Quantcast
Channel: أوراق مسافر
Viewing all 37 articles
Browse latest View live

أوراق عن أژواد/ الحادية عشرة/ قبائل أژواد العربية

$
0
0
أبدى عدد من المتابعين الرغبة في معرفة تفاصيل عن قبائل أژواد، لذلك سنخصص هذه الحلقة لاتحاديتي البرابيش وكنته التيْن يتوزع بينهما عرب الإقليم.

أ - البرابش

كما أشرنا إليه في الحلقة الأولى من هذه السلسلة فإن أولى الهجرات العربية إلى أژواد كانت البرابيش في القرن 15م، حيث قدموا من تخوم المغرب الجنوبية والصحراء وشمال موريتانيا عن طريق آدرار وتگانت والظهر، وهم البرابيش المنحدرون من حمٌّ بن حسان، والرحامنة المنحدرون من عبد الرحمن بن حسان، أو من رزق بن حسان، ويشكل الفرعان العمود الفقري للاتحادية إلى جانب مجموعات وأسر من أصول شتى منها من ينتمي إلى عرب المعقل، نعبر عنهم بالأصليين، بينما ينحدر الباقون من أصول مختلفة تدل عليهم أسماؤهم، انضموا للاتحادية وأصبحوا جزءا منها إما كحلفاء أو أتباع.

التقسيم

أولا - أولاد سْليمان: مؤلفون من: أولاد سْليمان الأصليين (أهل رحال، أهل مرزوق بن الشيخ، أهل يوسف الكبار، أهل يوسف الصغار) أولاد سْعيد، النهارات، الرتيبات، أهل النفع، أهل منصور، أهل السلام عليكم.
2 - أولاد غيلان:
 أولاد غيلان الأصليون (أولاد أحمد ولد إبراهيم)، أولاد عبد الله ولد إبراهيم، أولاد بوخْصيب (أهل المجيد، الخميرات).
3 - أولاد إيعيش: أهل القوني، أهل حمّ، أهل الحسن.
4 -  أولاد إدريس: أهل مْبارك، أهل عْماره، أهل حموداد، أهل بله، أهل اعلي موسى، عْريب.
5 - أولاد غنام: أولاد معريك، أهل الحسين، أهل حماد، أهل حدي، أهل بجه، أهل بده.
6- أولاد عمران: أهل الهادي، أهل الكوري، المحافيظ.
7 – الگوانين الكحل: أهل بلال، أولاد محمد ولد سيدي احمد، ياداس
8 – الگوانين البيظ: أهل دخنان، أهل الراحل، أهل اميلاه، أهل بو ابْعير، أهل هيمه، أهل اعلي ولد ماما، أهل عمر، أهل أحمدو.
9 – رگان: ياداس، الزريبة، أهل بكار.
10 – السكاكنة: أهل بوصْبيع، أهل الكنيبي، أهل كيجاجا.
11 – أهل أروان: بني سيدي احمد بن صالح (سكان القصر) بني احمد بن أيَر، الحيسة، أولاد بوهدة، النواجي، الوسرة، تجكانت وهؤلاء كانوا من سكان بوجبيهه.
12 – أهل بو جْبيهه
وكان أول مقر حضري لهم أروان حيث أقام به الجد المشترك للعديد من أسرهم: أبو مخلوف ذو الصيت الشائع في القيادة والتدبير والاستقامة ليرتبط بشيخ أروان المعروف الشيخ سيدي محمد آغ آدّه. وظلت سيطرة البرابيش قائمة على القرية حتى بعد وصول الفرنسيين، حيث  زارها كبولاني قادما من تنبكتو تمهيدا لمشروع إقامة مستعمرة "تْراب البيظان" لكن محمد بن مْهمد رئيس البرابيش رفض دخوله الدشرة فعاد خالي الوفاض إلى تنبكتو. 
وأرض نجعة البرابيش واسعة تشمل الشمال الغربي لأژواد من أروان حتى تنبكتو، وغربا حتى العكلة، وجنوبا إلى منطقة الأبيار ورأس الماء أحيانا. وبشكل عام يستخدمون آبار انغارن وإنبلاشا وتنغ الحي وإمراتن وتينتاكونت والحجيو ويشتركون فيها مع قبائل أخرى، أما الگوانين منهم فينتجعون عادة قرب تنبكتو.

