    وبما أنه سبقني في الانتساب إلى المعهد، استقبلني بكل حرارة وغمرني منذ الوهلة الأولى بالعناية، متفانيا في خدمة الجميع، خاصة نحن الوافدين الجدد إلى الحياة المدنية، والدراسة في مؤسسة تختلف عما عهدناه في المحظرة من قراءة متن واحد، بينما كان المنهج الجديد غاية في التكثيف والصعوبة، إذ تحرص الإدارة على أن يستكمل الطالب في أربع سنوات المتون التي كانت تدرس في المحظرة خلال عشر سنوات،  مثل الألفية والكافية ولامية الأفعال ودواوين الشعر المعتمدة والعروض ومختصر خليل، إضافة إلى الحديث والأصول وصحيحي البخاري ومسلم وبعض كتب العقيدة، وقبل ذلك القرءان الكريم لمن لا يحفظه. ولم يكن بالمعهد من المراجع ما يكفي للطلبة، وهنا برز دور بابا أحمد الذي أعطاه الله موهبة في نسخ الكتب، فكان يوفر لعدد من الطلبة نسخا من المراجع المقررة مثل احمرار ابن بونه على الألفية، وطرة الحسن بن زين على اللامية، وغيرهما من أنظام وفتاوى العلماء الموريتانيين التي لم تكن قد طبعت؛ فتكاد لا تراه إلا منكبا على درسه أو ناصبا ركتبه اليمنى لنسخ كتاب، وساقُه مخضَبة بالمداد الأسود والأحمر. ويعود له الفضل في انتشار العديد من النصوص النادرة التي لم تكن متوفرة إلا في مكتبة أهل الشيخ سيديا، مثل مؤلفات الشيخ سيدي المختار الكبير وابنه الشيخ سيدي محمد. ولم يكن ذلك يمنعه – كآخرين - من القيام بنوبته في خدمة المجموعة، التي كانت في سنوات المعهد الأولى تعتمد في بعض جوانب حياتها على العمل الذاتي.
   وكان بابا أحمد في الوقت نفسه أثيرا لدى الأساتذة المدرسين، فقدمنا لهم ووفر علينا كلفة التأقلم، فاحتضننا معظمهم كالمرابط محمد عالي بن عدود أستاذنا في المختصر وابنه محمد يحيى أستاذنا في الألفية، وأحمد بن مولود بن داداه الذي يدرّسنا الشعر العربي والبلاغة، وغيرهم رحمهم الله جميعا. ومن ذلك اليوم ظل بابا أحمد أخا ناصحا وصديقا وفيا، رغم الفرقة التي فرضتها ظروف العمل، وأدت أحيانا إلى الابتعاد عن الوطن.
المعلم الباني
   بقينا معا حتى سنة 1960، لأنضمٌّ إلى الإذاعة، ويلتحق هو في العام التالي بالتعليم، فيتنقل داخل البلاد، معلما في الحوض وكيديماغا والعصابة ثم تكانت، حيث أصبح مدير مدرسة حلّة أولاد سيد الوافي المتنقلة أيام الترحال، ثم مديرا للمدرسة الابتدائية عند انتقال المجموعة إلى الرشيد؛ وهي فترة في غاية الصعوبة على سكان الوادي بل على تكانت والبلاد بشكل عام، لأنها بداية موجات الجفاف الذي أصاب الزرع والضرع، وشرد السكان؛  وأمام هذه الظروف القاسية ظهر معدن الرجل على حقيقته، من همة وصلابة؛ تحت ثوب من الوداعة الفطرية وطيب المعشر؛ إذ لا تراه إلا ضاحكا أو مبتسما، وسيطا بين الناس لا يستعصي عليه حل معضلة. فكان المعلم المجتهد والمدير المتنور، والمساعد النافع لأهله وقومه، يسير في مقدمتهم في معركتهم ضد الجهل والفقر والعزلة، وفي عملهم لتشييد حاضرة الرشيد الحديثة، بعد النزوح من البادية، باذلا علمه وجاهه وماله ليس في عمله الرسمي فقط، وإنما أيضا في المسجد ومدرسة ابن عامر، وحلقات التوجيه والإرشاد الدورية، وفي العمل الطوعي. 
   وظل سيّدي – كما يحلو للسكان أن يخاطبوه – قطب الرحى، الأب والأخ والصديق، لم يسجّل عليه في أي يوم انحياز في خلافات أو تبني موقف ناشز، أو تقاعس عن مكرمة أو بذل في أعطية أو مداراة؛ صَالحَ بأخلاقه العالية بين السكان والحكومة. إذ أن أهل الرشيد الذين نُكبت دشرتهم سنة 1908 ببطش الاحتلال - الذي ضربها بمدافع الميدان في سابقة لم تُعرف لغيرها في موريتانيا – عاشوا كالمطارَدين طيلة عقود الاحتلال، ينظرون إليه كعدو داهم، يحرّمون منافعه والاختلاط بممثليه، شاردين بدينهم في الصحاري والجبال. ولم تبذل الإدارة بعد الاستقلال جهدا لتغيير الصورة، وظل الناس مرتابين من ماهيتها، وهل هي سلطة مسلمة خالصة، أم بها شائبة من النصارى؟. وبتدينه الراسخ وسلوكه الملتزم جسد سيّدي – مدير مدرسة الحكومة - أول دليل قوي على أن شيئا قد تغير، وأن "ولاّت انْصارَ" قد انسحبوا معهم. فكانت تلك بداية لنظرة إيجابية إلى السلطة القائمة، مما جعل الناس يُقبلون على تسجيل أبنائهم وحتى بناتهم في المدرسة الرسمية، التي أصبحت إعدادية ثم ثانوية، وتخرج فيها العشرات، المسلحون بالمعرفة في مواجهة وطأة المشاكل نفسها: الفقر والجهل والعزلة، وكلهم يدينون للرجل بأفضاله.
  وظل بابا أحمد في الرشيد حتى سنة 1984 لينتقل إلى نواكشوط كمراقب في الثانوية، ثم باحثا في المعهد العالي للدراسات الإسلامية، متفرغا لنشاطه العلمي، الذي غذى به جل مقتنيات زاوية الشيخ سيد المختار من الكتب، حيث كان أحد مؤسسيها، ضمن عشرات المبادرات الخيرية التي كان حريصا على أن لا يغيب عنها.
   إن رحيل الفقيد يترك فراغا كبيرا في موريتانيا، وفي الرشيد بصورة خاصة، وعزاؤنا في ما له من مئاثر خالدة، وفي وجود أسرته الكريمة، التي تربت في كنفه، وتحت رعايته، فهي إن شاء الله خير خلف لخير سلف. 
 
محمد محمود ودادي  11 ربيع الأول 1433 – 4 فبراير 2012

8 مارس عيد المرأة

$
0
0

يحيي العالم اليوم 8 مارس عيد المرأة، الذي بدأ في موريتانيا الاحتفال به منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، وهي مناسبة يجب أن نتذكر فيها مكانة المرأة في هذا الكون، وهي التي نشأنا في رحمها، واحتضنتنا في أحشائها، وعلمتنا مكارم الأخلاق.
فلننحني إجلالا لأمهاتنا ونكرس أنفسنا لبرورهن والرفق بهن، وبأخواتنا وبناتنا، وأن نؤازرهن في معركة الحياة القاسية التي يخضنها بشجاعة وصبر وجلَد، ونعاملهن باحترام دون منة أو تعال.
 ويكفي من إعلاء شأن المرأة وشأن الذرية الصالحة التي تفي للأم بحقوقها قوله عز وجل في سورة الأحقاف {ووصّينا الإنسانَ بوالديه حُسنًا حَملته أمه كَرْها ووَضعَـتْه كَرها وحَمْله وفِصالُه ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أَشُدَه وبلغ أربعين سنة قال ربِّ أوْزِعنيَ أن أشكر نِعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والِدَيّ وأن أعمل صالحا تَرْضَاهُ وأصْلِح لي في ذُرّيتي إني تُبتُ إليك وإني من المسلمين، أُولائك الذي يُتقبّل منهمْ أحسنُ ما عملوا ويُتجاوزُ عن سيّئاتم وعْدَ الصِّدق الذي كانوا يُوعدون}

"أوراق" عن أژواد: الأولى/ تعريف/ محمد محمود ودادي

$
0
0

جمهورية مالي


استقلت باسم اتحاد مالي في 20 يونيه 1960 ثم أعلن الاستقلال من جديد في 20 شتنبر 1960 بعد الانفصال عن سنغال. تبلغ مساحتها 1240190 كلم 2 ( منها 822000 كلم2  في أژواد) وسكانها حوالي 11 مليون نسمة (منهم مليونان في أژواد)، هذه الدولة وريثة جزء كبير من إمبراطورية غانة، التي تأسست في القرنين 4و5 م في موريتانيا وعاصمتها كومبي صالح، قبل أن تسقط في أيدي المرابطين في القرن 11م، وهي أيضا وريثة إمبراطورية ملّي (مالي) (القرن14) قبل سقوطها على يد إمبراطورية صونغاي (القرن 15) ثم دمر دمر هذه الغزو المغربي (نهاية القرن 16).

أژواد



  
 تحد الإقليم من الشمال الجزائر ومن الشرق النيجر ومن الجنوب والجنوب الغربي نهر النيجر، وأراضي مالي، ومن الغرب موريتانيا. ومدنه الرئسية: ڴاوو (العاصمة)  تنبكتو (العاصمة الثقافية) كيدال، والثلاث هي عواصم الولايات التي يتشكل منها الإقليم اليوم حسب التقسيم الإداري لجمهورية مالي. واسم الإقليم أمازيغي، ربما مشتق من اسم نهر "زواد" الناضب، ويطلق أژواد على القسم المالي من الصحراء الكبرى، وأزواڴ على الجزء النيجري بما فيه حواضر طاوه وأڴادس.
  وتسكن الإقليم مجموعات الطوارق المنتشرون في كل الإقليم، إضافة إلى العرب ، وهم أساسا البرابيش في الغرب، وكنته في الوسط والجنوب، والصونغاي والفلان في الجنوب والجنوب الغربي، ويتحدث هؤلاء خمس لغات هي تماشق (الطوارق) الحسانية (العرب) الصونغائية أو كوروبورو (الصنونغاي) الفلانية ( إفلان). أما الموارد فظلت على مدى التاريخ تربية الماشية التي اضمحلت في العقود الماضية بسبب الجفاف والحروب، التي أجبرت أعدادا كبيرة من السكان على الهجرة. ويوجد مخزون نفطي غير محدد الحجم، كما يوجد أورانيوم ومجموعة من المعادن المختلفة، لكنها غير مستغلة. ويعتمد السكان المجاورون للنهر في رأس الماء والعقفة وفي ضفته اليمنى في ڴورمه على زراعة القليل من أنواع الذرة والخضروات، والصيد النهري، لمن سكان المراكز الصحراوية يعتمدون أساسا على ما يبعثه أبناؤهم من الخارج وعلى موارد التهريب، الذي تمتهنه مجموعات جعلت من الإقليم معبرا أيضا لتجارة المخدرات، التي تدر عليهم موارد كبيرة.
لمحة تاريخية

  يُجمع المؤرخون على أن أول من أقام مدينة ڴاوو ثم تينبكتو هم قبائل لمطه وبعض من لمتونة، وقبيلة تارڴه، ومن هذه المجموعات يتألف شعب أژواد الأمازيغي، الذي تعرب البعض منه ليصبح في عداد القبائل المستعربه مثل كلنصر الغربيين، وبعض المجموعات في كنته والبرابيش. أما الهجرة العربية الحديثة فكانت في نهاية القرن 15 على أيدي البرابيش القادمين من شمال موريتانيا عن طريق آدرار والظهر، وهم في أغلبيتهم من قبائل بني حسان، حيث تنحدر الأرومة الرئيسية من حمُّ بن حسان، وعبد الرحمن بن حسان (الرحامنه). وتبعهم الكنتيون في سنة 1130هـ 1717م انطلاقا من الساقية الحمراء، عبر تْوات والحنك وأرڴشاش.
  تحدث الرحالة والإخباريون عن أژواد في بداية القرن 14م كإقليم يتمتع بحكم ذاتي تابع مع صحرائه لإمبراطورية مالي، لكنها فقدت السيادة عليه في  حدود 1433م؛ وفي عام 1591 احتل سلطان المغرب أحمد الذهبي الإقليم وحواضره بعد أن قضى على إمبراطورية الصونغاي المسلمة؛ ومن ذلك التاريخ لم يخضع أژواد لسيطرة مركزية منتظمة حتى وصول الاستعمار الفرنسي عام 1893، والذي حيث جوبه بمقاومة شديدة من الطوارق والعرب.

موريتانيا وأژواد


    ظل شعب البيظان على طول تاريخه يعتبر أژواد امتدادا له، فقبل دخول الإسلام كان موطنا لقبائل البربر التي يعود إليها  سكانه من التوارق، وبعض أطراف صنهاجة، التي ينتمي إلى فروعها المختلفة غالبية سكان غرب الصحراء وشمالها، ومع دخول الإسلام وانتشاره، انتمت أژواد أو أطراف واسعة منها لدولة الإسلام الكبرى "المرابطون" في الطرف الغربي، فانضوت قبائل هذه المنطقة الشاسعة، تحت لواء الإسلام، وازداد التمازج بين أبنائها، ووقعت الهجرات المتبادلة، فشرّق البعض وغرَب الآخر، لنرى في موريتانيا الحالية أقواما من أصول تارقية أژوادية، وأخرى لمتونية في الشرق.  ثم جاء الانتشار العربي في الصحراء الكبرى، ليعم كل أجزائها حتى أژواد، وتزداد الروابط قوة، ويتعزز التواصل، الذي بلغ أوجه بعلاقات حواضر موريتانيا القديمة بقواعد أژواد الكبرى.
  هذه العوامل، وغيرُها جعلت من أژواد وموريتانيا صنوان، يكمل أحدهما الآخر، على طول المساحة الشاسعة التي يحتلانها في الصحراء والغرب الإفريقيين؛ وحتى في عصور غياب الدولة المركزية، ظلت العلاقات قائمة، بل نشطة بين  الطرفين، ترجح كفتُها أحيانا لأژواد، خاصة بعدما تدهورت أوضاع مدن القوافل الغربية: ودان وشينقط وتيشيت وولاته لصالح تنبكتو وڴاوو، الأژواديتين، إذ أصبحت الأولى أشهر حاضرة إسلامية في الصحراء الكبرى وجوارها، بفضل مدارسها وعلمائها الأجلاء الذين كان من أشهرهم أحمد بابا بن محمد إقيت الصنهاجي، الذي انتشر صيته حتى بلغ الشمال الإفريقي، أيام محنته، عند سقوط دولة السونغاي في مستهل القرن 11 هـ (نهاية القرن 16م). ثم جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان (18و19م) لتختطف أژواد الأضواء من جديد بظهور الشيخ سيدي المختار الكبير، وخلفائه، الذين صاروا قبلة للبيظان عامة، وللطامحين إلى الارتواء من العلم، وهديه في الغرب الإسلامي، حتى تشاد شرقا والمحيط الأطلسي غربا، ومن أدغال جنوب الصحراء جنوبا إلى تخوم الجزائر والمغرب شمالا، مما أعاد لهذا الحيز إشعاعه الثقافي والديني، وعزز اللحمة بين الصنوين الشرقي والغربي، فحُفرت أژواد في الذاكرة الجمعية، كامتداد لثقافة البيظان وجزء من تاريخهم. يتواصل

"اوراق" عن أزواد: الثانية/ فشل مشروع المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية/محمد محمود ودادي

$
0
0


  كانت أزواد إلى جانب إشعاعها العلمي، مصدرا لأهم بضاعة تجارية في القرون الوسطى، وحتى نهايات القرن العشرين، باحتضان طرفها الشمالي الغربي لمعادن الملح في تغازة، ثم تاودني، وأجزائها الغربية لمعدن الذهب و كذلك الخرز" الحب الحر"المرغوب في الحيز الصحراوي والذي هو بقايا من حلي مواطني الحضارات القديمة حافظ على بريقه بفضل طمر الرمال، ويشكل حتى اليوم مصدرا مهما للتجارة البينية. واعترى هذه المكانة على امتداد القرون الأربعة الأخيرة مد وجزر، ارتبط بمآلات نهر النيجر، ومراكزه المؤثرة مثل ڴاوو، تنبكتو، وڴُندام حتى موبتي وچنى، فينزل استقرارها بردا وسلاما على الإقليم، والعكس صحيح. وقد شهد القرن التاسع عشر على الخصوص موجات اضطراب، بعد اضمحلال حكم الرماة شبه المركزي في تنبكتو، مما أدى إلى ظهور زعامات محلية دينية وسياسية،كان آخرها دولة ماسينا الفلاّنية بقيادة شيخُ أحمُد، التي بسطت سلطتها على عقفة النهر حتى تنبكتو، بمباركة زعماء الحضرة الكنتية وعلى رأسهم الشيخ سيدي البكاي بن الشيخ سيدي محمد، إلى أن أسقطها خلفاء الحاج عمر، قبل تعرض الإقليم كله للاحتلال الفرنسي، ليبدأ القهر الحضاري والاستلاب والثقافي.
وقد استخدم المحتلون القوة العسكرية المفرطة ضد المقاومة مما أدى إلى معاناة شديدة من أخطرها التشرد في المناطق المجاورة مثل النيجر قبل احتلاله، وتشاد وتونس وليبيا، حيث تجاوز المهاجرون الجزائر الخاضعة للقبضة الفرنسية الحديدية، وهكذا عانى أزواد أكثر مما عانت جل المناطق المماثلة، عقابا على مقاومة شرائح كثيرة منه، بقيادة زعمائه من التوارق والعرب، الذين امتشقوا السيف والبندقية ثلاثين سنة، فخلدوا الشجاعة والإيباء الذي عُرف عن أجدادهم الملثمين في الصحراء وفي فتوحات المرابطين في الغرب والشمال الإفريقي والأندلس، فكانوا نبراسا للأحفاد يضيء طريق مقاومتهم الدينية والثقافية، كما في الصنو الغربي: موريتانيا.