ب - كنتة 

أشرنا في الحلقة الأولى إلى أن الهجرة الكنتية إلى أژواد كانت سنة 1130هـ 1717م انطلاقا من الساقية الحمراء، عبر تْوات والحنك وأرڴشاش.
التقسيمات
أولا – كنتة الصحراويون:
تنقسم كنتة الضفة اليسرى (لنهر النيجر) أو كنته الصحراويون (أژواد وآدرار إيفوقاس وتيمترين، إلخ) إلي أربعة أفخاذ كبرى هي الرگاگده وأولاد سيدي المختار والهمال وأولاد الوافي؛ وتتداخل مناطق نجعة هذه الأفخاذ الأربعة بصورة حميمة، كما أن معظم الآبار هي آبار عامة لهم. ويبلغ عمق الآبار عموما بين 50 و90 مترا وتحتوي غالبا على مياه غزيرة، وتكون المراعي بعلية جافة ووفيرة.
أ– الرگاگده : ينقسمون إلي ثمانية أفخاذ فرعية أصلية، يتبع كل واحد منها مخيمات تابعة سواء عربية أو طوارق (إيمغاد) وحتى من إيفلان، ويعرفون أيضا بالتلاميد.
والأفخاذ الفرعية الأصلية هي وحدها التي تعد من أصل كنتي، ويتألفون من حيث المبدأ من ذراري محمد الرقاد، الجد الجامع، المنحدر من سيد أعمر الشيخ بن الشيخ سيدي أحمد البكاي دفين ولاته (920 ه-1514 - 15م) بن سيد مْحمد الكنتي الكبير (القرن 8 هـ 14م) دفين فصك في تازيازت بن سيدي عْلي دفين تْوات في الجزائر، والأفخاذ هي:
  1 -  أهل سيدي الصديق    ( أصليون) 15 خيمة
      أهل عبد المؤمن20 خيمة
      تركزْ 10 خيام
      أولاد عمران 20 خيمة
      أهل لعليبات 14 خيمة
      أولاد البكاي 08 خيام
      أهل النهارات     06 خيام
2 – أهل سيدي علي بن أحمد ( أصليون) 14 خيمة
      الأمهار 16 خيمة
      أهل اگليله 10 خيام
      أهل آمينوكه 07 خيام
 3 - أهل سيدي بن 25  خيمة
      أهل بوزكري     14 خيمة
       أهل كومة 04 خيام
      أهل الطالب الأكحل 08 خيام
4 – أهل سيدي الشيخ ( أصليون) 10 خيام
      أهل خطري 18 خيمة
      أهل عبد الله 06 خيام
5 – أهل سيدي يحيى ( أصليون)20 خيمة
      أهل بيكن 06 خيام
6 - أهل سيدي المصطفى ( أصليون) 04 خيام
     أهل عُمر 07 خيام
7 – أهل الفيرم (أصليون) 05 خيام
8 – أهل لحبار ( أصليون) 07 خيام
وينتجعون إجمالا بين أروان إلى توزاي، ولهم مركز على مسافة 250 كلم شمال شرق تمبكتو، وبه آبار غزيرة المياه.
ثانيا – أولاد سيدي المختار

 ينقسمون إلي الأفخاذ الثانوية التالية:
1– أهل سيدي بادي (حمادي) 45 خيمة
2 – أهل سيدي بو هادي     11 خيمة
3 – أهل سيدي مينه ( سيدي عبدي) أصليون 16 خيمة
4 – أهل حمو صالح 20 خيمة
5 – أولاد زيد 13 خيمة
6 –لمازيّل 10 خيام
7 – أهل الطالب محجوب  وهم تلاميذ    10 خيام
وكانوا في الأصل تابعين لإلمدن، لكنهم يتحدثون تماشغ

ثالثا – الهمال
ينقسمون إلي الأفخاذ التالية:
1 – أهل علواته (بكل) 10 خيمة
2 – أهل سيدي موسى أصليون    15 خيمة
- التوابير 20 خيمة
أهل شيخنا 10 خيمة
النورات 10 خيمة
النهرات 07 خيمة
رابعا– أولاد الوافي
يؤلف أولاد الوافي حاليا أكثر أفخاذ كنتة عددا، أي حوالي 648 خيمة. وينقسمون إلي عشرة أفخاذ، ويطلق على الثمانية الأولى اسم أهل الشيخ ويؤلفون أول مجموعة، ويتألف التاسع من أهل محمد ول احمد، ويشكلون مجموعة ثانية، وفيما عدا هاتين المجموعتين، اللتين تؤلفان نوعا من مجموعة ثانية، هناك الفخذ العاشر، وهم أولاد ملوك، وهم حلفاء قدماء، منحتهم السلطة الفرنسية استقلالا كاملا.
التقسيمات
1 – أهل بادي ( أصليون) 05 خيام 
      الأمهار 25 خيمة
      مشظوف 25 خيمة
      لادم 07 خيام
      الطرشان07 خيام
      دورق 15 خيمة
      تاگاط 05 خيام
      تدابوكه     20 خيمة
      بْدوكن 17 خيمة
      أولاد بن عمار 14 خيمة
      إيفلان 10 خيمة
وينتجعون في عين أوكر وكرشول واتناسيت ويصلون ضفاف النهر.
2 – أهل عابدين ( أصليون) 05 خيام
     الأمهار 15 خيمة
     لادم 10 خيام
     لعريم وياداس والزخيمات والتوابير 25 خيمة
وينتجعون في كرشول وتاسيت وأغاروش وآمراس واسكنت وتابنويت وتيلمسي.
3 – أهل الشيخ سيدي البكاي ( أصليون) 04 خيام
      أهل التمري 25 خيمة
      ياداس 10 خيام
      أهل الأزرق 07 خيام
      أهل الفلاني 07 خيام
وينتجعون في كرشول واتناسيت وتاركنت وآمغاز وﻤﭽاگلت ومرزفال وأفايس.
4 – أهل بابا ولد سيدي بابا أحمد (أصليون في البدء) 25 خيمة
      أولاد زين العابدين ( أصليون في البدء) 15 خيمة
      أهل سيدي بادي ( أصليون) 10 خيام
      لادم 20 خيمة
      أوريلة ايمانيس20 خيمة
وينتجعون في وادي اكرر، وأصكان وتبنكورت.
5 – أهل باي ( أصليون)     20 خيمة
      إيفلان 36 خيمة
      لادم 05 خيام
      التلاميد     15 خيمة
وقد غادرهم إلى كنتة النيجر بسب الاحتلال أهل علوه (4 خيام) وأهل الركوه (6  خيام) وأهل بركه خيمتان وأهل عابدين آغ طالبي خيمة واحدة، أولاد سيدي أحمد (3 خيام) أهل الطالب عْلي (4 خيام). ويقصدون في نجعاتهم آدرار ايفوقاس ولا سيما تكلوت.
6 – أهل بابا ولد الشيخ سيدي محمد (أصليون) 05 خيام
      ترمز      (أصليون)45 خيمة
      النهرات (أصليون) 15 خيمة
      الحبوس (أصليون)20 خيمة
7 – أهل سيدي الأمين (أصليون) 03 خيام
      إيفلان 03 خيام