  ومع عشرينات القرن الماضي عاد معظم المهّجرين إلى وطنهم، واستأنفوا حياتهم الطبيعية، وأنشطتهم التقليدية في الرعي والتجارة، خاصة منها البضاعة التي خبروها طوال قرون وهي الملح، الذي يعتمد عليه سكان جنوب النهر حتى كوت ديفوار، واستعادوا مجالات ترحالهم التاريخية، يدخلون - دون أوراق أو مراقبة - الجزائر والنيجر وموريتانيا، ويقطعون النهر إلى فلتا العليا (بوركينا فاصو) وكوت ديفوار للتزود بحاجاتهم من الغذاء والمواد الزراعية والأقمشة، ليعودوا إلى عزلتهم في صحرائهم،هروبا بدينهم من المحتل القابع في المدن والمراكز الحضرية، والذي لا يعنيه من أمر البدو إلا ما يتصل بضرورات أمنه، واستيفاء إتاواته عن الماشية والتجارة، لا يدركون ما يبيّت من خطط حول مستقبلهم؛ باستثناء أفراد من التجار والوجهاء ممن توكل إليهم مهمة تسوية مشاكلهم في المراكز الحضرية، التي تعدّ على رؤوس الأصابع؛ حيث توجد إدارة لا يعرفون لغتها الفرنسية، ولا يشتركون مع أهلها في الكثير من العادات والتقاليد، رغم التعايش ضمن الحيز الجغرافي المشترك، ووحدة الدين.

   وعندما حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها بدأت الدول الأوروبية تعيد النظر في مستقبل علاقاتها مع مستعمراتها، لضرورات إستراتيجية مرتبطة بالتحولات التي يشهدها العالم، ولصيانة مصالحها وضمان مكانتها، فأعادت النظر في وضع المستعمرات، فألغت بعضها وضمته لأخرى، وقلصت من حجم البعض لصالح الآخر، وفي كل ذلك ارتكبت أخطاء فادحة،منها عدم مراعاة الأبعاد الجغرافية والإنسانية (الدين والثقافة) ولا الموارد التي يمكنها أن تضمن البقاء لهذه الكيانات، مما جعل العديد منها مصطنعا، ما لبث أن أصبح مصدرا دائما للاضطرابات والفتن، تدارك الاستعمار بعضه في الجزء الغربي من تراب البيظان – في الأربعينات - بالتراجع عن ضم الحوض للسودان وإعادة أجزاء كبيرة منه لأصله وفرعه موريتانيا.

  وفي خضم هذه التطورات بدأ الوعي يتسرب إلى النخبة من الشيوخ والوجهاء والتجار في أزواد، ومعه إدراك واقعهم كجزء من مستعمرة السودان، التي لم تعد تضم إقليم الحوض، الذي كان "يوسّع" عليهم،فأصبحوا أقلية لا وزن لها أمام الهيمنة الكاسحة لسكان الجنوب والغرب من الَكْور، الذين كان الاستعمار قد بذل جهوده لعزلهم عن إرثهم الحضاري والثقافي، بحربه على اللغة العربية  والحرف العربي الذي كان سائدا في القارة السمراء بأسرها وعلى الخصوص في الغرب الإفريقي، تكتب به أكثر من 30 لغة، منها اللغات الرئيسية كالفلانية والماندينڴية والهوساتية والزرماتية والسواحيلية واليوروباوية لتكون العربية رابطا بين الناطقين بهذه اللغات، وبينهم والمسلمين كافة، فكانت تلك أولى التحديات الذي جاء الاستعمار لرفعها، ولم يغادر إلا بعد أن انتصر فيها  وغرق الناس في بحر من التنافر، أذكى الصراعات المتصاعدة.
وقد عبر الوجهاء الأزواديون بما يملكون من جهد عن قلقهم على مستقبلهم للإدارة، التي كانت ما تزال تحت السيطرة المباشرة للفرنسيين، لكنهم كانوا غير مبالين كثيرا بما يصدر عن أفراد، لا تدعمهم تجمعات حضرية، ذات وزن ضاغط. وأقصى ما كانوا يفعلونه "طمأنتهم"  "بأنهم سيظلون أحرارا في بواديهم، كما كانوا، ولن تكون لأحد بعد الفرنسيين سيطرة عليهم" (إشارة إلى حكام الكور)!. إلا أن تسارع المسيرة إلى الاستقلال والتمهيد لها بالحكم الذاتي، بدأ يرسخ الأمر الواقع، وهي كون أزواد فضاءً مكمّلا لمستعمرة السودان، التي يقع ثقلها في الغرب، حول أعالي نهري النيجر والسنغال، بحواضره التاريخية ذات الكثافة السكانية، والمصادر الزراعة والمائية، والتي حظي سكانها بالتمدرس والخدمات، وأصبحوا السادة الجدد، بيدهم الإدارة والجيش والثروة. بينما أهملت فرنسا طوال احتلالها أزواد، رغم موقعه الاستراتيجي وثرواته المعدنية والنفطية والغازية، وتميزه الثقافي بلغاته ونمط عيشه،مما يؤله ليتمتع بحكم إداري يضمن تسييرا ذاتيا،ضمن مستعمرة السودان (مالي).

  وعوضت عن ذلك بإطلاق بارقة "أمل" بثتها في السكان سنة 1957، مرتبطة بخططها لوقف حرب التحرير الجزائرية، الذي تفتَقت عنه عبقرية ساستها وهو مشروع يقسّم الجزائر إلى شطرين: الشاطئ، حيث الكثافة السكانية، وجزء من الوسط والجنوب والشرق، فتَمنح للأول الاستقلال، ويبقي الآخر تحت الحكم الفرنسي، بواسطة كيان جديد سمته "المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية"O.C.R.S.)) تضم غالبية مساحة الصحراء الجزائرية، بمدنها الكبرى مثل بشار وتندوف، وحقول النفط ومناطق التجارب الذرية، والأراضي المأهولة بالطوارق والعرب في النيجر (طاوه وأزواڴ) ومالي (أزواد مع ريف مدينتي تنبكتو وڴاوو) ومواطن التوبُّو والقُرعان في شمال تشاد (جميع مقاطعة بلتيم، ومثلث بوركو– أنّدي- تيبستي) (قانون 10 يناير 1958) وعينت للكيان الجديد إدارة تنفيذية ومجلسا استشاريا، وتركت الباب مشرّعا للدول والمنظمات التي تريد التعاون مع الكيان الوليد؛ الذي سوقته للطوارق والتوبُّو والعرب، الذين يشكلون أقليات في مستعمراتها ذات الغالبية الْكَوْرية، فوجدت لدى الكثيرين من زعمائهم آذانا صاغية، على أمل أن يستعيدوا حقوقهم ومكانتهم التي فقدوها، في ظل الاستعمار؛ لكن الثوار الجزائريين رفضوا أي مساس بأرضهم، كما عارضه المختار بن داداه، وموديبو كيتا رئيس مالي، لكونه سيقتطع منه أزواد، أما رئيس النيجر هامني چوري وفرانصوا تنبلباي في تشاد، فقد انحنيا حتى تمر العاصفة، لأنهما لا يريدان إغضاب الجنرال دڴول، هذا في وقت أيدت المشروع دول في المغرب العربي وغرب إفريقيا أو تعاطفت معه، انطلاقا من حسابات ذاتية، لكن ذلك لم يَحلْ دون موت المشروع نهائيا (قانون تصفيته 26 مايه سنة 1963.).
المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية

وهكذا خاب الأمل الذي علّقه زعماء أزواد على المشروع، ولم تفلح محاولاتهم في ثني المختار بن داداه عن موقفه، الذي اعتبروه تقصيرا في حق شعب أزواد من صنوه المعوّل عليه، ولم تقنعهم حجة رئيس حكومة الاستقلال الداخلي الموريتانية بـ "أنه لن يؤيد محاولة فرنسا طعن الثورة الجزائرية من الخلف بإجهاض مشروعها عبر اقتطاع أجزاء من أرضها" في وقت يكاد الجزائريون يرون بالعين دولتهم الحرة تطل على العالم من الباب الواسع، بصحرائها وثرواتها؛ بينما بقي بصيص أمل وهو انضمام أزواد لموريتانيا، قبل أن يعلن استقلاها واستقلال مالي، وتعزز الأمل بتصريحات المختار باعتبار "أزواد والصحراء الغربية جناحي موريتانيا" (خطاب أطار 1957) التي استهجنها الفرنسيون والإسبانيون، وأغضبت موديبو كيتا وجعلته ينضم إلى المعسكر المناوئ لاستقلال موريتانيا،فاحتضن "جيش تحرير موريتانيا" في باماكو، وصوتَ ضد دخولها الأمم المتحدة؛ واستمر يضغط بكل الوسائل على نواكشوط، خاصة بترسيم الحدود المتداخلة بين الدولتين، التي تركها الاستعمار في وضع غامض كالعادة؛حتى قبل المختار في قمة خاَيْ مع موديبُو معظم مطالبه، مدركا أن لا قبل له بمواجهة جاريْه الشمالي والجنوبي في آن واحد؛وانكفأت موريتانيا على ذاتها تصارع من أجل البقاء، محتمية باعتراف ومؤازرة غالبية الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية، (وتونس من المغرب العربي) ثم بمنظمة الوحدة الإفريقية التي جعلت من احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، قضية مقدسة. واتضح أن الدعوة إلى الوحدة مع أزواد لم تكن إلا تعبيرا عن فورة عاطفية لزعيم دولة البيظان الغارقين في أحلامهم بإعادة أمجادهم في مجالهم الجغرافي والثقافي، حتى ولو كان دون تحقيقها آنذاك خرط القتاد.يتواصل.

"أوراق" عن أژواد/ الثالثة/ النهج الاشتراكي: رفض في مالي وثورة في أزواد

$
0
0

فشل اتحاد مالي وإعلان الاستقلال


في 4 إبريل 1959 حدث تطور مهم هو قيام اتحاد باسم مالي بين سنغال والسودان وحدهما، بينما كان الطموح ضم مستعمرات فرنسا في الغرب الإفريقي، التي قبل البعض من زعمائها الفكرة في مؤتمر بماكو من العام نفسه، كفلتا العليا وداهومى، بينما رفضتها موريتانيا لأسباب وجيهة، تتعلق بتركيبتها السكانية وموقعها الجغرافي الذي يحتم عليها مراعاة التوازن في علاقاتها بشمال إفريقيا وغربها، وهو المنطق الذي أقنع به المختار بن داداه حليفه وصديقه سيد المختار بن يحيى انچاي، مما جر عليه غضب قادة الدولة الجديدة.  أما هوفويت بوانيى فكان ضد الفكرة أصلا، مما حدا بواغدڴو وكوتونو إلى التراجع باكرا عن موقفيهما، ويكونان مع أبدجان ونيامى مجموعة دول الوفاق. وقد أعلن استقلال الدولة الجديدة في 20 يونيه 1960، لكن عقدها أنفرط أقل من شهرين بعد ذلك، وأعلنت سنغال الانفصال، وأبعدت موديبو كيتا بطريقة مذلة، وكذلك الوزراء السودانيين في الحكومة الاتحادية والضباط وكبار الموظفين بالقطار إلى بماكو، يوم 21 أغشت، ثم يعلن استقلال السودان من جديد في 20 شتنبر 1960، باسم مالي. 
  لم يكن في أژواد أي أثر للاحتفال بهذه المناسبة، لأن الغالبية تعيش في عالمها المنعزل، أما القلة المتابعة للأحداث من الوجهاء فكان صدمة لهم، لأنهم كانوا يتوقعون إقامة المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية التي مُنّوا بالانضمام إليها والانفصال عن السودان، لتتحقق مطالبهم الوطنية في دولة خاصة بطوارق الصحراء الكبرى والمجموعات المهمشة ذات الأصول الأمازيغية في شمال تشاد.
  ومما يؤكد الاتهامات لفرنسا بأن مشروعها بتكوين موطن للأقليات الأمازيغية في الصحراء لم يكن إلا للإبقاء على الجزء الأكبر من الجزائر، كونها لم تحرك ساكنا خلال فترة الاحتلال، لتنصف تلك الأقليات وتعتني بأقاليمها التي تشكل أحيانا مساحاتها الجغرافية أغلبية أراضي الدول المعنية كأژواد، الذي ظل مربوطا بالسودان، لا يتمتع بما للأقاليم الأخرى من حظوة في التنمية والخدمات، ولا هو إقليم متميز بحكم إداري يضمن له تسيير شؤونه الذاتية، ويراعي خصوصياته الجغرافية والثقافية ونمط عيشه، ويعتني بتنمية موارده.
وفور قيام الدولة الجديدة تنمرت على أهل أژواد، في سعي واضح لتقتل في وجدانهم أي أمل في التميز عن بقية أقاليمها؛ فشددت قبضتها على الأرض والسكان، واستهدفت خصوصيتهم الثقافية، فشرعت في محاربة اللغة العربية، بمنع أي دعم حكومي لتعليمها في المدارس الرسمية، وضايقت المدارس الأهلية من كتاتيب ومحاظر، حتى التي تتمتع بشهرة إقليمية في جوامع ومساجد تنبكتو وڴاوو، أو في المراكز والبوادي، وبذلك كانت الحارس الأمين لمشروع فرنسا بالقضاء على اللغة العربية والحرف العربي، الذي كان أحد ركائز السياسة الفرنسية في مستعمراتها ، وكان ذلك سببا رئيسيا في التنافر بين السكان والأجناس الذين وحدهم على مدى التاريخ الإسلام واللغة العربية وحرفها. وقد ألغت السلطات الرسمية اسم أژواد من الأدبيات الإدارية والسياسية، ووزعت الإقليم إلى ولايتين ثم ثلاث، أسماؤها أرقام متسلسلة.
 
  
موديبو كيتا يستعرض شباب حزبه
 
 أصبح تطبيق القرارات التي اتخذها المؤتمر الطارئ لحزب الاتحاد السوداني الحاكم نهاية 1960 باعتماد الاشتراكية نهجا سياسيا، فتشكلت فورا شركات عمومية تسيطر على الاقتصاد والتجارة، فهيمنت الدولة على كل الأنشطة الاقتصادية من زراعة وتجارة وتنمية ماشية. وشرعت في تطبيق ذلك على البدو الرحل، فعبأت موظفي الإدارة المحلية وشباب الحزب لجمع مخيماتهم في أماكن قريبة من المراكز الحضرية، لتسجل في دواوينها المواشي وملاكها، بعد أن كان الأمر في العهد الفرنسي مجرد إقرار المالك بجزء يسير من مواشيه، يدفع عنه العشر، وتبع ذلك قرار أكثر غباءً، وهو إخضاع تجارة الماشية مع الدول المجاورة، وحتى مع بعض ولايات مالي الأخرى، لأذون خاصة، تحدد عددها ونوعها.
  وقد ظهرت على الفور معارضة بعض السياسيين والتجار والمزارعين لهذا النهج، ومن أبرزهم زعيما حزبين صغيرين يرأسهما اثنان من الزعماء السياسيين هما فيلي دابو سيسوكو، وحمادون ديكو، والتاجر قاسٌم تورى مما أدى بهم إلى الاعتقال، ثم الاغتيال، واشتد القمع مع اتساع المعارضة ليشمل التجار والمزارعين والمنمين، في مالي كلها، وكان لأژواد نصيبه، حيث تمت مضايقة تجار تنبكتو المنتشرين في المدن الرئيسية المالية، قبل أن تؤمم ممتلكاتهم أو تخضع للرقابة.
  وما أن حلت سنة 1963 حتى وصل أژواد ما حل بمالي الأخرى، من خنق للحريات السياسية والكساد الاقتصادي، وتدهور أوضاع البادية التي زادها حدة شح الأمطار الذي كان مقدمة لموجات الجفاف التي ضربت أژواد ومعظم مناطق الساحل والصحراء، مع تبخر مشروع المناطق الصحراوية نهائيا بعدما سكّن الخواطر فترة من الزمن، واستقلت دول الساحل ضمن حدودها الموروثة عن الاستعمار، وبسطت الجزائر سيادتها على صحرائها الشاسعة. وقد عبر عن حالة اليأس هذه بعض الزعماء الأژواديين الذين خاضوا معركة حصول أژواد على وضع سياسي وإداري يخرجه من محنته، ويضمن للسكان كل حقوقهم، معتبرين أن فرنسا قد خانتهم. وكان أبرز تلك الشخصيات محمد آعْلي بن الطاهر الأنصاري، وهو شخصية سياسية من الطراز الأول، ينتمي إلى قبيلة كلنصر، كرّس حياته لقضيته، فزار مع موريتانيا بعض الدول العربية، مثل الجزائر والمغرب وليبيا ومصر والسعودية، والتقى بزعمائها، مناشدا إياهم دعمه في حق أژواد في الخروج من قبضة الحكم المالي المتشدد، لكنه اصطدم بجدار من التحفظ والخوف لدى الأقربين، وجهل عرب المشرق بالقارة الإفريقية البعيدة عن مجالهم التقليدي كالسودان والحبشة وما جاورها .

ثورة في أزواد وقمع وحشي

  نتيجة للحالة المأسوية في الإقليم انطلقت احتجاجات عديدة في المدن والبوادي شارك فيها شباب ورجال، فواجهتها السلطات بالقمع والاعتقال الذي لاقوا فيه أنواع التنكيل، ولم تجد شفاعة رؤساء القبائل والوجهاء، لإطلاق سراحهم بل نقلوا إلى سجن كيدال سيئ الصيت، ليجدوا أمامهم معتقلين من سياسيي مالي البارزين، المعارضين للنظام، فعم الغضب ربوع أژواد، واندلعت ثورة 1963 التي قادها الطوارق، وخاصة أبناء قبيلة إفوُقاس المعروفة بقوة الشكيمة ورفض الضيم، وكان أحد رموزها انتالّه آڴ الطاهر سليل إحدى أهم أسرهم، فسيطروا على حاميات معظم مناطق الشمال الشرقي ذات التضاريس الجغرافية الوعرة كآدرار إفوقاس، وتلك الموجودة في الشمال الغربي من بوجبيه نحو تاودني حتى الحدود الجزائرية. وقد لقيت الثورة تعاطفا كبيرا من جميع السكان من طوارق وعرب، فانضمت إليها أعداد مهمة من الشباب، وأنهكوا خلال أشهر قليلة القوات المالية، باعتمادهم تكتيكات حرب العصابات، التي أبدعوا فيها، معتمدين على معرفتهم الجيدة للأرض وتعاطف السكان بشتى طوائفهم.
  واعتبر موديبو كيتا أن هدف ثورة أژواد هو انفصال الإقليم، بدعم من الخارج، لأسباب عنصرية أو لزعزعة النظام، فاعتبر من واجبه سحقها بدون هوادة، مما جعل المؤرخين يعتبرونها أكثر قسوة من تلك التي شنها الفرنسيون على مجاهدي المنطقة إبان احتلالها في القرن 19. وعلى الفور عبّأ موارد البلاد المالية، وشكل كتيبة تضم الوحدات المقاتلة الأساسية التي تركتها فرنسا وعلى رأسها القوات المحمولة (المظلات) التي صارت أفضل كتيبة ضمن جيش الدولة الوليدة، وقد أبلت بلاء حسنا في الكونغو عندما أُرسلت إليه سنة 1961 ضمن قوات الأمم المتحدة، رغم أنها فشلت في حماية پاتريس لومبا أحد قادة الاتجاه الثوري الاشتراكي الإفريقي، الذي ينتمي إليه موديبو كيتا.
  وقد تولى قيادة هذه القوة النقيب "بازاني" وهو ضابط شاب انخرط باكرا في قوات النخبة الفرنسية، وشارك سنوات عدة في حرب الجزائر ضد المجاهدين، حيث اعتبرته فرنسا من الأبطال ومنحته أرفع وسام للشجاعة، كما أنه يتمتع بخبرة كبيرة في القتال بالمناطق الجبلية والصحراوية مسرح تحركه الجديد؛ وقد اختار معه في قيادته مجموعة من الضباط وصف الضباط والجنود الذين خبرهم في القوات الفرنسية ثم في الكونغو، والذين لا يعصون له أمرا، وأُعْطي جميع الصلاحيات، بحيث لا يعود في قراراته إلى رئيس أركان الجيش ولا إلى وزير الدفاع، مما شكل سابقة قوبلت بتذمر من المؤسسة العسكرية .
  وكان أول قرار يتخذه القائد الجديد الذي تسمى بأسد الصحراء عزل المنطقة الشمالية التي تجري فيها العمليات بخط وهمي اعتبره أحمر، يلامس دشرة كيدال، ويمتد ف الجنوب الشرقي حتى حدود النيجر، وفي الشمال الغربي حتى حدود الجزائر وموريتانيا، وأمر السكان الرحل بإخلاء هذا الحيز خلال شهرين، والاستقرار جنوبه؛ ودخل في معارك طاحنة مع الثوار الذين انتصروا عليه في معظم المعارك، مما جعله يلجأ إلى التكتيك الذي خبره في حرب الجزائر، وخاصة منه التنكيل بسكان المخيمات؛ والتعذيب الممنهج الذي فاق في قسوته – أحيانا - ما تعلمه النقيب في قوات المظلات الفرنسية مع البدو والمزارعين الجزائريين. وأدت به الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواته من جراء الكمائن، إلى ابتكار صنوف من العذاب لم تخطر ببال، منها "إرغام المتهمين بممالأة الثوار بالسير مسافات شاسعة على الأقدام، في لظى حر الصحراء وتحت شمسها اللافحة، حتى الإشراف على الهلاك من شدة الإنهاك والعطش، فيقدموا لهم أواني بها بنزين يتصورونه ماء، فيكرعون فيه حتى يبتلعوا جرعات منه، وإذا لم يعترفوا بالتهم تصب عليهم بقية البنزين، وتوقد فيهم النار، فيتحولون إلى عبوات شاردة، يطلقون الصراخ، في مشهد لا يمكن لبشر أن يتحمله"  وكان نصيب نساء أژواد المتهمات باستدراج ضباط الجيش حتى يتمكن منهم الثوار، ضربا آخر مبتكرا من الوحشية "فقد تلقى ضابط تهنئة أسد الصحراء على أنه غسل يديه بدم ساخن لسيدة متهمة بالتعاون مع الثوار، عندما وجدها في أحد معاقلهم ". يتواصل

"أوراق" عن أزواد /الرابعة/ موديبو كيتا: زعامة على جثث رجال الدين والسياسة

$
0
0

  كانت سنتا 1963 و1964 فاصلتين في تكريس النظام الاشتراكي نهجها لمالي، وموديبو كيتا قائدا أوحد له، وزعيما إقليميا، بعد أن صالح كلا من المختار بن داداه (بإغلاق مقرات "جيش تحرير موريتانيا" وإبعاد زعيمه) واليوبولد صينغور، وموريس ياميوڴو، الذين خاصمهما طويلا بسبب رفضهما الاستمرار في مشروع الوحدة بينهم، وظل يعتبرهم عملاء لفرنسا والدول الاستعمارية، بينما اختار هو التحالف مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، ليصبح أحد أركان نادي الزعماء الثوريين في القارة السمراء (عبد الناصر، أحمد بن بله، كوامي نكروما، سيكو تورى).
  وساقت له الأقدار فرصة سطع بها نجمه، عندما اختارته منظمة الوحدة الإفريقية وسيطا - إلى جانب الإمبراطور هيلى سيلاسي – في النزاع الحدودي المباغت الذي اندلع بين الجزائر والمغرب في 8 أكتوبر 1963، وسُمي حرب الرمال، واستمر ثلاثة أسابيع. وقد نجح الوسطاء في جمع  الملك الحسن الثاني، والرئيس أحمد بن بلّه في باماكو مع نهاية السنة، وهو ما استغله الرئيس المالي دبلوماسيا وإعلاميا، حتى أصبح في أعين الكثيرين أحد حكماء المنظمة التي كانت في أمس الحاجة لكسب الصدقية بعد مولدها العسير، قبل ذلك بعدة أشهر في أديس أبابا؛ حيث كان على رأس أهدافها - مع استكمال تحرير القارة - تحقيق الاستقرار والنمو، الذي كان مستحيلا في ظل الحرائق التي تندلع هنا وهناك بين دولها، التي ترك لها الاستعمار حدودا، شكلت ألغاما كانت تفجر بين الحين والآخر نزاعات خطيرة.
  وكانت الثمرة المباشرة لهذا النجاح في الجمع بين الجارين توطيد علاقاته بهما، وكسبهما إلى جانبه في محاربته لثوار أزواد، حيث قبلتا التخلص من ثوار أزواد أو مناصريهم الموجودين في أراضيهما، فسلمت الجزائر مجموعة منهم برئاسة قائدهم انتالّه آڴ الطاهر، وسلمت المغرب محمد آعلي آك الطاهر، ليوضعوا في السجن طيلة حكم موديبو كيتا، وجزء من فترة موسى تراورى ؛ وتحقق لباماكو ما كانت تحتاجه من تأييد، خاصة من دول الشمال الإفريقي الأقرب إلى أزواد جغرافيا وعرقيا وثقافيا، واطمأنت إلى أنها قادرة على استئصال المعارضة السياسية في الداخل، والثورة الأزوادية، وبذلك تكون في مأمن من الضغوط الخارجية.
وهكذا واصلت كتيبة النقيب "بازاني"  في أزواد مطاردة الثوار في المناطق التي ينشطون فيها كثيرا بآدرار إيفوقاس والجبال المتاخمة للجزائر والنيجر، ونجح إلى حد كبير في عزلهم عن مصادر تموينهم الدائمة، وهي مخيمات البدو، التي حاصرها الجيش في مجال ضيق قرب دشرتي كيدال ومنكّه، أو أبعدها إلى ضفة نهر النيجر، حيث الكثافة السكانية وسهولة الرقابة، إضافة إلى ما زرعه في نفوس السكان المسالمين من خوف نتيجة القمع الوحشي.
  ظل "أسد الصحراء" في حيرة من أمره أمام العجز عن القضاء على المجموعات المتحركة الباقية من الثوار، والتي تحرمه من كسب المعركة وإعلان الانتصار، رغم التعزيزات التي أُرسلت له، فتلقى التوبيخ من قيادته العليا، مما زاده شراسة ووحشية في التعامل مع السكان. وخضع للرأي الذي ظل سحرته يحاولون إقناعه به، وهو أن مفتاح نصره يكمن في القضاء على شيخ دين ضرير تقيم حلته بين المخيمات البدوية التي ينتمي إليها معظم الثوار، وأنه مَنْ يمنع الجيش من الوصول إلى معاقلهم لأنهم محصنون بحكمة الاستتار التي يُرقيهم بها.

"يوم النصر العظيم"

أخذ "أسد الصحراء" بالنصيحة وقرر التخلص من الشيخ، فعبأ وحدة عسكرية مؤللة، ضمت أشد رجاله بأسا من ضباط وجنود، إلى حلة الشيخ فحاصروها، وجمع الرجال والنساء تحت تهديد السلاح، ثم اتجهوا إلى خيمته، التي وجدوا فيها بعض أبنائه بقيادة أكبرهم سيدْ مْحمد ومجموعة من المريدين، الذين تحفزوا لمواجهة المعتدين، لكن الشيخ نهرهم قائلا "لا طائل من وراء ما تريدون، هذه إرادة الله التي لا مرد لها، ولتعتنوا بأهلكم وعيالكم وحلّتكم"؛ وباشر الجنود نقله دون أن يشرحوا أسباب الاعتقال أو يتركوا لأحد من أفراد أسرته فرصة مرافقته، أو اصطحاب بعض متعلقاته.
  وبعد ساعات من السير وصلت القافلة إلى مقر القيادة، فأنزلوا الأسير، واحتجزوه في مكان ضيق، دون أن توجه إليه أية أسئلة، في انتظار الوقت المحدد لخروجه "حيث كان النقيب قد بعث رسله لإبلاغ سكان كيدال والأحياء البدوية المحصورة حولها بالتجمع في الساحة العمومية، في يوم موعود، لحضور حفل خاص" . وعندما اكتمل الحشد، تحيط بجنباته قوات مدججة بالسلاح خرج "أسد الصحراء" بلباس الميدان، يداعب بيده خيزرانة القيادة، ويحف به حراسه وأركان حربه. "وأمام الجمهور، وفي يوم مشمس (سنة 1963) أمر بوضع حبل المشنقة في رقبة الشيخ ليعلق على عمود منصوب وسط الساحة، يقابله مدفع رشاش من عيار 12.7، وخاطب النقيب الجمهور قائلا: [إن من ترونه اليوم هو الرجل الذي يدّعي القدرة على توفير الحماية لأزواجكم وأبنائكم وإخوانكم، ويعتقد فيه الكثيرون، مما يدفعهم إلى الموت كالعميان. وقد قررت اليوم امتحانه أمامكم جميعا، ولن أغشه، فأسمح له بلبس كل حجبه، وإن خرج منتصرا، فسأضع على صدره الأوسمة، وأُصبح أحد مريديه المخلصين] ثم أعطى إشارة لآمرِ بطّارية المدفع الرشاش، وانطلق أمر جامد [النار] فقذف الرشاشُ ثلاث دفعات [گوگوگ! [گوگوگ! [گوگوگ!] حيث اهتز في كل منها الشيخ، قبل أن يسقط على رؤوس أقدامه فوق الأرض  ثم صاح النقيب "بازاني" على الجمهور المذهول [صفّقوا] فانطلق التصفيق ومعه الزغاريد، غير أن النقيب لا يجهل أن الزغاريد كانت للشيخ حتى بعد موته.
  وكل من يعرف أوساط البدو المؤمنين، يدرك أن الغيب والأسرار جزء من حياتهم، (وعليه فقد) خسرت الثورة أكبر معركة وهي النفسية، حيث أن الشيخ الذي سقط تحت الرصاص قبل قليل، كان قوة معنوية لها، ولم يبق لقادتها بعد اليوم أي حظ في النصر، إلا بالاعتماد على الشجاعة والجسارة" .
  إن الشيخ المعني هنا هو سيدي حيبللّ (حبيب الله) بن الشيخ عابدين بن سيد مْحمد الكنتي بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي، وقد كان لاغتياله صدى مدو في أنحاء أزواد بل في جمهورية مالي وفي الدول المجاورة لها، خاصة موريتانيا التي تناقل الناس فيها الخبر بعد وقوعه بعدة أشهر، بسبب بعد المسافات وندرة الاتصال. وكان أول ما اشتهر به سيدي حيبللّ أنه في العشرية الأولى من القرن الماضي - وعند ما كان معتقلا في مدينة باسام بكوت ديفوار مع إخوته، لحملهم السلاح ضد الفرنسيين  – حقق إنجازا اعتبر خارقا، كان سببا في إطلاق سراحه، وهو تصديه لأحد الزواحف الذي يبتلع البشر والماشية، ظهَر قرب إحدى القرى القريبة منهم، والتي استنجدت بالإدارة المحلية، التي عجزت عن القضاء عليه، لاختبائه في الغابة كل ما حس بالخطر؛ وعند ما علم الشاب السجين بالحكاية أعلن أنه قادر على قتله، ولا يريد إلا تزويده بسيف، فأعطي له، وتمكن من القضاء على هذه الدابة ، مما كان سببا في إطلاق سراحه دون إخوته، الين مات منهم البعض في السجن.
   ومن المعروف أن والدهم الشيخ عابدين كان من أوائل من حمل السلاح وقاد عشرات الحملات الجهادية ضد الاحتلال من سنة 1894 حتى سنة 1916، فكبده خسائر فادحة، قبل أن ينتقل إلى جنوب المغرب، ويقيم  حضرته التي ظلت منطلق الغزوات على قوات الاحتلال في أزواد وضفاف نهر النيجر والشرق والشمال الغربي من موريتانيا، وهو ما واصله أبناؤه حتى الثلاثينات من القرن الماضي، هم الذين استشهد منهم في الجهاد ستة.
   وبعد إطلاق سراحه عاش سيدي حيبللّ في مضارب أهله بمنطقة آدرار إفوقاس التي ولد فيها سنة 1884. وقد أصيب في مقتبل العمر بمرض الجدري ففقد بصره، لكن ذلك لم يزده إلا حيوية ونشاطا وعلوّ همة. فكوّن حلة عامرة، وانكب عليه الناس من كل حدب وصوب، لما ظهر على يديه من كرامات، ولسريان الحكمة في يديه، ولكونه مرجع أزواد والمنطقة كلها في معرفة سر الحرف، كما اشتهر بالكرم والإنفاق في سبيل الله، وكان يوزع الطعام والحليب وأتاي والسكر مجانا على أسر حلته ، الذين يحظر عليهم اقتناءها بأموالهم الخاصة.

فيلي دابو سيسوكو


حامدون ديكو

 اغتيال زعماء المعارضة

أما الفعلة الشنيعة الثانية التي ارتكبها الرئيس المالي موديبو كيتا فكانت اغتياله في ظروف غير إنسانية لكل من فيلي دابو سيسكو وحامدون ديكو ورجل الأعمال قاسم تورى، الذين حمّلهم مسؤولية مظاهرات التجار الكبرى في باماكو في 20 يوليه 1962 ضد التأميم وإنشاء الفرنك المالي. فقد بعثهم بعد الحكم عليهم بالإعدام الذي خففه إلى المؤبد إلى كيدال ليعيشوا في ظروف شديدة القسوة، نفسيا وماديا فكانوا يقومون خلال النهار بتنفيذ أشغال شاقة لا تكاد أجسامهم تتحملها، وفي الليل يسقطون على حصير بال لا يكادون يتحركون من شدة الإرهاق، وهكذا دواليك خلال سنتين.
  وقد وصف العقيد آسيمي دنبلى مؤلف كتاب التحويل الأخير طريقة قتلهم: "في ليلة من ليالي كيدال الحارة تلقى النقيب "بازاني" رسالة مشفرة استدعى بعد قراءتها الملازم "سام" الذي يثق فيه، وخاصة لتأدية المهام العويصة، التي تضاهي أسرار الدولة، وذلك لكونه كتوما وفعالا ومتعلقا بشخصه؛ وكان فحوى الرسالة ثلاث كلمات [التحويل النهائي للطرود الثلاثة]  أي السجناء السياسيين الثلاثة إلى مكان آخر، حرصا على سلامتهم، كما أخبرهم رئيس المركز الذي تحدث إليهم. وعند ما أرادوا اصطحاب بقايا ملابسهم وفرشهم البالية أُفهموا أنهم سيتلقون أحسن منها في المركز العسكري القادم. وغادرت المجموعة في اتجاه تازيجومت مقر مركز عسكري أكثر أهمية. وكان الرجال المرافقون يعتبرون أنهم في مهمة عادية، ويجهلون تماما الطبيعة السرية لرحلتهم. والوحيد الذي كان على اطلاع على حقيقة الأمر هو ضابط الصف الذي يقود القافلة، الذي أُخبر بأنه سيلتقي في منتصف الطريق الملازم "سام" بأحد الأودية بين مركزي بوڴيسه وتازيجومت. وعندما وصلت القافلة إلى المكان المحدد كان الملازم "سام" في الانتظار، حيث توقفت السيارات وطُلب من السجناء ومرافقيهم التوجه إلى مرتفع حجري. وبما أن الثورة في أزواد لم تهزم بعد قام ضابط الصف بتوزيع جنوده في مواقع قتالية حول المجموعة، حتى لا يتعرض لمفاجأة غير سارة، وأبقى الملازم "سام" معه مجموعة من الجنود والڴوم المسلحين ببنادق كلاشنيكوف الرشاشة. وعندها بدأت الشمس تميل، وتنزل الغربان والنسور على شجرة شوك قريبة، كما لو كانت تنتظر حدوث شيء ما في هذا الموقع الضائع في الصحراء.
  ثم قام الملازم بوضع السجناء الثلاثة أمامه وأبلغهم بصوت متأثر بقرار القيادة العليا. إنها لحظة قاسية أن يسمع فيها إنسان أنه سيغادر هذا العالم بعد عدة دقائق!
  وكان الضابط سيترك الجثامين مرمية في الصحراء كالكلاب لو أن حمادون ديكو لم يطلب وضعهم في قبور، ومن الصعوبة بمكان أن يرى إنسان رجلا كالهيكل العظمي، وليس لديه ما يخاف عليه، مصمما على أن يبقى واقفا، مرفوع الرأس في وجه ضابط مخيف ذي دم بارد. وأمام هذا الطلب الجسور رد الملازم "فليكن! وليحفر كل منكم قبره بسرعة، فالوقت ضائع" ووحده ديكو حفر قبره بحجر حاد، كما كان يفعل الإنسان البدائي، رغم وجود أدوات لذلك في سيارات القافلة، أما سيسوكو وتورى فلم يفلحا في إنجاز المهمة، لتقدمهما في السن وشدة تعبهما. واعتبر الضابط أن الحُفر التي أنجزت بشق الأنفس، أحسن من خندق جماعي، وكافية كقبور، وعندها أمرهم بالتوجه إليها والنزول فيها، فساروا بهدوء وسكينة، رافضين مساعدة الجنود المشفقين عليهم، ودون أن تصدر منهم أي حركة تفسًّر على أنها من أجل البقاء في الحياة لثوان بائسة. وفي اللحظات الأخيرة خاطب فيلي دابو سيسوكو الضابط قائلا "أيها الملازم افعل واجبك كجندي، لكن واجبك كضابط لا يسمح لك بالغرق في الخزي، وكما أحُس لا تطلق الرصاص علينا من الخلف، وإلا فإن هذه الفعلة ستلاحقك طيلة ما تبقى لك من العمر".
  عندئذ، وجد الضابط نفسه في مواجهة ضميره، وأمرهم بالبقاء وقوفا، ينظرون أمامهم دون حراك فرقة الإعدام على بعد 15 مترا، دون أن يغمضوا أعينهم لحظة، أو يصدر عنهم صوت أو أنين، في مواجهة الأسلحة المصوبة إلى صدورهم.
صاح الملازم سام "الفرقة! استعداد! اشحنوا المسدسات
وسُمعت قعقعة الآلة المخيفة.
-    بزخَات
-    النار
ودوى الجبل كله لضجيج رصاص المسدس الرشاش الذي اخترق أجساد الرجال الثلاثة فحصدها. ولم ير الضابط أي ضرورة – عكسا للقاعدة – أن يطلق على كل منهم رصاصة الرحمة؛ مما يطرح التساؤل: هل كان هذا إعداما حسب الأصول؟. أليس هذا اغتيالا، بعد ما أُلغي حكم الإعدام، وحُوّل إلى المؤبد؟.
  صاح الملازم سام في الجنود قائلا [اطمروهم بالتراب] لكن الحُفر لم تكن عميقة لتغطي الجثامين، مما حتم ردمها بالحصى الخشن (أرارش) بينما كانت أكفانهم الدراريع الملطخة بالدماء.     
   ورغم أنهم مسلمون لم تُقرأ عليم {الفاتحة} ولم يصلّ عليهم، غير أنه في نهاية الفعلة المخزية رفع أحد الڴوم المسلمين – بدل تلاوة شيء من القرءان الكريم – صوته قائلا {الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!}؛ ثم أبلغ الملازم رؤساءه إنجاز مهمته في رسالة مشفرة، فحواها [تمدرس الأطفال]."  وكانت الرواية الرسمية أنه خلال نقلهم إلى موقع جديد، جرى اشتباك مع الثوار، فحاولوا الهرب مما اضطر الجنود إلى إطلاق النار عليهم. يتواصل