وينتجعون في تفاريست.
8 – أهل الشيخ سيدي أعمر  06 خيام
      تجكانت 10 خيام
     أهل توات 15 خيمة
     أولاد سْعيد 10 خيام
     دورق06 خيام
     أهل العطاري 06 خيام
     حرطان (حدادون)04 خيام
ينتجعون من غاروس إلى اسلاگ، ويقصدون في كثير من الأحيان آدرار إيفوقاس حيث يملكون أراض رعوية خاصة بهم.
9 – أهل محمد احمد ( أصليون) 20 خيمة
      أهل سيدي عبد الرحمن ( أصليون) 20 خيمة
ويدعى هذا الفخذ الفرعي أحيانا أولاد سيدي الوافي الأصليين، وينتجعون في اتناسيت وفي تفليست.
10 – أولاد ملّوك ( أصليون)  20 خيمة
        أولاد عمر  ( أصليون) 20 خيمة
        أولاد حديك  ( أصليون) 10 خيام
        أهل القبلة ( أصليون) 25 خيمة
ويوجد في إقليم دنك (النيجر) أكثر من ألف خيمة كنتية متمردة على الاحتلال، وينقسمون إلى مجموعتين حسب الأصل:
1-    فخذان رئيسيان: كانوا حلفاء سابقين لأهل بادي، الذين ردوا عليهم استقلالهم، وقد ذهبوا نحو الشرق في عام 1890 في فترة الحروب بين كنته وإيلمدن، وهم درمشاكة الذين يضمون حوالي 400 خيمة وياداس الذين يؤلفون 200 خيمة، وحدد الفرنسيون في القرن الماضي إقامتهم في طاوه .
2-    أربعة أفخاذ كبرى، واثنان صغيران:
الاتواج، (300) خيمة، ويتألفون من- مجموعة أولى 30 خيمة
2- مجموعة ثانية 40 خيمة
3- مجموعة ثالثة 20 خيمة
     وكانوا ينتجعون في أطلگ، وفي عين إيتيسان وآدرار.
-    تاگاط وهم إجمالا 90 خيمة، وينتجعون في آدرار إيفوقاس.
خامسا: الطرشان ثمانون خيمة.
وتضم كنتة الصحراء 2229 خيمة وعشرة آلاف نسمة (1915)
ثانيا – كنتة گورمة ويدعون أيضا كنتة أريبنده (الضفة اليمنى للنهر) فهم أقل عددا بكثير من أبناء عمومتهم الشماليين. وبما أنهم يعيشون في وسط أقوام زنوج ويختلطون بهم عن طريق زيجات عديدة، فيظهرون شديدي التهجين. وهم ينتجعون في بحيرات العقفه: كورسي، گادو، دو، نيانگاي، هاريبنگو. ويزرعون في حقول يملكونها الأرز والدخن ولهم سبع قرى على ضفتي بحيرتي گارو وهاريبنگو.
وينقسمون إلي مجموعتين:
أهل بادي: ومعهم زوايا وأتباع أو إيمغاد. والأفخاذ هي شريفن (كل السوق) ايمورامن، أهل كاهيدي (برابيش) إيدنان، الحراطين الحمر، ايكايماداين، ايكورشاتن.
أهل سيدي علواتة
أهل سيدي علواتة الأصليون، أولاد ملّوك حراطين أولاد ملوك، ايدوفان (بيلّة: طوارق) ايبغاف بغافن المستقلون. وتضم كنتة گرمه ألفي نسمة من ثلاثة آلاف (1915).
ج - قبائل لم ترد أسماؤها في المراجع المذكورة