"أوراق" عن أزواد /الخامسة/ موديبو: كما قَتَل قُتل

$
0
0
اغتالت القوات المالية أهم زعماء مالي السياسيين، و"انتصر على ثوار إفُوقاس في أزواد بقتل حاميهم الروحي"  فاكتملت للرئيس موديبو كيتا الزعامة الداخلية، وغادر باماكو بأيام قليلة بعد مجزرة 30 يونيه 1964 إلى القاهرة لحضور ثاني قمة قارية تحت مظلة، منظمة الوحدة الإفريقية الناشئة، واقتسم بذلك الأضواء المسلطة على الزعماء الأفارقة الثورين، إضافة إلى الهالة التي أحاطت به عن دوره في النزاع الحدودي الجزائري المغربي. فانعقدت القمة تحت رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان في أوج سطوع نجمه المحلي والدولي، حيث استقبل في السنة نفسها القمة العربية وقمة عدم الانحياز.
  وقد انعقدت القمة في مقر جامعة الدول العربية، في جو من المظاهر الاحتفالية المبهرة، حيث صادفت إحياء ذكرى  ثورة 23 يوليه المصرية، التي بذلت فيها القاهرة طاقاتها لتظهر أنها أهم زعيمة للقارة والعالم العربي، ومع الهند ويوغوسلافيا إحدى الدول التي تقود حركة عدم الانحياز، الرافض لمنطق تبعية الغرب أو الشرق؛ كما وقع في هذه المناسبة ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية الذي كان مفكرون وكتاب قد انكبوا على إعداد مسودته، منهم محمد حسنين هيكل، ودعي القادة إلى حفل بهيج في نادي الضباط بالزمالك، غنت فيه أم كلثوم أول لحن لمنافسها الكبير محمد عبد الوهاب أنت عمري، بتقديم أشهر مذيع مصري جلال معوض، كما أقام عبد الناصر حفل عشاء في حدائق قصر القبة، غنت فيه فرقة رضا، المؤلفة من شباب الجامعات، وأقيم في مدينة نصر عرض عسكري وشبابي وعمالي دام عدة ساعات، ظهر فيه من الأسلحة ما اعتُبر ردعا لكل من يحاول التحرش بمصر.
  وقد جرت محاولة لتعكير جو القمة هي وصول رئيس وزراء الكنغو اليوبولدفيل موسى تشومبى إلى القاهرة فجأة ليحتل مقعد بلاده، غير أنه أعيد من حيث أتى لأن مصر والدول الثورية لا تعترف به، لكن حادثا آخر جرى بطريقة لم تكن في الحسبان، كان له وقع مؤلم على بعض الوفود، وخاصة مالي وغانا وغينيا.
  هذا الحدث هو الكلمة التي ألقاها رئيس جمهورية مدغشقر، فيلْبيرْ تْسيرانانا، في جلسة علنية بحضور جميع القادة، حيث كال سيلا من النقد اللاذع لمعظم الحاضرين وخاصة الزعماء الثوريين، تارة بروح مرحة وابتسامة عريضة، ومرات أخرى بجد وصراحة مفرطة، وأعلن منذ الوهلة الأولى أنه لا يشاطر الحاضرين تفاؤلهم بمستقبل القارة في ظل القمع وعدم التسامح، ضاربا المثل بكل من رؤساء غينيا وغانا ومالي بأسمائهم، حيث يتشدقون بالثورية والحرية، وهم يقتلون مواطنيهم، ذاكرا بالاسم زعيمي مالي الذين لم تجف دماؤهما بعد: سيسوكو وديكو. ثم هاجم النفاق السياسي، خاصة في العلاقات الدولية، قائلا "إن تماديتم في هذا النهج سأبقى في جزيرتي خارجا عن إفريقيا، ولن أكون مثلكم في النفاق، فرئيسي هو الجنرال دڴول، وسأذهب إليه مباشرة لأقدم له تقريرا عما جرى هنا، ولتكونوا مثلي وتعترفوا بأنكم تابعون لموسكو وپيكين". وقد ظل الحاضرون - بمن فيهم أعضاء الوفود والمدعون والصحفيون - مشدوهين بين غاضب مستنكر، ولاه مستمتع بهذا الخطاب الطويل، وهو ما انطبق على الرؤساء أنفسهم، خاصة موديبو ونكروما الذيْن كانا في أشد حالات العبوس، يلوح أعضاء وفديهما خلفهما بأيديهم استنكارا للحديث، أما عبد الناصر وبورقيبه وسنغور والحسن الثاني، وغالبية الرؤساء فقد تابعوا بإصغاء وكأنهم في مسرح، بينما لم يتحكم المختار بن داداه وأحمد بن بله، وعدد من الوزراء من كبت نوبة الضحك التي أصابتهم.
**
 مرت الأيام وسقط موديبو كيتا بانقلاب عسكري في 19 نونبر 1968، وأُرسل إلى كيدال، ليعيش في ظروف صعبة، وإن كانت أقل قسوة مما عرفه معارضوه السياسيون الذين اختارها لهم، ثم ينتقل إلى الجنوب الأكثر رطوبة، ويتقابل في أحد الأيام أمام المستشفى مع زعيم آخر ما يزال في السجن من بقايا ضحاياه، هو محمد آعلي آڴ الطاهر الأنصاري، الذي خاطبه "موديبو، هل عرفتني، أنا محمد آعلي الذي كنت أعطيك - وأنت تلميذ - البسكويت وغيرها من الأشياء التي تطلب". وكان أبشع إرث تركه موديبو كيتا لبلاده ما استنّه من نهج في القمع والتعذيب والتصفية الجسدية لمعارضيه، حيث اتَبعت ذلك الطغمة العسكرية التي أطاحت به، وأصبح النهج السائد، وكان هو ضحيته عندما مات مسموما في 16 ميه 1977، وكاد النهج هذا يقضي على طبقة الضباط الحاكمين، المتكالبين على السلطة والمال.

 

نهاية النقيب بازاني في تاودني

مما يستدل به الأزواديون على احتقارهم من قادة مالي جعل مدنهم التاريخية وبلداتهم الشهيرة أوكارا لأنواع الفجور والإجرام، ومراكز للتعذيب السياسي والقتل الممنهج خارج القانون، حتى اقترنت أسماؤها بذلك، بعدما كان صيتها كمواطن للعلم والذهب والملح، ملهم أطماع العالم منذ القرون الوسطى. ومن هذه البلدات سبخة تاودني التي يقع فيها مركز إداري وعسكري للحكومة المالية، على بعد 700 كلم شمال تنبكتو، في نقطة هي الأخفض عن سطح البحر في الكرة الأرضية، عوض البحر الميت. وحوض تاودني يطلق في المصطلحات الجيولوجية على مساحات شاسعة تشمل مناطق من أزواد وتمتد إلى داخل الشمال الشرقي الموريتاني؛ أما صحراؤها فهي قاحلة لا شجر فيها ولا نباتا، تُصليها شمس حارقة في غالبية أيام السنة، حيث تكون درجة الحرارة صيفا 50 درجة نهارا و40 – 45 ليلا، وفي الشتاء 20 – 30 درجة في النهار و10 – 0 ليلا. "يوجد عند السبخة بئر يدعى حاسي صالح نسبة إلي أحد الصالحين، ماؤه مالح، يقع على عمق 50 مترا، وهو في هذه البلاد القاحلة المعطشة هدية من السماء، غير أن الإنسان لا يستطيع شربه إلا بخلطه مع مواد تساعد على تحمله، مثل تجمخت، (دقيق ثمر شجر الدوم [التيدوم] الذي ينبت في الجنوب] أو دقيق الذرة أو اللبن الرائب، والاغتسال به يحتاج إلي مجهود وتقنية، حيث يمنع رغوة الصابون، ولا يزيل وسخ الجلد، مما يحتم خلطه بالحصى الصغير مع الدلك بقوة، ومع ذلك فلولا الماء المالح لمات الناس من الإمساك.
  يحكم مركز تاودني نهاية 1969 الملازم كانتاو الذي يجمع بين يديه كل السلطات، وقد أوكل إليه أمر مجموعة من السجناء العسكريين المحكوم عليهم بالمؤبد، وعلى رأسهم النقيب بازاني (ديبيى سيلاس جارا) الذي عرفناه فيما سبق قائدا للكتيبة التي أشرفت على سحق التمرد في أزواد، حيث أدين بمحاولة انقلاب بعد أن كان واليا لمحافظة موبتي.
 كان الملازم كانتاو الآمر الناهي، ومهمته الأولى هي إلحاق أشد أذي بالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد الذين أرسلوا إليه في هذا الفضاء السحيق الذي لا صلة له بالعالم الخارجي. وللدلالة على الاستبداد الذي يفتخر به، أعطى لنفسه اسم إمبراطور قبيلة الموشي (مورو نابا) الذي بيده مصير شعبه حياتا أو موتا، لا يعرف قاماتهم إذ لا يراهم إلا راكعين له. وكان سجناء تاودني يسجدون لسيدهم الجديد حتى يغمسوا رؤوسهم في الأرض مقبلين جزماته، فيرد عليهم التحية بوضع قدمه بقوة على رقبة كل منهم حتى تندس في التراب. وإضافة إلي الأوامر التي تلقاها من قادته استعمل كل ما خطر بباله من بطش ليجعل نهايتهم الموت البطيء. وهكذا بدء بتحويلهم إلي عمال لقلع عدائل الملح الذي يتولاه عادة عمال محترفون يتوارثون المهنة، التي تعد قاسية جدا خاصة على من لا يعرفونها.
توجد في تاودني – كما سلف - سبخة غنية بالملح المتراص في حصائر منتشرة تحت طبقة رملية، يقوم عمال مهرة بتقطيعه في شكل قوالب لتكون جاهزة للنقل، لذلك اعتبر الضابط أنه العمل الأكثر مشقة والأنسب لسجنائه، وهو في الوقت نفسه فرصة لتطييب خواطر رؤسائه بإهدائهم ملحا وفيرا بلا ثمن. وقد فتح مقلعا بعيدا عن أمثاله ليفسح المجال أمام جنوده لإطلاق النار على السجناء في حالة محاولتهم الهروب، دون أن يعرض العمال العاديين للمخاطر.
كان المقلع الجديد يبعد 12 كلم عن المركز العسكري، يرغم السجناء على قطعها جريا على الأقدام المثقلة بالسلاسل في ذهابهم وإيابهم، يسبق ذلك ضرب مبرح عند الساعة الرابعة صباحا، موعد الانطلاق، وتكون العودة عند الساعة الخامسة مساء، تتخلل ذلك استراحة لمدة 5 دقائق لتناول الغداء المكون من حب الدخن الأحمر الغليظ نصف مهروس، لم يكتمل نضج طبخه، وهو عادة يحضر كعلف للماشية، لكنه هنا يخلط بالتراب والحصى ( أرارش).
ولم يكن للسجناء الحق بعد يومهم الشاق المنهِك في فسخ ثيابهم مما جعل أجسادهم مرتعا للقمل، مثل ثيابهم المتلبدة من شدة الاتساخ، والتصاق الحصباء المبللة بالعرق، والتي تتساقط قطعا بعد أن تيبس. وليس للمصابين منهم الحق في استراحة مرضية، بل يحملهم زملاؤهم إلي المقلع يوميا، ويتركون مرميين في الرمضاء، حيث تصل الحرارة 50 درجة في الظل. وكان الملازم كانتاو فخورا بما حققه من نجاح في استخراج عدائل الملح، وبما أصاب السجناء من ضعف وهزال.
وفي أحد أيام يناير، وكتهنئة للسجناء بالعام الجديد، أعادهم إلي المقر قبل الوقت المحدد، مما جعلهم يتصورون أنها لفتة رحيمة، خاصة وأنهم سقطوا على الأرض عند وصولهم لشدة الإرهاق. وعند مدخل المركز كانت هنالك عديلة ضخمة نقش عليها كانتاو "أول عديلة استخرجها الخونة يوم فاتح يناير 1970 " ثم غادر وهو يتضاحك قائلا "لقد أعدتكم باكرا اليوم حتى تقرؤوا في ضوء النهار هذا الإهداء المنقوش تكريما لكم، وسترسل في الغد إلي القيادة العليا كشاهد على إسهامكم الفعال والطوعي في الإنتاج الوطني في جنة الصحراء هذه.
واتهم الملازم السجناء بمحاولة رشوة أحد جنوده الذي فرض عليه شهادة زور، ثم أبلغهم أنهم سيعدمون في الصباح، مما كان له وقع لا يتصور عليهم، وعند بزوغ الشمس ساقهم مقيدين بالسلاسل ليجدوا أمامهم فرقة إعدام مؤلفة من 12 جنديا، مما صدق لديهم تهديده، وبادرهم: بأنهم لم يذكروا خلال استجواباتكم السابقة جميع شركائهم في المؤامرة، لذلك سيترك لهم حياتهم إن أقروا بهم اليوم، لكنهم رفضوا الرد عليه كرجل واحد، فكانت العقوبة الضرب بأعقاب البنادق والعصي حتى تقيئوا الدماء.
ثم جاءت للملازم فكرته السادية لبناء حصن في تاودني مساحته 2500م2، فأمر السجناء بحفر بئر بأدوات قليلة وصنع 100 طوبة من الآجر لكل منهم في اليوم، وهو رقم خيالي لهؤلاء التعساء الذين يُختم يومهم - في معظم الأحيان - بالضرب المبرح على كل الأعضاء دون أي سبب.
وكان البناء يسقط كل ما علا، لجهل السجناء بالمهنة؛ وعندما مات أحدهم من شدة التعذيب والجوع رفض دفنه في مقبرة السبخة لأن السجناء لا يستحقون ذلك، وأمر بإلقائه بعيدا عن الحصن، مما جعل زملاءه يعودون إليه في الصباح ليدفنوا ما أبقت بنات آوى من جثمانه.
وكان الملازم يتباهي بإنجازه ويقارنه بالأهرامات التي بناها الفراعنة في مصر [إنه إنجاز سيخلده له التاريخ] وهو ما تحقق بالفعل حيث بقي الحصن الذي أملته إرادة رجل مريض بجنون العظمة، وكلما هبت عاصفة رملية يكون صداها في الحصن كصياح وأنين كل من سكب دمه على طوب هذا البناء المنحوس. وقد تناوب على قيادة المركز العديد من الضباط وصف الضباط، لم يكونوا كلهم بقسوة الملازم كانتاوو إلا أن الأقل تشددا يلقون العقاب، وأقله الحرمان من ترفيع الرتب حتى التقاعد.
ورغم اكتشاف مؤامرة جديدة لإسقاط النظام في باماكو واعتقال القادة السابقين من قبل الرئيس إلا أن من حلّوا محلهم كانوا أشد قسوة من سابقيهم الذين نقل العديد منهم إلي تاودني ليعيشوا مع من لم يمت من السجناء الأولين.
وقد رفعت عن النقيب "بازاني" الرقابة، إذ لم يعد يشكل أي خطر، وأصبح من بين السجناء مجرد جثة متحركة، ، بلا لحم ولا أعصاب، مثل التمساح الجائع، يزحف في تنقله على يديه وركبتيه، تاركا خلفه خطوطا عميقة في الرمال الحارة، من السهل اقتفاؤها، ولم يعد له من العمل إلا جمع بعر الإبل حول البئر لغرض الطهي، وقد قيل إنه فقد ملكة النطق بسبب العزلة الطويلة التي يعيشها، لكنّ من نظر إليه عن قرب يرى بقية بريق، يشكل نوعا من التحدي لسجنائه. وأمام تعلقه بالحياة تجرأ الملازم كانتاو على اتخاذ قرار خطير العواقب أمام التاريخ وهو قتل هذا السجين الذي كان بلا شك الهدف النهائي، وطريقة التنفيذ متروكة له. وفي أحد الأيام استدعى الجندي الطارقي الشاب سالم آگ سالم ودار بينهما الحديث التالي:
-    سالم، هل صحيح أن أخاك قتل في التمرد (1963)؟
-    مع الأسف نعم، وما أزال أبكيه، يرد الجندي
-    هل ترغب في معرفة ظروف موته، وقاتله؟
-    إنني أجهل ذلك، لأنني كنت صغيرا. آه! نعم، وألف نعم! إنني أحب أن أعرف القاتل، وبالي لن يهدأ قبل أن أقوم بالواجب المقدس، وهو الثأر لدم أخي
-    اسمع جيدا. كان أخوك شجاعا بين الشجعان، عرفته قبل التحاقه بالتمرد، وأنتما تتشابهان كقطرتي ماء. لقد قاتل من أجل قضيته، لكنه فوجئ مع صحبه بسبب وشاية، خلال عملية تمشيط للجيش، دارت خلالها معركة دامت صبيحة يوم كامل. وبعد استنفاد ذخيرتهم استسلم أخوك ومن بقي معه من زملائه، ورفض بإباء الإدلاء بأية معلومات لمحققي شعبة مخابرات المكتب الثاني رغم التعذيب، بل بلغت به الجرأة حد البصق في وجه الضابط الذي يستجوبه، موقعا بذلك صك موته.   
كان أخوك يفضل الموت وسلاحه بيده، لكن ذلك لم يقع، بل أجبر على شرب قدح من البنزين، ثم صُب على جسده المتبقي وهو حوالي ثلاث لترات، وأشعلت النار فيه، لكنه قابل ذلك برباطة جأش ودون أن يطلب الرحمة أو يُصدر أنينا، حتى انفجر كالقنبلة. وكان الضابط يتوقف بين الحين والآخر ليرى وقع سرده التمثيلي للقصة على الشاب الطارقي، الذي انكسر قلبه وهو يبكي بدموع حارة، يرتعد جسمه من شدة الغضب والتأثر، منتظرا أن يكشف له اسم القاتل، إلى أن سمع: هل أنت مستعد لأخذ الثأر لأخيك، عندما أكشف لك عن اسمه؟
-    كيف لي بذلك؟ وكيف الوصول إليه؟
-    قل لي نعم، وسأقدمه لك في الدقائق الآتية
-    نعم! نعم! نعم!
-    حسنا، ياصغيري، إنه النقيب بازاني، الذي قتل أخاك الأكبر
-    لا، هذا غير ممكن!
-    إنها الحقيقة بعينها، وهو الآن نحو البئر، فهو لك ، سالم، افعل به ما تريد، اقت...
ولم ينتظر سالم إتمام الجملة فطفق يعدو مطلقا صيحة الحرب، كما يفعل أجداده عند الهجوم، وفي الطريق أخذ دبوسه متجها إلى البئر، مواصلا صيحاته. وفي هذا الوقت كان النقيب بازاني الذي يجهل أن مصيره قد تحدد، منبطحا على وجهه فوق الرمال الساخنة يضع يديه على رقبته ليقيها حر الشمس، بعد أن أنهى نوبته من جمع البعر حول البئر. وقد وصلت إلى مسامعه صيحات سالم كالصدى، ولم تكن غريبة عليه، لأنه سمعها من قبل في الجبل، ثم بدأت تقترب، غير أنه كان يجهل أنها موجهة إليه.
وقريبا من جسد النقيب بازاني المشوه توقف سالم، والنقيب رافع رأسه إليه ليتلقى في الوجه حثوة تراب أثارتها جزمات الجندي الطارقي الشاب، وعند فتح عينيه عرف دبوس الراعي البدوي المخيفة ذات الرأس المدبب كراس الثعبان، وتكشيرة في وجه سالم، ورغم حاله الضعيف حافظ النقيب على بعض الوعي، مدركا أن أجله قد حان، حيث نزلت العصا على رأسه ليلفظ أنفاسه الأخيرة. وبذلك فقد النقيب ديبيى سيلاس ﭽارا، "أسد الصحراء" سيد كيدال، قاهر التمرد، معركته ضمن صراع الحياة الفانية.  
  إن الإرادة الإلهية تسوقنا حتما – فرادى وجماعات – إلى مصيرنا، كما ساق النقيب بازاني معه إلى هذه النهاية المفجعة معظم الضباط وضباط الصف الذين شاركوا في حملة كيدال، خاصة الملازم سام الذي أشرف على قتل فيلي دابو سيسوكو وحامادون ديكو وقاسم تورى، فقد ظلت تربطهم سلسلة خفية حتى الرمق الأخير من حياتهم" . يتواصل 


"أوراق" عن أزواد/ السادسة/ سنوات التيه

$
0
0
لم ينته عهد موديبو كيتا في نونبر سنة 1968 إلا بعد أن دمر أزواد اقتصاديا واجتماعيا وسلبه أغلى ما يملكه أهله: العزة والكرامة، فأذلّ كبراءه واستباح حرماته، ليحل الغضب محل الكبرياء الذي عرف به الأزوادي بين جيرانه، وساد اليأس ربوع أرض موسى آگ أمستن وفيرهُن والميون بن حمادي، ومحمد بن رحال. وكادت الحِلَلُ العامرة بمخيماتها الكثيفة المتراصة تختفي، ومعها قطعان الإبل البيضاء والشقراء البديعة، والأغنام الوافرة، كما اختفت سباقات الهُجن الذلولة التي لا تحتاج سوى تحريك الخطام، دون عصى أو نسعة، المزينة بالرواحل ذات القرابيس العالية، المبطنة بالأحزمة الجلدية والشعرية المتدلية، بألوانها المزركشة الأصيلة، تحت رجال أشداء ذوي قامات فارعة، بدراريعهم السوداء والبيضاء، وعمائمهم الطويلة، الممتشقين بعزة وكبرياء سيوفا قهرت الطامعين على مدى التاريخ، وضاعت مكتبات عريقة غنية بنفائس الكتب، في خضم هذا التشتت غير المسبوق.
وأصبح مصير الإقليم بيد الضباط والجنود الذين كانوا يد الناظم البائد الباطشة، بعد أن استولوا على السلطة، التي لم تغير في شيء، اللهم تفكك النظام الاشتراكي الذي ظل يحسب على الناس أنفاسهم ويقيد تصرفهم بأموالهم. وسار الجديد على خطى القديم باعتبار أزواد منطقة أمنية، أهلها محل اتهام دائم بالإرهاب والتمرد.
وصادفت هذه الفترة موجة الجفاف الماحق التي ضربت منطقة الساحل والصحراء سنوات متتالية، في سابقة لم يعرفها السكان المعتادون على دورة القحط لا تدوم إلا سنة أو سنتين، يتبعه الغيث والخصب، كما تبينه  حوليات المراكز الحضرية. فلم يكن السكان إذن مؤهلين لمواجهة الكارثة، وتصرفوا كما كانوا يفعلون، ينتقلون بمواشيهم إلى المناطق الرطبة وضفاف الأنهر، ليقايضوا منتجاتهم بالمواد الغذائية، لكنهم وجودوها منكوبة، إذ لم يكن أحد يدرك أبعاد الظاهرة ولا مداها.
ومن هنا كان على الحكومة المالية أن تتصرف بسرعة وفعالية كما في الدول المجاورة: موريتانيا وبوركينا فاصو وبنسبة أقل النيجر. ففي موريتانيا مثلا أُعلن النفير العام وسخرت الحكومة ما لديها من إمكانيات لمواجهة الجفاف، فنشطت الإدارة والحزب الحاكم ووسائل الإعلام لمؤازرة السكان وتنويرهم بأبعاد ما حل بهم، وطلبت العون الخارجي، ثم اتخذت على الفور إجراءات عملية، تمثلت في إلغاء العشر نهائيا عن الماشية، ووضع برنامجي عرف بخطة التدخل السريع، اضطلع بتوزيع المواد الغذائية والدوائية وحفر الآبار، تحت إشراف وزير الصحة والشؤون الاجتماعية د. عبد الله بن ابّاه، الذي وضعت تحت تصرفه تجهيزات القوات المسلحة والحرس ورجالهما، فأضافوا الفعالية على هذا الجهد الوطني، خاصة بإشرافهم على أسطول السيارات الذي جاب المناطق المتأثرة، المنتشرة في غالبية أرض الجمهورية، حيث تحقق المطلوب في الوقت المناسب، رغم انعدام الطرق المعبدة في تلك الحقبة. وكانت تلك بدايات إقامة مفوضية الأمن الغذائي، التي اعتبرت تجربة رائدة استنسختها عدة دول.   
أما في أزواد فكانت وطأة الجفاف أشد لأن الحكومة لم تكن مبالية به، فتركت السكان يواجهون مصيرهم وحدهم، لا مرشد ولا معين، واستمرت في جباية الضرائب على الماشية، ومتابعة الرقابة على تنقل السكان بحيث لا يحق لهم الاقتراب من ضفاف النهر إلا بمسافات معينة؛ ولم تصل سنة 1973 حتى نفق جل الثروة الحيوانية، وانتشرت المجاعة في أصقاع الإقليم، وأصبح الناس عاجزين عن توفير ضرورات الحياة الأساسية من مأكل وشرب وملبس وسكن، فتشتت الرجال لا يلوون على شيء في الاتجاهات كافة بحثا عن وسيلة لإنقاذ من تركوا خلفهم من نساء وصبوة وعجائز في مخيمات قرب الآبار، والتي أصبح جلب مائها غاية في الصعوبة بعد نفوق الماشية؛ وكان الرجل يصحب معه في رحلة الميرة تلك كل ما بقي له من دواب صالحة للبيع، وبقايا الأثاث: من زرابي وطنافس ومصنوعات جلدية وخشبية، كما جلبوا معهم كتبا مخطوطة نفيسة وحلي النساء ومقتنياتهن،  بل إن البعض اضطر أن يترك عياله في العراء ويأخذ الفروة ليقايضها بمواد غذائية.
ومع طول الوقت أصبحت أكثرية الأسر معدمة، لا تملك ما تقايض به الطعام،  فمات الآلاف من الناس جراء الجوع وتبعاته، غالبيتهم في مخيمات، ذكر شهود عيان أنها كانت مسكونة بأناس شديدي الهزال، لا يقدرون على الخروج إلى الزائر، خوفا من الظهور في أوضاع غير لائقة، منها العري، مما يذكّر بما مرت به العديد من المناطق الموريتانية إبان الحرب العالمية الثانية، تحت الاحتلال، حيث لبس الناس الجلود وقطع الوبر المحاكة للخيام، حتى أن بعض الأحياء البدوية كانت لا تملك إلا دراعة واحدة يتعاقب عليها رجاله، عندما يتعين على أحدهم الخروج للقاء زائر؛ وقد قيل في السبعينات إنه لو لم تكن لموريتانيا حكومة مركزية لمات جل سكانها الذين كانت نسبة البدو منهم – حينها - تزيد على 70% .
  وكنا في منكبنا البرزخي نسمع بعض الأخبار عن مأساة أهل أزواد التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام الغربية المكتوبة، من بينها صحيفة "لموند" الباريسية التي نشرت سلسلة مقالات للكاتب الصحفي الشهير "فيليب دَكْرينْ" عن الجفاف في مالي،  نقل فيها صورا مخيفة عن حالة السكان في أزواد، متهما الحكومة المالية باستخدام الجفاف لتصفية حساباتها السياسية والأمنية مع السكان، وانتقد سكوت العالم عن هذا الوضع البشع.
 وقد قامت مجموعة من الشباب في نواكشوط بتكثير هذه المقالات وتوزيعها على الرئاسة والوزارات، مطالبين بوقفة تضامن مع الأشقاء الأزواديين، ومستنكرين الصمت على أفعال باماكو. لكن  أحدا لم يتحرك، لإنقاذ هذا الشعب أو التخفيف من محنته، لا في الدول الغربية ولا الأمم المتحدة أو التجمعات الإقليمية،  حيث لم تكن الصحوة العالمية لمؤازرة حقوق الإنسان وحماية الأقليات التي شاهدناها مع بداية انهيار الكتلة الشيوعية قد ولدت بعد؛ وذلك رغم وجود حركة تكاد تكون كونية يقودها اليسار، تدافع عن حركات التحرير في إفريقيا وفلسطين وفيتنام.
  والّفتة الوحيدة للدول الغربية ومنظماتها الإنسانية، كشركات الصليب الأحمر، كانت إرسال بعض المواد الغذائية والأدوية إلى حكومة باماكو، دون مراقبة على تصريفها، فاستحوذ عليها الضباط القابعون في السلطة، واستمرت المعاناة وتشعبت، ولم يلتفت أحد إلى أن جوهر المشكلة السياسي،  حيث تصر حكومة على ممارسة التمييز على جزء من شعبها، والتخلي عن مسؤوليتها اتجاهه، مما يتنافى وواجباتها الدستورية وما يفرضه القانون الدولي والشرائع السماوية وتقاليد التعايش والمساكنة.

بداية التشرد

   اكتملت هجرة سكان البادية إلى المدن والمراكز القريبة من مصادر المياه، وانتشرت الفروات وأقفاص الحشائش، على أطرافها، بينما أصر قسم منهم على البقاء في الأرض التي ألفوها، حيث بقيت على الألسن مآثر بعض رجالهم من تجار ووجهاء وزعماء قبائل بذلوا أموالهم وجاههم لمد يد العون لهم حتى تحسنت الظروف مع الثمانينات، ومن هؤلاء السلطان بادي بن حمادي.
 ولم تحرك السلطات الرسمية الحضرية ساكنا لتخفيف وطأة المجاعة على الواصلين الجدد، فآثر عدد من أرباب الأسر مواصلة الرحلة إلى الجنوب داخل مالي وإلى الدول المجاورة لها في الجنوب، وهكذا ظهرت في شوارع لاگوص وكوتونو ولومى وأكرا وأبدجان مشاهد غير مألوفة، وهي تسول صبية غرباء، بنين وبنات، بزي غير مألوف وبشرة بيضاء ينتشرون على قارعة الطريق، وعند إشارات المرور، لإعالة ذويهم الذين اختاروا أشجار الشوارع مأوى لهم.
واتجهت أعداد من سكان المناطق الوسطى والشمالية مثل أُولمدَنْ والهگار وإفوقاس وكل السوق إلى مدن الجزائر الجنوبية كتمنغاست، وعشائر الاتحادية الكنتية إلى آدرار، حيث يرتبط هؤلاء وأولئك مع سكان الجنوب بوشائج القربى، فاستقبلتهم السلطات الجزائرية برحابة صدر، وآوتهم ووزعت عليهم بطاقة التموين التي انتشرت بين الأزواديين إلى عهد قريب، إضافة إلى ذلك لقي هؤلاء الترحاب من أبناء عمومتهم الجزائريين، فشكلوا جسرا للتواصل، وانتعشت التجارة وتبادل المنافع مع الإقليم وبدأ الاطمئنان يعود إليه بعد أن أصبحت أجزاء منه في حكم التابع للجزائر، التي ظلت على مدى سنوات لاعبا لا غنى عنه بالنسبة للمناطق المتاخمة لجنوبها، ونجحت في إقامة علاقات متميزة مع أولائك الجيران، رغم تربص الدوائر الغربية وإعلامها للصيد في المياه العكرة بين دول شمال إفريقيا وجنوبها. يتواصل






أوراق عن أژواد/ السابعة/ الهجرة إلى ليبيا

$
0
0
ما أن حلت سنة 1973 حتى بدأت الهجرة الأژوادية تتدفق على ليبيا، قادمة من النيجر التي يشاطرها الحدود، والتي ظلت ملجأ سكان الإقليم، كلما ألمت بهم المحن، مثل الاحتلال الفرنسي، الذي هرب الناس في وجهه من أژواد فضاعفوا عدد العرب والطوارق الأصليين فيه، وازدادت اللحمة والترابط، حتى تحول النيجر رغم ظروفه الصعبة إلى ملجإ ومنفذ لهؤلاء المشردين.
إن الوجهة الليبية لسكان جنوب الصحراء ليست سوى استمرار لصلات تاريخية قطّع أوصالها الاحتلال وحدُوده المصطنعة، فجنوب الصحراء يرتبط بعلاقات صمدت طيلة عصور الصحراء المناخية والسياسية الضاربة في أعماق التاريخ، من أبرزها في العصر الحديث، ما ارتبط بفتوحات الإسلام على يد عقبة بن نافع الفهري لفزان بجنوب ليبيا، في العقد الثالث من القرن الهجري الأول، حيث استقر الإسلام في بواديها وواحاتها وكَوَرها، فتشكل من سكانها العرب والكور أول الدعاة التجار إلى جنوب الصحراء: النيجر ونيجيريا ومحيط بحيرة تشاد، وذلك قبل انتشار الإسلام في أجزاء من غرب الصحراء بقرنين. يضاف إلى هذه الصلة روابط الدم بين طوارق جنوب الجزائر وأزود وأزواڴ، الذين هم امتداد لإخوتهم في ليبيا، كما لم تنقطع جسور التواصل بين مدن القوافل الليبية المتاخمة للصحراء كغات وغدامس المرتبطة بتادمكت وتغازة وتنبكتو، إلى حد أن لبعضها مضافات تستقبل قوافل الأخرى. كما انتقلت قرونا بعد الفتح من ليبيا إلى نهر النيجر وبحيرة تشاد، مجموعات من القبائل العربية المصاحبة للهجرة الهلالية، واستقرت بها، وهي اليوم موزعة بين الدول المحيطة بالبحيرة بفعل تقسيم الاستعمار: النيجر وتشاد والكاميرون ونيجيريا.
ومع بداية التسرب الاستعماري إلى نهر النيجر والصحراء الكبرى ونهر شاري ووسط إفريقيا مع نهاية القرن 19 وبداية 20 اصطدمت قواته بأتباع الحركة السنوسية المنتشرة في النيجر وتشاد وشمال السودان، حيث حملت زعامة الحركة في بلدة الجغبوب بالشرق الليبي (بعد انطلاقها من موطنها الأول في الجزائر) لواء الجهاد، فأرسلت النجدات المعززة بالسلاح والعتاد والمؤن إلى تلك المناطق، التي تحالف فيها السكان المحليون من أتباع السنوسية أو زعماء العشائر الطارقية والعربية والكورية الغيورين على دينهم، فخلد التاريخ ذكر رجال منهم قادوا الجهاد ضد القوات الفرنسية والإيطالية وكبدوها خسائر فادحة، من أمثال محمد كاوصن أحد أبطال قبيلة أولَمدَنْ الطارقية الشهيرة بقوة الشكيمة، ورباح بن فضل الله الذي استشهد في تشاد.
وجعل هذا الوضع الفرنسيين يعبئون طاقاتهم لمواجهته عبر قواتهم الغازية من غرب إفريقيا، وبعض الوحدات المرابطة في الجزائر ومخابراتهم (قنصلياتهم) في طرابلس وتونس واسطنبول، في خضم  حملةِ دعايةٍ وتشهير ضد الطريقة السنوسية، حتى أن من يقارن بين الحرب على ما يسمى الإرهاب اليوم يتخيل أن التاريخ يعيد نفسه.