توجد بأژواد داخل الاتحاديتين الكبيرتين(البرابيش وكنته) وخارجهما خاصة في المراكز الحضرية، خيام وأسر من قبائل موريتانيا مثل:  تكنه، تركز، حم صالح، أولاد الملات (أولاد دْليم) المصادفه، الرگيبات، تنواجيو، آمگاريج، أولاد سالم، أولاد عمني، الگواليل (تجكانت)الرماظين (تجكانت) إدگجملّه، أهل بوردّه، ادگاربن، أهل السيد (أولاد بالسبع) إدوعلي، أهل باريك الله، لمرادين، اتمدك، أهل الطالب مختار، إديبوسات.










أوراق عن أژواد/ الثانية عشرة/ قبائل الطوارق

$
0
0

يتوزع الطوارق على التقسيمات الاجتماعية المعروفة لدى إخوانهم وجيرانهم العرب من حيث تركيبة الهرم الاجتماعي، فهنالك على رأسه حمَلة السلاح أصحاب السلطة السياسية، وتمثلهم عدة قبائل تتفاوت في الأهمية موزعة بين مناطق إقليم أژواد الشاسع، ثم حملة القلم إيڴلاد (الزوايا أو الطلبه) ويتمتعون بالنفوذ نفسه الذي لأمثالهم من العرب، ثم تأتي الطبقات الاجتماعية الأخرى من أتباع أو تياب متحالفين، إضافة إلى الصناع التقليديين الذين هم في الآن نفسه أصحاب الفن والطرب، ثم بيلاّت وهم الأرقاء السابقون.

ويتحدث غالبية الطوارق بلغة تماشغ التي تكتب بحروف تيفنياغ التي يعود للطوارق الفضل في المحافظة عليها، وهي اليوم المعتمدة في الفضاء الأمازيغي من غرب مصر (واحة سيوه) إلى المغرب الأقصى. وينحدر الطوارق حسب أغلب الباحثين من خمس هجرات متتالية إلى الصحراء الكبرى وحتى ضفاف نهر النيجر، وهي لمطة وهواره (القادمة) من غرب ليبيا ومسوفه أو كل تادمكت، وڴداله ولمتونه. ومن هذه القبائل انحدر إلمْدَنْ الحاليين وكل تادمكت وإڴلاد والفروع التابعة لها.

وكان لمطه هم أوائل الطوارق الذين احتلوا المناطق الواقعة غرب الأيَر في نهاية القرن السابع الميلادي، ومنهم انحدر إلّمدن - كما سلف - وقد جاءوا من منطقة طرابلس الغرب، بينما بقي جزء من القبيلة في أماكنها الأصلية، بينما اتجهت أفخاذ منها إلى جنوب المغرب وإلى تْوات، ولحقت بها قبيلة هواره التي احتلت المناطق الجبلية للصحراء الوسطى، ومنها انحدر الهوڴار. وكانت لمطه هي التي انحدرت منها أول سلالة حكمت لمدة قرن (ابتداء من 1009م) نهر النيجر، متخذة من منطقة ڴاوو الحالية قاعدتها. أما مسوفه فكانت هجرتهم في القرن الثامن مع بداية الفتح الإسلامي للمغرب العربي حيث احتلوا معادن الملح في تغازه قبل أن يسيطر عليها البرابيش، واستقر أحفادهم أي مسوفه في منطقة افَاڴيبين (رأس الماء) أما كل تادمكت فقد استقروا في منطقة تِلمسي في الشمال الشرقي لڴاوو، وكان ذلك حسب عديد من الباحثين مع بداية التاريخ المسيحي، وأنشئوا مدينة بهذا الاسم يقال إن معناها: شَبِيهَةُ مكّة. وعندما هيمن العرب عليها عبر تجارهم ودعاتهم أيام قيام دولة المرابطين في الغرب سموها السّوق، وأصبحت مركزا للتبادل ورحلات القوافل بين منطقة النهر وروافده وطرابلس وتوات، وصارت مركزا إسلاميا كبيرا، منه انطلقت الدعوة عبر نهر النيجر إلى بعض مناطق الجنوب في بوركينا فاسو الحالية وبنين وغرب نيجيريا.