ليبيا ترحب


  كانت غالبية هؤلاء من الشباب، جزء منها من مواطني النيجر، حيث دخلوا جميعا بدون صعوبة، سواء من له أوراق ثبوتية أو بدونها، وهم الأكثر، ونزلوا وسط ترحاب من المواطنين والسلطات في ولاية فزان التي ظلت تحتضن العدد الأكبر منهم في مراكزها الحيوية كعاصمتها سبها، ومدن بْراك وأُباري وغات ومرزڴ، قبل أن ينتقل منهم البعض إلى مدن الغرب: طرابلس والزاوية وغيرها في الجبل الغربي، بل انتشروا في الأرض الليبية وصحرائها الشاسعة، حيث تعمل شركات الإنشاءات ومشاريع الزراعة. وبشكل عام، ورغم بداوتهم، تكيف أكثرهم مع العمل اليدوي في المرحلة الأولى، لكن مشكلة تحويل الأموال إلى أهلهم في الصحراء شكلت مفاجأة غير سارة، إذ تشترط الشركات إقامة رسمية، لتسليم الرواتب ورسائل التحويل إلى البنوك، وهو أمر بالغ الصعوبة، إذ لم تكن أكثرية الأژواديين تحمل جوازات سفر، فأصيب الكثيرون بخيمة الأمل، وزهدوا في العمل، وتحولوا إلى أنشطة طفيلة أقل تعبا ومن ثم أقل مردودية، كرعي الماشية أو "الحجاب" أو التيفي" على هامش الحواضر العمالية وبعض المراكز الحضرية، قبل أن يتولى معظم ذلك النشاط فيما بعد، صغار تجار البيظان من موريتانيا ومالي الذين انتقلوا من دول إفريقيا الغربية طمعا في الربح في السوق الليبية الواعدة.

  موريتانيا: تعاطف في الداخل وحماية في الخارج


عبّر العديد من الموريتانيين بمن فيهم المسؤولون عن عواطف جياشة تجاه الأژواديين في محنة الجفاف المشتركة، لكن من لجأ منهم إلى موريتانيا في السبعينات كان محدودا، وكان ينتمي في الغالب إلى المنطقة الغربية الجنوبية للإقليم المتاخمة للحوضين، وقد شاطرهم الموريتانيون عيشهم واستقروا كمواطنين لا يتميزون إلا للضرورة، منهم شباب متعلمون – على قلتهم – وُظّفوا رسميا في الإدارة، ووجوه سياسية وتجار ورجال دين من حفظة القرءان ونسّاخ مصاحف وكتب يكسبون من هذه المهنة العريقة التي كانت في طريق الانقراض في موريتانيا، بعد الاتصال بمراكز الطبع والنشر في العالم. أما الغالبية فكانوا مواطنين عاديين تحللوا في النسيج الاجتماعي المحلي.
   وفي هذه الفترة أقيمت علاقات دبلوماسية بين موريتانيا وليبيا، في خضم الانفتاح الليبي الجديد على العالم العربي، وفتح الحدود لاستقبال مواطنيه للدراسة والعمل، وبصورة خاصة أعطت طرابلس عناية كبرى للموريتانيين الذين انبهرت بثقافتهم العربية الإسلامية، وبسياسة الحكومة الموريتانية، خاصة في التقارب والتعاون العربي الإفريقي، فاعتبرتها الأكثر أهلية لتكون بوابتها إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما جنت طرابلس ثماره على الفور بفتح سفارات في أغلب عواصم المجموعة الناطقة بالفرنسية بتدخل من الرئيس المختار بن داداه، بينما دعمّت طرابلس نواكشوط اقتصاديا بفتح مصرف تجاري على الفور وتقديم وديعة إلى البنك المركزي، ومواكبة خطوات تأميم ميفرما، في وقت كانت وطأة الجفاف قاسية على البلاد، وعُقدت اتفاقيات في مجالات عدة، إحداها تنظّم العمالة والإقامة، ليفتح الباب أمام الطلبة والعمال وحركة التنقل المختلفة.
  وشمل الاهتمام الليبي بيظان أژواد والصحراء الغربية، وتصادف ذلك مع مولد حركة تحرير الصحراء الغربية ضد الاحتلال الإسباني التي تحولت فيما بعد إلى جبهة بوليزاريو، فاغتنمها الليبيون فرصة ليكونوا أول من يقدم لها الدعم العسكري الذي استخدمته في عملياتها الأولى ضد المحتل، وكان ذلك انطلاقا من نواكشوط، حيث ظل المسؤولون الليبيون يتندرون ب"الطيبة  الموريتانية التي مكّنتهم من توريد أسلحة في صناديق مخصصة لكتب المركزين الثقافيين الليبيين في نواكشوط وأطار"!.

وما أن حلت سنة 1975 حتى أصبح وجود الموريتانيين وبيظانهم خاصة مع إخوتهم من الصحراء الغربية ومالي والنيجر وطوارقهما ظاهرة ملفتة في ليبيا، مشكلين جالية واحدة، بعد ما فُتحت المعاهد الوسطى الليبية والجامعات للطلبة من جنوب الصحراء، ووصل عدد من معلمي القرءان الكريم وأئمة المساجد، ثم العمال وصغار التجار، وجاء الصحراويون في مجموعات من تلاميذ المدارس الابتدائية ثم الإعدادية، وبعض المتمرنين على السلاح (1975-1976) أما غالبية الجالية فتنتمي إلى أژواد وأژواڴ وجلها من العمال اليدويين. وبالإضافة إلى الترابط الثقافي والعرقي واللغوي بين هذه المجموعة، زادت اللحمة عبر العمل في الورشات والسكن ضمن التجمعات العمالية في المناطق الصحراوية، يعيشون المشاكل نفسها، فتوحدت المواقف إزاء المطالبة بالحقوق لدى الشركات، ومنها بصورة أساسية قضية تحويل ريع عملهم المضني، وكذلك الدفاع عن النفس خلال الاحتكاكت مع مجموعات أخرى أو مع أرباب العمل.  
وقد تمكنوا جميعا في المراحل الأولى من المحافظة على الصورة المشرّفة التي يحملها الليبيون عنهم، حسب توزيع صدر عن بعضهم: "الموريتانيون مسالمون، حملة علم وحفظة قرءان، والصحراويون أصحاب قضية، والماليون والنيجيريون – بعربهم وطوارقهم – مطارَدون، وهم  رجال، لا يكذبون ولا يخافون".
  ولأسباب عديدة تعيّن على موريتانيا أن تكون الوصية على هذه الجالية، من ذلك وجود سفارة في طرابلس، والارتباط بعلاقات قوية مع ليبيا، من ضمنها الامتيازات المخولة لمواطنيها بموجب اتفاقية قنصلية، ثم لانعدام أية حماية لمواطني مالي الغائبة عن الساحة، والمتبرئة من مواطنيها عمليا، وتوتر علاقات حكومة النيجر مع مواطنيها العرب بعد محاولات انقلابية اتهمتهم بالمشاركة فيها، بينما ظلت مرجعية الصحراويين موريتانيا، إلى أن اندلعت حرب الصحراء في بداية 1976.
وقد سهل الرعاية الموريتانية لهذه الجالية كون السفراء معتمدين لدى الدول المجاورة (النيجر وتشاد) وكذلك بوجود قنصلية عامة في مدينة سبها (1978) قبل أن تحول لاحقا إلى نْيامى، إلى جانب الشُّعبة القنصلية في السفارة بطرابلس، وتوفير الإمكانيات لموظفيهما بالتجوال في أماكن وجود العمال في الداخل ومتابعة قضاياهم مع الجهات المعنية، كما وفرت أسباب الإقامة لهم والتمتع بريع عملهم، وتحويله إلى بلادهم عبر البنوك التجارية، بعد ما عانوا من تغوّل الشركات الأجنبية، كما حمتهم من أخطار التجنيد، المخيمة على المقيمين العرب وبعض الأفارقة المجاورين ومن كل من ليست له حماية قانونية، وذلك في أوج حروب تحرير، أو صراعات داخلية في عدة مناطق من القارة وفي العالم العربي (فلسطين، لبنان، تشاد، السودان، جنوب إفريقيا، الصحراء الغربية). وكانت بداية الإقبال على الأوراق الموريتانية ما توفّر لعمالها من تسهيلات بفضل الاتفاقية القنصلية، التي على أساسها أصدرت السفارة بطاقة، أجازتها دوائر الأمن والجوازات ووزارة العمل، فزالت – إلى حد كبير – العديد من العقبات، رغم الجو المضطرب الذي تمر به الإدارة المحلية آنذاك نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية المستجدة.
وعندما علم أهل أژواد وأژواڴ بالأمر اتجهوا صوب السفارة، على اعتبار أنهم موريتانيون، خاصة منهم البيظان، فاشتُرط في المرحلة الأولى حملهم لأوراق ثبوتية موريتانية كالجواز، الذي كانت غالبيتهم تحصل عليه ـ في فترة زمنية قياسية - من إدارة الأمن في نواكشوط، التي تسلمه لكل من يقدم الملف المعهود الذي يحصل عليه الناس دون عناء، عبر وسطاء من الأقارب أو السماسرة؛ وهكذا بدأت عملية انتشار الأوراق الموريتانية الثبوتية، وتحددت أثمان كل منها (جواز السفر، قيد الازدياد، شهادة الجنسية، البطاقة الشخصية، شهادة الإقامة، شهادة الخلوّ من السوابق، رخصة قيادة السيارة). وكانت التعليمات الدائمة إلى السفارات – التي بحوزتها بعض الجوازات قبل أن تُنزع منها صلاحيات الإصدار- تأمر بتسليمها لكل من يقدم ذلك الملف.
وبعد سنة 1978 تفاقمت الظاهرة، التي كانت مقتصرة على الراغبين في العمل بليبيا، حيث لم تكن مسألة الهجرة إلى أوروبا قد بدأت، مما جعل العديد من السفارات تنبّه إلى خطورتها، ومنها بعثة طرابلس مصطحبة مع الرسائل – أحيانا - نماذج من وثائق رسمية موقعة ومختومة  من جهات عدة تابعة للإدارة الإقليمية، دون ملء خانات الأسماء الشخصية أو العائلية - للتحذير من مخاطر العملية وضرورة وقفها. وعلى كل كانت موريتانيا في تلك المرحلة من أواخر الدول التي "طُرحت" أوراقها في "السوق" وأقلها عددا، ضمن منظومة إفريقيا الناطقة بالفرنسية التي ظلت جوازاتها إلى عهد قريب تباع بمبالغ زهيدة، وفي طليعتها مالي وزائير ونيجيريا، عكس دول لها خصوصيات تحافظ عليها، كالكاميرون والغابون وأنغولا ورواندا وبوروندي، أو الدول العربية الإفريقية أو معظم تلك الناطقة بالإنڴليزية، ولم تول الحكومات المعنية أهمية بالموضوع إلا مع تنامي الجريمة العابرة للحدود، واندلاع الحروب ضد ما سمي الإرهاب. 
 

البطاقة القنصلية (بناءً)


   انتشرت بين الموريتانيين والماليين والنيجيريين – كما سلف - البطاقة القنصلية، سواء كانوا من حملة الأوراق الموريتانية، أو من غيرهم، ممن تقطعت بهم السبل، فشوهد العديد من حملتها – مؤشّرة - في جدة، إذ كان بعض السفراء السعوديين يُغمضون أعينهم حتى "لا يَرُدّوا الموريتانيين عن زيارة الحرمين الشريفين".
وترسخت أسطورة "بناءً" - كما سُميت - دون مثيلاتها التي تُصدرها سفارات الدول المرتبطة باتفاقيات مشابهة بليبيا، ولم تعد حكرا على من أنشئت لهم، بل وُجدت لدى بعض الجنسيات الأخرى، حيث تُنتزع صورة صاحبها وتوضع محلها صورة المالك الجديد، وطبقت شهرتها آفاق ليبيا وحيزها.
وَوَجدت جميع الأطراف ضالتها في البطاقة، حيث وفرت على السلطات الرسمية الليبية الجهد، بوجود مرجعية قانونية مسجلة عليها، وأصبحت تضع عليها الإقامة بدل الجواز أحيانا، وذلك بلا شك رغبة في تسهيل أمر حملتها، ومساعدتهم؛ هذا في وقت لا تشكل فيه البطاقة وثيقة دولية معترفا بها، تكون لها تبعات قانونية محرجة، حيث لا تضم سوى النص التالي:
"بناء على الاتفاقية القنصلية الموقعة بين الجمهورية الإسلامية الموريتانية والجمهورية العربية الليبية بتاريخ 13 شعبان 1393 هـ الموافق 10 سبتمبر 1973م والتي صدرت بقانون ليبي رقم 99 لسنة 1973م والتي تنص على حق مواطني الدولتين في مزاولة كل المهن والأعمال الحرة في كلا البلدين والدخول بدون تأشيرة - دخول وإقامة بدون حدود- إذا كانوا يحملون وثائق سفر معترف بها.
ترجو السفارة الموريتانية بطرابلس من السلطات والهيئات في الجمهورية العربية - كل في ما يخصه – السماح بالإقامة والعمل لحامل هذه البطاقة".


وقد استمر الإقبال على "بناء" إلى عهد قريب، رغم جميع المحاولات التي قامت بها السلطات الموريتانية، خاصة بعد انتفاء جل الأسباب التي ساهمت في انتشارها مثل وقف حرب الصحراء سنة 1978، وفتح سفارة لمالي في طرابلس سنة 1980.  يتواصل
 









أوراق عن أژواد/ الثامنة/ الترابط مع ليبيا

$
0
0

طاب المقام في ليبيا مع بداية ثمانينات القرن الماضي لطوارق مالي والنيجر وعربهم وبعض الموريتانيين، حيث وجدوا قواسم مشتركة مع المواطنين الليبيين، الذين عاملوهم بكرم وتسامح، وهو دين اشتهروا به على مدى التاريخ، حيث اكتشف الطرفان بعضهما البعض، فالوافدون بحاجة إلى العناية والاستقرار، وبعض القبائل الليبية متعلقة بأصول تربطها بالساقية الحمراء والصحراء، من هجرات مرتدة من تلك الأصقاع بعد ما وصلت مع الهجرة العربية (الهلالية) الشهيرة التي تشكل معظم عرب ليبيا.  وفي ظل النظام القبلي الذي هو أساس الحكم في ليبيا آنذاك، كانت القبائل تتبارى في تعزيز مراكزها ضمن التنافس على السلطة والنفوذ، حيث اكتشفت أن للكثير منها صلات "قرابة" مع قبائل البيظان، وأرادت أن تعزز وضعها حتى ولو لم يتحقق من ذلك – في النهاية - الشيء الكثير. ويتكئ بعضهم في ذلك إلى روايات قديمة عن وجود صلات قرابة، كما الحال بين أولاد سْليمان في فزان وعشيرة أولاد سْليمان البربوشية، بينما يرى معظم الباحثين أن الأمر لا يعدو تشابها في أسماء القبائل العربية على طول أوطانها من الجزيرة العربية إلى الصحراء الكبرى. ومن ذلك في ليبيا وموريتانيا: البحيحات، أولاد إبراهيم، البريكات، الجعافرة، أولاد موسى، اليعاقيب (إيديقب) أولاد خْليفة، بنو داوود (أولاد داوود) بنو رزق (أولاد رزق) أولاد عطية، أولاد سالم، الشويخات، أولاد الشيخ، الطرشان، الفقرة، أولاد عبد الله، العبيدات، أولاد عْلي، العيايشة، القواسم، القرعان (الڴرع) أولاد مبارك، أولاد ناصر (أولاد الناصر) أولاد وافي (أولاد الوافي) الهماملة (الهمال) أولاد يونس... ومن هذه القبائل مَن اسمه واحد لكنه يختلف في الأصل إذ البعض عربي والآخر أمازيغي.  أما بالنسبة للطوارق فالأمر أسهل، لأن الرابطة لم تنقطع بين مَنهم في شمال الصحراء وفي جنوبها.
 وساهمت القرابة هذه في اكتساء هجرة الطوارق الماليين والنيجيريين وعربهم في الثمانينات طابعا جديدا شجع على التحاق العديد من أسرهم بهم في ليبيا، حيث فُتح لهم باب التجنيس كبقية المواطنين العرب، باسم "الجنسية العربية" وهي غير الجنسية الليبية، التي اقبل عليها الكثيرون من مواطني الدول العربية الذين لم يجدوا فرصا في التمتع بالإقامة وحق العمل، فتوفرت لهم الخدمات نفسها التي يتمتع بها الليبيون: التموين ومجانية التعليم، ومزاولة بعض المهن، ولكن مع التجنيد في القوات  وقوات الأمن، الذي يؤمن نظريا الحماية والنفوذ، لكن هذا الوضع لم يشمل في الحقيقة من الأژواديين والأژواڴيين سوى من ليست لهم أوراق ثبوتية تخولهم الإقامة أو البطاقة القنصلية، التي كان الليبيون يتحاشون مضايقة حمَلَتها. إلا أن هناك البعض الذي حصل على الجنسية الليبية، منهم مجموعة الطرشان النيجيرية ذات الأصول العربية الحسانية المهاجرة من موريتانيا إلى أژواد ومنه إلى النيجر، فقد التحمت بالمجموعة الليبية التي تحمل الاسم نفسه واستقرت في سرت إلى اليوم.


الدخول إلى ساحات المعارك


 مع استمرار أوضاع مالي والنيجر في التدهور اقتصاديا واجتماعيا، ازدادت الاضطرابات والتناحر على السلطة في باماكو ونيامى وتوالت الانقلابات العسكرية أو محاولاتها، فتفاقمت أحوال العرب والطوارق بصورة أكثر، واستفحل البؤس، واتسعت الهوة بينهم وحكومتيْهما، التين لم تثق يوما في ولائهم، وظلت على مدى عقود من الزمن تتهمهم بتربص الدوائر بها، حتى قبل انخراطهم في عملية التجنيد. وقد تسارعت الأحداث ليتحقق ما كان مجرد اتهام، عندما دخلت طرابلس في حلبة الصراع الإقليمي والدولي المعقّد، ضمن طموح العديد من القوى الناشئة إلى ملء الفراغ، الذي تركه لاعبون كبار في الساحة، بعد أن ظلوا مهيمنين عقودا من الزمن، كمصر والهند ويوغوسلافيا (على رأس كتلة عدم الانحياز) وتزامن ذلك مع انفجار صراعات دامية في المشرق العربي بسبب محاولة إسرائيل القضاء على الثورة الفلسطينية، التي كانت في أوج عنفوانها، حيث نجحت في إرغامها على الانغماس في الشؤون الداخلية للدول المجاورة الضعيفة، فدخلت في صراعات دموية جانبية مع الأردن الذي كادت تطيح بنظامه، ثم مع لبنان الذي كانت فاعلا رئيسيا  في حربه الأهلية، ثم المشكلة الأفغانية مع غزو الاتحاد السوفيتي لها، وتفجر الثورة الإيرانية، التي كانت مقدمة للحرب المدمرة العراقية الإيرانية.
وقد أغرى هذا الوضع ليبيا التي كانت في أوج انفتاحها على العالم الذي جعلها قبلته، لما لها من ثروات نفطية هائلة، واستعداد لوضعها في خدمة أهدافها السياسية الطموحة، وخاصة محاربة السياسات الامبريالية، فانجرت إلى الدخول في مواجهات مسلحة مع مصر (سنة 1977) والسودان (1976) وتونس (قفصة 1980) وتشاد، وانخرطت في العديد من بؤر الصراع: جزر مورو بجنوب الفلبين، وباناما ونيكاراغوا، وأيرلندا الشمالية، مع أنها طرف – بشكل أو آخر - في حرب الصحراء الغربية.
  في هذه الظروف كانت طرابلس في حاجة ماسة إلى العنصر البشري، لاستعمال ترسانتها الضخمة من الأسلحة، فاتجهت إلى تجنيد الكثير من المواطنين العرب – كما سلف - الذين جذبتهم الحملة الدعائية الكبيرة التي تقدم ليبيا كقلعة للحرية والمقاومة ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والميز العنصري، بديلا لمصر جمال عبد الناصر، وهو ما استجاب له في بداية الأمر الكثيرون، وغالبيتهم تنتمي إلى منظمات سياسية معارضة لأنظمة قائمة في الدول المجاورة، مما عرّض طرابلس لضغوطٍ وتشهيرٍ إعلامي، أدى في النهاية إلى تسريح غالبيتهم، أو وضعهم مباشرة تحت تصرف منظماتهم، كما الحال في السودان وتشاد. وكان ممن بقي في جيشها من المجندين مجموعات من شباب أژواد وأژواڴ عربا وطوارق، شاركوا في عمليات خارجية، من أهمها الانضمام إلى مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982؛ ضمن قوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، حيث دخلوا في مواجهة مع الإسرائيليين في الجنوب اللبناني، الذي قاتلوه ببسالة، فسقط منهم عدد من الشهداء، ثم اتجهوا إلى الشمال لينسحبوا مع الجيش السوري إلى دمشق، لكنهم لم يلبثوا أن لجؤوا إلى السفارة الموريتانية - على رأسهم إياد آڴ غالي - لتؤمّن لهم الحماية والعودة إلى وطنهم. وقد حاول مبعوث من أمين الجبهة العام أحمد جبريل أن "يستعيدهم" لكنهم رفضوا الاستمرار في التعامل مع هذه الجبهة، التي اتهموها بالخَوَر، وأفرادَها بالفسوق، وهم الذين جاءوا "دفاعا عن الإسلام والمسلمين"، وقد رتبت السفارة سفرهم إلى الجزائر، الأقرب إلى وطنهم.
ومع اشتداد الصراع بين ليبيا وتشاد سنة 1987، ووقوع قوة ليبية كبيرة في أيدي التشاديين في "فايا لارجو" و"وادي دوم" وشلل قوات الدروع والدبابات، وبروز فاعلية القوات الخفيفة المشكلة من سيارات الدفع الرباعي، المجهزة بالرشاشات والمدافع، اتجهت ليبيا إلى هذا السلاح، وإلى تكوين كتائب سريعة الحركة، كان فرسانُها بلا منازع الأژواديين، مثل الصحراويين قبل ذلك بسنوات. وقد شارك العديد منهم في معارك منطقة آوزو محل النزاع بين ليبيا وتشاد، قبل أن تعود إلى الأخيرة في تسعينات القرن الماضي بقرار من محكمة العدل الدولية التي أنيط بها الملف؛ كما شارك عدد محدود من رجالهم في العمليات المسلحة في أزواڴ وخاصة أژواد من سنة 1990 – 2006 ضد حكومتيهما، مع العلم أن السلطات الليبية ظلت حريصة على منع انتقال أعداد مؤثرة من الرجال والسلاح إلى الدولتين، التين ارتبطت معهما بعلاقات قوية، وجعلتهما حجر الزاوية في سياستها بإفريقيا التي استثمرت فيها طاقات سياسية واقتصادية كبيرة، فألجمت أي محاولة جادة تنطلق من أراضيها لتهديد الحكومتين، إلى جانب معطى آخر هو احترام تفاهما مع الجزائر بأن لا تتعدى حدودا معينة في نشاطها داخل الإقليمين، حتى أنها أغلقت قنصليتها في كيدال بعد فترة قصيرة من فتحها بضغط جزائري.
وقد أثبتت الأحداث اليوم أن أژواديي ليبيا كانوا يحضرون أنفسهم من زمن طويل لانتهاز أول فرصة تتاح، للعودة إلى صحرائهم وتحقيق حلم الأجيال بإقامة كيان ينعمون فيه بما حُرموا منه خلال نصف قرن:الحرية والكرامة، واستعادة الهوية الثقافية والدينية، وقد توفرت هذه الفرصة بعد اندلاع ثورة فبراير الليبية سنة 2011، وقيام حلف شمال الأطلسي بشن غاراته المدمرة، حتى سقط النظام، مما قلب الموازين في الإقليم وفي المنطقة بأسرها. فانتقل الأزواديون دون عناء إلى وطنهم ليطردوا الجيش المالي بسهولة مذهلة، وبتنسيق كامل ومحكم بين الفصيليْن الرئسييْن حركة تحرير أزواد، وحركة أنصار الدين، ويحكموا سيطرتهم على الإقليم المترامي الأطراف، ومدنه وبلداته، وذلك رغم التباين في الأهداف المعلنة، فالأولى علمانية لا ترضى بغير الاستقلال بينما تعلن الثانية أن مطلبها تطبيق الشريعة الإسلامية ولا تتحدث عن الانفصال. يتواصل

كلمة محمد محمود ودادي رئيس لجنة منسقية المعارضة الديمقراطية المكلفة بالقضايا الدبلوماسية في ندوة المنسقية حول الوضع في مالي

$
0
0

انطلاقا من مسؤوليتها في الدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين وهمومهم، والسهر على مصالح موريتانيا الداخلية والخارجية، وأمنها واستقرارها، ومن ثم علاقاتها الخارجية خاصة مع الدول الشقيقة والصديقة، أحرى المجاورة- تابعت منسقية المعارضة الديمقراطية باهتمام وقلق عميق الأزمة التي اندلعت بداية العام الحالي في جمهورية مالي الشقيقة، وآلت إلى فقدان الحكومة المركزية السيطرة على ولايات إقليم أزواد الذي تشكل مساحته أكثر من ثلثي مساحة مالي.
وقد ارتأت المنسقية أن تنظم ندوة، تقدم فيها رؤيتها حول الأزمة وأبعادها وتداعياتها على موريتانيا والجوار بل الإقليم كله، إذ لا ننسى أن لنا مع جمهورية مالي علاقات متشعبة قلّ نظيرها بين الجيران، حيث نرتبط معها بحدود تبلغ حوالي 2 237  كلم، معظمها مع إقليم أزواد، أما الروابط التاريخية الضاربة في أعماق الزمن، فحدث ولا حرج، حيث انتمينا كلانا إلى إمبراطوريات وممالك عظيمة كغانه والتكرور التين كان مهدهما موريتانيا، وجزئيا: ملي (مالي) فيما بعد، ثم جمعتنا دولة المرابطين التي امتدت شرقا وجنوبا حتى النهر، كما تبعت أطرافٌ من الحوض الحالي لنفوذ إمبراطورية السونغي، وفي الزمن المعاصر خضع البلدان معا للاستعمار، وشكلا مع آخرين اتحاد غرب إفريقيا، بل ظل الحوض جزءا من السودان الفرنسي، حتى سنة 1944.
وتتشعب العلاقات، لتغطي نواحي الحياة كافة: من تمازج عرقي واجتماعي وترابط ديني وثقافي، وتشابك مصالح: تجارية وزراعية وتنموية، سواء بين المواطنين أو بين الحكومات، خاصة بعد إقامة منظمة استثمار نهر سنغال التي تُعد أنجح مشروع مشترك في الإقليم بل في القارة؛ ورغم خلافات عابرة ظلت العلاقات مع مالي في جميع الحقب، وتحت مختلف الأنظمة مثالية، لما يُسندها من روح محبة حقيقية وتقدير متبادل.
ولكل من ولايات ڴيديماغا، والعصابة والحوضين الغربي والشرقي، وحتى ولايات الوسط والشمال علاقات ذات خصوصية مع مثيلاتها المالية المقابلة، ومن ضمنها ولايات أزواد، بسبب الانتماء إلى الفضاء الصحراوي الواحد الذي يجهل الحدود، ليظل مهدا للهجرات القادمة من موريتانيا وإليها، منذ أكثر من عشرة قرون، فتشكلت وشائج قربى، لم تؤثر فيها التقلبات المختلفة ولا المسافات البعيدة.
وخلال الأزمات المتعاقبة من سنة 1963 التي عاشها إقليم أزواد، وحتى تلك التي انفجرت في التسعينات ثم بداية الألفية الجديدة، كان الحضور الموريتاني بارزا سواء على صعيد إيواء المتضررين من تلك الأزمات، أو  في المساعدة على الوصول إلى حلول سلمية برغبة الطرفين: الحكومة، والحركات المنتفضة؛ وفي المقابل كان لمالي دورها المشهود في تطويق الأزمة بين موريتانيا وسنغال سنة 1989، إضافة إلى إيوائها للاجئي موريتانيا.
ستتناول هذه الندوة اليوم جوانب رئيسية من الأزمة في مالي، بشقيها المتعلقين:
 أولا: وضع إقليم أزواد الذي هو مشكلة داخلية لجمهورية مالي، يجب على الماليين أنفسهم التصدي لها - عبر الحوار - بما يضمن تسويتها بشكل دائم، وحسبما ترتضيه الأطراف المعنية، التي تتقاسم: الدين والثقافة والمصالح المشتركة، وفوق كل شيء الانتماء لوطن واحد، عريق في حضارته، وذي تاريخ مجيد. أما دورُ موريتانيا فهو الاستعداد لتقديم كل العون للطرفين، بما يسهل الوصول إلى الحل المنشود.
أما الشق الثاني فهو الإرهاب، الذي عشّش في الإقليم بعد أن مهدت له شبكات التهريب المختلفة التي بلغت أوجها بدخول أنواع المخدرات المغذية لإفريقيا والشرق الأوسط وأوربا، فتغلغلت بنفوذها في المجتمعات المحلية والمجاورة، وحتى في مكامن السلطة في بعض دول الإقليم، ومن ثم التحمت بالمجموعات الإرهابية الوافدة، بعد التقاء مصالحهما، فأصبحت مصدرا جديا لتهديد أمن واستقرار الدول المجاورة، وفي طليعتها موريتانيا، مما يتطلب معالجة حكيمة واستعدادا يضمن الدفاع عن الحدود على الحدود والداخل، بعيدا عن الأجندات الخارجية، وصراعات القوى الأجنبية ومصالحها.
وستعالج الندوة الأزمة في أربعة محاور:
الجذور والأطراف،
الرهانات والآثار
موريتانيا والأزمة،
الدروس المستخلصة لموريتانيا،





نواكشوط في ‏19‏ شوال‏ 1433/ 5 شتنبر 20012

أوراق / التاسعة/ الانتصار العسكري والتركة الثقيلة

$
0
0

من نتائج سقوط النظام الليبي - التي فاجأت الجيران ودول حلف شمال الأطلسي - خروج تشكيلات أژوادية مدججة بالسلاح من رحم القوات الليبية، وقطع آلاف الكيلومترات عبر النيجر وربما الجزائر، لتأخذ مواقعها نهارا جهارا في أرض أژواد، وتباشر استعداداتها الحربية أمام أعين القوات المالية المرابطة في قواعدها المختلفة، وتحتل بسرعة البرق كامل إقليم أژواد، وتنهي وجود الحكم المالي جيشا وإدارة.
ومن الواضح في هذه الملحمة إحكام الخطة التي وضعت لتحقيق أهدافها المصيرية، دون خسائر تذكر، بفضل الكفاءة العسكرية، وانضمام غالبية المقاتلين الأژواديين العاملين والمسرّحين والمنخرطين في الجيش المالي، واختيار الوقت الأنسب، حيث كان الجميع منشغلا بما يجري داخل دول الربيع العربي، دون أن يرفعوا البصر صوب حزامه الجنوبي، حتى يروا حراكا ربيعيا آخر على يد فصيل من هذا النسيج الاجتماعي والبيئي العربي الإفريقي الإسلامي، الذي عانى منذ القرن الثامن عشر الغزو الاستعماري الصليبي والذي استعبد السكان ونهب الخيرات، وحارب الدين واللغة، ومسخ الهوية وحطم أسس المجتمع الأهلي، قبل أن يضطر كارها - في أحيان كثيرة- إلى الانسحاب تحت ضربات المقاومة التي لم تتوقف وإن تعددت أشكالها، ويغادر - في أحيان أخرى - بترتيب مرتب، يضمن استمرار النهج على يد أنظمة حارسة لمخلفاته.
لقد كان من الجلي أن الحركات الأژوادية قد استوعبت دروس نضالها الطويل الذي شاب فيه الولدان، والنكسات التي تعرضوا لها، خاصة ثورة 1990 التي قادتها حركة تحرير أژواد بزعامة إياد آڴ غالي، قبل أن تتفرق إلى خمسة فصائل موزعة الولاء - الكلي أو الجزئي - بين الدول المجاورة (الجزائر، ليبيا، المغرب، بوركنا فاصو، موريتانيا) لتكون ثمرةُ التضحيات الجسيمة التي قدمها المقاتلون والشعب الأژوادي في الداخل وفي المهجر، رزم من الاتفاقيات والالتزامات، التي صدرت عن مؤتمرات جُند لها عشرات الدبلوماسيين، وأظلتها منظمة الأمم المتحدة، بمشاركة المنظمات الإقليمية، والدول المجاورة والمانحة. وكل ما تحقق تظاهرات دعائية فولكلورية، أهم مشاهدها حرق السلاح، ووعد بماكو بإقامة حكم أقل مركزية، والتزام  المانحين بتقديم مساعدات اقتصادية لتنمية الإقليم وفك عزلته وربطه بمسيرة التنمية في مالي، غير أن كل ما نُفذ إنشاء ولاية جديدة على الورق في كيدال، بدون موارد ولا تجهيز، وضمِّ مجموعة من المقاتلين إلى الجيش المالي، واكتتاب بعض صغار وكلاء الإدارة، بينما استحوذت الحكومة المركزية على المساعدات المقدمة من المانحين، واكتتاب الأمم المتحدة بعض زعماء الجبهات المقاتلة. لذلك لم يكن أمام زعماء الحركات الأژوادية بعد عقدين من اتفاقيات تمنغاست ومماطلة الحكومة سوى الدخول في هذه المغامرة الكبيرة ورفع سقف مطالبهم هذه المرة إلى أقصاه، وهو الاستقلال (حركة تحرير أژواد) أو تطبيق الشريعة الإسلامية في مالي كلها (أنصار الدين).
وكان من المنطقي – لو في مالي حكومة مسؤولة – أن تُقر بالأمر الواقع وتتعامل مع الوضع الجديد بحكمة وصدق في النيات، وتبدأ مفاوضات فورية بعد أن أعلن الطرف الثاني استعداده لها، لكن عادة السلطة المالية التعنت والاعتماد على العنف، وهو ما تغلب هذه المرة أيضا. في هذا الوقت دخلت على الخط فرنسا، الوصي المعتمد على مستعمراتها السابقة، فشجعت انقلابا عسكريا على الرئيس المنتهية ولايته، ودخلت في اتصالات علنية مع حركة تحرير أژواد، موحية بأنها خاضعة لها، عندما تدخلت بقوة لمنع تنفيذ اتفاق بين الحركة وأنصار الدين ينص على أن الدولة الجديدة ستطبق الشريعة الإسلامية.  وبذلك دقت إسفينا بين الحركتين، مما عجل بإبعاد حركة تحرير أژواد عن الساحة، وتوزيع النفوذ بين أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، وخلق حالة من الفوضى في بماكو بعد أن تبين أن قائد الانقلاب عاجز عن تحقيق ما كانت تعلق عليه من آمال، فتحملت بذلك مسؤولية في ما يجري اليوم في بماكو من فوضى سياسية وانفلات أمني، وإفلاس أخلاقي كان آخر تجلياته قتل الدعاة.
لقد كانت تصرفات فرنسا خلال سنوات ساركوزي في الإقليم عودة فجة لممارسات خلية "فرنسا - إفريقيا" التي حمت الأنظمة الفاسدة وضمنت لفرنسا الاستيلاء بأقل ثمن على خيرات تلك الدول، وخططت ونفذت معظم  الانقلابات التي أطاحت بكل من شب عن الطوق، وحاول الإصلاح في بلاده.
العلاقة بين السلطة والجريمة المنظمة
كان آخر رئيس لمالي هو الجنرال أمدو توماني توري، الذي قضى مأموريتين رئاسيتين، وهو قائد انقلاب 1991 على الجنرال موسى تراورى، حيث تفاهم مع زعماء الحراك المدني على أن يعود إلى السلطة بعد الرئيس المدني عمر كونارى، وظل مدلل الغرب لقبوله الانتظار حتى حلول فرصته، وارتبط بدوائر صنع القرار، ومنظماته المشرفة على ترسيخ أنموذج النظام الغربي للحكم في القارة، وترميم ما تهرأ منه، مثل مركز كارتر والمعهد الأمريكي للديمقراطية، وغيرهما من المراكز والمنظمات الممولة من مؤسسات الغرب، وأصبحت البلاد أحد أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بصورة فردية، لتكون واجهة في غرب إفريقيا، ومضرب مثل في الحكم الرشيد المسالم، الزاهد في السلطة! حيث لا يملك الرئيس حزبا وبالمقابل لا يواجه معارضة، وإنما الجميع في أغلبيته، مما خلق فراغا سياسيا: لا نقاش ولا جدل ولا حوارا، الكل حر في الانهماك في شأنه الخاص، على حساب قضايا الوطن. وفي هذا الجو انتشرت الجريمة المنظمة: التهريب والاتجار بالمخدرات والسلاح واختطاف الرهائن والهجرة السرية، وكلها شكلت أنشطة مربحة للمتنفذين في الحكم.
كان التهريب قد انطلق ابتداء من تسعينات القرن الفائت من الدول المجاورة ذات المنافذ البحرية: موريتانيا وسنغال وغينيا وساحل العاج وغانة وتوغو وبنين ونيجيريا والجزائر، أو البعيدة كليبيا والمغرب، وشمل في مراحله الأولى السلع المختلفة من مواد غذائية مدعومة (في ليبيا والجزائر) ومحروقات (جزائرية) وأدوية، وملابس وسيارات ... وخاصة السڴائر التي ساهم تهريبها إلى حد كبير في ظهور شبكات المخدرات. وقد ازدهر في أسواق شمال أفريقيا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بسيطرة قلّة من اللاعبين الكبار. وزوّدت تلك المستوردة منها عبر موريتانيا جزءاً كبيراً من الأسواق الجزائرية والمغربية، في حين تم توجيه تلك المستوردة عبر كوتونو في بنين ولومي في توغو، عبر النيجر وبوركينا فاسو، إلى ليبيا والجزائر. وأطراف هذه التجارة الفاعلون هم موزّعوها القانونيون، الذين يستوردونها من مناطق التجارة الحرّة مثل دبي، بدل الدول المصنعة لها مباشرة .
إن دوافع تهريب السلع وتجارتها فروق الأسعار بين الدول وتجنّب الرسوم والضرائب، وجرت بتواطؤ من فاعلين في المؤسسات الجمركية، قبل أن تنتشر في مختلف الإدارات المعنية، وتتغلغل في أجهزة الأمن والرقابة وفي قوات الجيش، وتصعد إلى الصفوف العليا في المؤسسات الحاكمة لبعض هذه الدول.
و ما أن حلت الألفية الجديدة حتى حلت المخدرات محل البضائع القانونية، وتدفقت بسرعة من مصدريْن رئيسييْن: جنوب أمريكا عبر موانئ دول غرب إفريقيا: الكوكايين، وصمغ الحشيش من المغرب عبر موريتانيا أساسا، وأصبحت مالي أكثر الدول المتلقية لهذه السموم، وفي منطقتها الحدودية مع الجنوب الشرقي الموريتاني أقيم أشهر مركز لهذه الأنشطة هو أمگدي.
ومع قيام تمرد ضباط طوارق في الجيش المالي في كيدال سنة 2006 ضد الحكومة المتهمة بعدم الوفاء بالتزاماتها المتكررة، ظهرت على السطح الصراعات بين شبكات تهريب المخدرات، وبينهم والمجموعات المهيمنة على المنطقة التي تسعى لفرض إتاوات على المهربين، الذين تفاحش غناهم ومعه بطرهم. وهكذا أصبح الإقليم وما جاوره بؤرة بؤرة لتجارة المخدرات وتوزيعها الذي يغطي المشرق حتى السودان ومصر والسعودية ودول الخليج، وأنحاء من أوروبا.
وقد دخلت حكومة بماكو على الخط بعد تمرد 2006 "فحرضت قادة بعض الجماعات ضد جماعات أخرى، واعتمدت على قبائل محددة للإبقاء على منطقة الشمال تحت السيطرة. ولمواجهة قبيلتي إيفوقاس وإيدنان اللتين ينتمي إليهما المتمردون تحالفت القيادة المحيطة بالرئيس أمادو توماني توري، مع المتمردين المنافسين، وخاصة منهم القيادات المنتمية إلى قبائل البرابيش والامهار العربيتين، وكذلك إلى قبائل إيمغاد الطارقية.
في بعض الأحيان كان المسؤولون في الدولة يتدخلون بشكل مباشر، كما فعل المقدم لمانه ولد ابوه (ولد محمد يحيى) - وهو ضابط في جيش مالي له علاقات وثيقة مع رئيس جهاز أمن الدولة - خلال اشتباك وقع في أغشت 2007 بسبب شحنة كوكايين، حيث رتّب عملية إعادتها مقابل مبلغ مالي كبير، كما شجعت الحكومة شخصيات عربية بارزة من مناطق تنبكتو وگاوو على تشكيل مليشيات لحماية مصالحها التجارية، وذلك ضمن تعبئة الزعماء العرب لمحاربة المتمرّدين؛ وترأس هذه القوات مؤقتا ضباط من الجيش المالي، هو العقيد محمد ولد ميدو.
ويمكن ملاحظة العلاقة بين الوجهاء المحليين والدولة ورجال الأعمال، وتجارة المخدرات في شحنة الكوكايين الضخمة المفترضة، التي تم نقلها في نومبر 2009 إلى شمال مالي على متن إحدى الطائرات، التي هبطت في منطقة تاركنت، شمال گاوو. ويعتقد أن وجهاء الأمهار على الأرجح – كما يقول صحفي جزائري على صلة بدوائر الأمن - هم الذين تعاملوا معها، وعلى رأسهم عمدة البلدة.
وقد وصلت التوتّرات إلى ذروتها في يناير 2010، عندما استولت مجموعة مسلحة مكونة من أفراد من قبيلتي إيفوقاس وكنته على شحنة كوكايين كبيرة كان ينقلها مهربون متحالفون مع الحكومة من قبيلتي إيمغاد والأمهار، الذين ردوا بخطف زعيم كنتي في منطقة گاوو.
كان لمثل هذه الصراعات المرتبطة بالتهريب بُعد سياسي أوسع أيضاً. فشقّة الخلاف التي كشفها الحادث الأخير ترتبط بالانقسام بين حلفاء القيادة في مالي وأعدائها. وعلاوة على ذلك، كانت قبيلتا الأمهار وإيمغاد تابعتين تاريخياً لقبيلتي كنته وإيفوقاس، على التوالي. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها صراعات تنطوي على تنافس بشأن علاقة التبعية. فقد اندلعت اشتباكات خلال التسعينات، حتى بعد انتهاء تمرّد الطوارق.
وقد وقعت عملية مشابهة في منطقة تنبكتو، ونجحت الشخصيات المرتبطة بتهريب المخدرات في الضغط على قيادة مالي لإنشاء منطقة إدارية منفصلة (تاودني) وعدة مناطق جديدة في سياق عملية إصلاح إداري تم اعتمادها قبل اندلاع التمرّد الأخير مباشرة. وبالإضافة إلى ذلك، تم في كثير من الأحيان استثمار الأرباح المتحققّة من التهريب في الماشية والبنية الأساسية المرتبطة بها، مثل الآبار، ما أفضى إلى تأجيج التوتّرات بين المجتمعات على الموارد" .
وكان المراقبون الخارجيون وخاصة المسؤولين في الدول المانحة يغضون الطرف عن علاقات المسؤولين في الدولة والقادة السياسيين بالشبكات الإجرامية حتى لا يضعوا النظام في ورطة، وهم يعولون عليه في مواجهة الحركات المسلحة، التي يوليها صنّاع القرار في الغرب كل اهتمام بوصفها منظمات إرهابية. يتواصل

أوراق عن أژواد/ العاشرة/ خطر الانزلاق والفشل

$
0
0
رحب شعب أژواد في غالبيته الساحقة بتحرير إقليمه، واستبشر خيرا رغم ما عاناه جراء الاقتتال بين الثوار والجيش، الذي دفع فيه أثمانا باهظة، على رأسها النزوح الداخلي واللجوء إلى الدول المجاورة.
  وكان على القادة الجدد أن يتصرفوا كأبناء بررة لشعب مقهور ومشتت، لا بد من لمّ شمله وتضميد جراحه، وطمأنته على حاضره، وأن يسهروا على صون وحدته، وكسب ثقته، ويزنوا ما حملوه على عواتقهم من مسؤوليات جسام أمام الله والشعب والتاريخ والجيران  والعالم، حتى يثبتوا جدارتهم بما حققوا من انتصار.
ومن الغريب أن الثوار لم يضعوا في الحسبان ما بعد التحرير، إذ لم نر خططا جاهزة للسيطرة الفعلية على الأرض، وضمان استمرار المؤسسات الرسمية القائمة – على علاّتها – من إدارة ومصالح خدمية من طب وتعليم وزراعة ... وشرطة، لأن حياة الناس مرتبطة بها، وهي وسيلة الحاكم لضبط الأمور وصيانة الحقوق وبسط العدل والإنصاف، ثم العمل على إرجاع النازحين واللاجئين إلى أوطانهم، وطمأنة الجيران، وخلق جو من الثقة معهم سعيا وراء بسط السلم والأمن والاستقرار في المنطقة، والتعاون مع المنظمات الإنسانية والإغاثية، مما سيعتبر رسالة طمأنة إلى العالم، وبالتالي إزالة مسوغات العودة إلى الأوضاع السابقة، ونزع فتيل التدخل الخارجي.
لقد خاب أمل الكثيرين من أبناء أزواد والمتعاطفين مع قضيته ممن كانوا ينتظرون السير في هذا المسلك، رغم تفهم طبيعة تكوين الحركات الأژوادية والظروف التي انطلقت فيها للإجهاز على الجيش المالي، وكذلك الوضع داخل الإقليم، وعلى الخصوص إرث العقدين الأخيرين من الفوضى والتخريب. نعم ضاعت فرصة ثمينة خلال الأشهر الستة الماضية، وزاد الوضع تعقيدا. فقد ظهر إلى العلن الخلاف بين الحركتين الرئيسيتيْن التيْن قادتا الحرب وحققتا الانتصار: الحركة الوطنية لتحرير أزواد وأنصار الدين، بمآزرة بعض كتائب القاعدة في الغرب الإسلامي .
ولولا أن قادة الحركتين ينتمون إلى المجموعة التي ظلت رأس حربة النضال منذ الستينات: إفوقاس، بل يرتبطون بعلاقات قرابة مباشرة وتجمعهم المصاهرة لكانت عواقب الاختلاف مأساوية؛ وقد أُعجب المراقبون بأنهم وضعوا جانبا - منذ الوهلة الأولى - الاختلاف الإيديولوجي: العمانية والسلفية، وحافظوا على التشاور والتواصل الأُسري، واضعين نصب أعينهم قضية تحرير الإقليم. غير أن الصائدين في المياه الآسنة نجحوا في تعطيل سلاح أحد أجنحة النضال (حركة تحرير أزواد) بجرها إلى الدخول في مواجهة دامية مع مجموعة سلفية منشقة عن أحد فروع القاعدة في المغرب الإسلامي منذ العام الماضي (حركة التوحيد والجهاد) المكونة أساسا من عرب أزواد وموريتانيا وبعض أبناء دول الكور المجاورة، ومن بين قادها من هم متهمون بالضلوع في الاتجار بالمخدرات.
وحسنا فعل زعيم حركة أنصار الدين إياد آك غالي في البداية بنأيه عن هذا الصراع رغم أنه يقدّم كحليف لبعض الحركات الأصولية المسلحة، وفي الآن نفسه يعد أبرز قائد في إيفوقاس الذين يتزعمون - اليوم كما الأمس - قيادة الكفاح المسلح ضد حكومة بماكو، والذين إليهم تنتمي غالبية كوادر حركة تحرير أزواد أيضا.  وهذا التبصر قد يجعله الرابح من العملية بحيث استوعب دون عناء جميعَ مقاتلي الحركة التي فقدت قيادتها، فأضحت مجموعته الأقوى والأكثر تأثيرا في الإقليم، والأوفر صدقية لدى السكان بحيث أصبح أهم شخص يعول عليه لإيجاد حلول للأزمة عبر المفاوضات.
وقد لوحظ أنه بقي على مسافة من حركة التوحيد التي يصفها البعض بالجسم الغريب لا تهمها تطلعات السكان وهمومهم، خاصة أن غالبية الوسط الذي تتحرك فيه مؤلف من السونغي والفلان وغيرهم من السكان الكور في گاوو وادوينزا وبقية مراكز الضفة، فبدل الرحمة بالناس ومواكبتهم في حل مشاكلهم، وتقديم بديل أفضل عن السلطات السابقة، ساهمت في خلق فراغ في السلطة والأمن بعد تدمير الإدارة والمرافق الخدمية، وُأخذ عليها العديد من التصرفات غير المقبولة، كمضايقة الناس في حياتهم اليومية بل استعمال العنف غير المبرر. كل ذلك عزز الشكوك المثار حول دوافعها الحقيقية من وراء تنصيب نفسها "إمارة إسلامية" قيّمة على الدين الإسلامي وشريعته السمحة، مما دفع أعداءها إلى تحمليها مسؤولية تشويه صورة الأزواديين وحركاتهم الوطنية، في الوقت الذي هم في أمس الحاجة إلى تحسينها ليقبلهم العالم ويتفهم قضيتهم، ويساعدهم في توفير الطعام والماء والدواء للسكان. فبدل ذلك اندفعوا في خلق عداوات داخلية لا سبب لها و لا طائل من ورائها، ونجحوا في إثارة الكراهية والنفور منهم، عندما توجوا تصرفاتهم  بحملة تهديم أضرحة العلماء والصالحين اتسعت الهوة بينهم أيضا مع العالم الخارجي؛ الذي لم يتفادوا استثارته وخاصة الجيران مثل الجزائر.
وكما مر بنا في الحلقة الماضية فإن محللي مؤسسة كارنيغي يرون أن دوافع نفسية واجتماعية - من باب العلاقات الاجتماعية والتراتبية داخل النسيج الاجتماعي - من أسباب اندفاع أفراد في هذه الجماعة في نهجهم المتشدد ضد بعض المكونات الأخرى في المجتمع ورموزه الدينية، ذاكرين بالاسم الأمهار مع كنته وإيمغاد مع إيفوقاس؛ حيث يسعى هؤلاء الأفراد إلى الانتقام ممن يصورونهم المسؤولين عن "الغبن" الذي كانوا يعيشونه ضمن مجموعات قبلية، غير مدركين لقانون التشكل والانشطار، خاصة في المجتمعات الطارقية والعربية سواء في أزواد أو موريتانيا أو غيرهما. فالقبائل مهما كبرت تبدأ برجل يؤلف مع أسرته النواة الأولى، ثم يجتمع أناس من مجموعات أخرى حولهم، لحاجتهم إلى الحماية في ظل زعامة دينية أو نفوذ سياسي أو هما معا، فتتوسع الدائرة حتى تصير قبيلة، مع تباين في درجة الانصهار الداخلي بين قبيلة وأخرى.
وكما أشارت إليه الدراسة فقد وقعت إشكالات بين أفراد من إيمغاد وقبائل طارقية ذات شوكة، تجلت في بعض المواجهات، ووقع الشيء نفسه بين أفراد ينتمون إلى بعض أسر الأمهار وآخرين من أفخاذ إخوتهم في عشائر كنته الأخرى، بلغت حد الاقتتال بالسلاح، واستخدم فيها "المتظلمون" آنذاك شعارات تطالب "بالمساواة وانتهاء الهيمنة" لكن الأمر انتهى بالصلح، وتبين أن للحكومة ضلعا فيه. والواقع أن الأمهار - حاضرا وماضيا – هم أرومة عربية أصيلة، تحالفوا مع كنته واندمجوا فيها كعشرات الأفخاذ وآلاف الأفراد الوافدين، منذ عهود طويلة في موريتانيا وما يزالون كذلك، ومَنْ هم في أزواد يعيشون في تناغم كامل داخل عشائر كنته المختلفة، رغم ظهور إشكالات بين الأفراد بين الحين والآخر .
وفي زمن الشيخ سيدي المختار الكبير وقع خلاف بين الأمهار وأحمد بن محم بن بابا بوسيف رئيس أولاد بوسيف العام ، مما جعلهم ينضمون إلى مجموعات قبلية أخرى، فطلب أحمد من الشيخ التدخل، فأصلح ذات بينهم؛ بعد أن أعرب الأمهار عن استيائهم من الرئيس العام قائلين: إنه لا يعدّنا أحياء بل موتى، لا يستشيرنا في أمر ولا يدعونا إلى نائبة.. إلى آخر ما اعتذروا به، فلما قدم بهم الشيخ على أحمد قال له في استشارتهم وعرْض الأمور على رؤسائهم ما لفظه: الفردية لا تصح إلا للفرد الأحد، فأيُّّ قوم كنت فيهم، عَلوْا أو سفلوا، عقلوا أو جهلوا، اتخذ منهم رؤساء تستعين بهم على أمورك، وتأخذ بهم على مَن سواهم من سفهائهم، وربما أشار عليك منهم مشير برأي غاب عنك أو يطلعك على أمر خفي عليك، وأنشد قول الشاعر:
وأنزلي طولُ النوى دارَ غُربة    إذا شئتُ لاقيتُ امرُؤا لا أشاكله
فحامقْته حتى يقال ســـــجية        ولو كان ذا عقل لكنت أُعـــاقله
 وقد أنصفهم الشيخ أيما إنصاف في بقية هذه القصة التي أوردها الشيخ سيدي محمد في كتابه الطرائف والتلائد. يتواصل 
Viewing all 37 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>