وكان من ضمن القبائل التي حملت لواء الدعوة مجموعة من أصل شريف هم إفوغاس المنتمين إلى إدريس الأول، ومنهم أُطلق الشرف على عدد من المجموعات المرتبطة بهم، وعرفوا بلقب كلسوق (كل السوق) نسبة إلى المدينة إلى الحاضرة، وانطلاقا من القرن العاشر الميلادي اتجهت قبائل إفوقاس وكلسوق إلى ما يعرف اليوم بآدرار إفوقاس، بينما اتجهت مجموعات من سكان كل تادمكت إلى الجنوب واستقرت في الضفة اليمنى للنهر مقابل ڴاوو.

وقد وصلت بعض قبائل ڴداله ولمتونه في القرن الحادي عشر إلى نواحي تنبكتو، وارتبطوا بالهجرات العربية الحسانية القادمة من جنوب المغرب وشمال موريتانيا، إليهم تنتسب قبائل كلنصر.

وإذا ما عدنا إلى خمسينات القرن الماضي نجد أن القبائل الطارقية موزعة كالتالي:

أولا - إڴلاد (الزوايا) وأتباعهم

1. كلنصر،ويعود نسبهم إلى أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم لكن استقرارهم في وسط الطوارق جعلهم يتحدثون لغتهم ويتماهون معهم في العادات والتقاليد ومن ثم فهم مثال للقبائل العربية التي (تطرقت) وينتشر التعليم العربي والإسلامي فيهم بكثرة، ومنهم اشتهر علماء وشعراء، وينقسمون إلى الأفخاذ التالية: الشرفاء، كل تچبس، إنتابن الفاو، إيدنان، كل تاشرير، كل أوروزيل، كل رزاف، بانكور، إدكاكامن، إنتابن هانيبونڴو، كل تينتوهون، كل إنتابوريمت، كل دوكونى، إنتاچيت، كل تينبوكري، كل أبوكاخ، كل إينوكندر ويطلق على هؤلاء كلنصر الغرب، وجيرانهم البرابيش؛ أما كلنصر الشرق الموجودون في تلمسي فيتألفون من: كل حامد طال، كل هَندا هَندا، كل إنكومّن، كل انتورشاون، كل إنابالاهن، إنتّولك، كل إيناڴوزم، كل إمڴشارن (مغشاره) كل غزان، كل إيبادان، كل إنچارن، وهؤلاء جيرانهم كنته. وينتجعون في الوسط وكذلك الغرب حتى ڴوندام.

2. كل هوسا،ويضمون الأفخاذ التالية:كل هوصه الأصليون، كل كمرت، كل طاهروديان، كل تنبوراق، كيلَيْ، كل تينتهون، كل تاداك، كل إندابي، كل طبقات، شرفاء ڴلاڴه، كانيْ، هنڴبير، بيبى فاڴبين.

3. شريفنغ (الشرفاء) وهم عرب تطرقوا، لكن الكثير منهم ما زال يحتفظ بشجرات نسبه العربية، ويوجد البعض منهم في كورمه مع كنته أو إفلان، والباقي في الصحراء، ويتوزعون إلى عدة أفخاذ:إنَتابن، كل إواطه، فاتي كويْ، كل هديده، داباروكويْ، كل أراڴونڴو، بيلّة دبي، بيلة فاڴبين.

ثانيا - قبائل الشوكة وأتباعهم


إن مواطن القبائل ذات الشوكة، الرئيسية المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية، وهي التي ظلت تاريخيا تهيمن سياسيا وعسكريا على معظم الإقليم، حتى وصول الفرنسيين مع نهاية القرن 19، ومن أبرزها:

- -إيلّمدنوكانوا أهل الإمارة، وينقسمون إلى غربيين وشرقيين، معظمهم اليوم في مالي والباقون في شمال النيجر، وجنوب الجزائر، ويتوزعون إلى:إموشغ (النبلاء) كل إهارن، كل تهيتات، إغطافنن، إلوغمان، إودالن، إمنان، إمغران، إشد نهارن، إمضضغن، كل ولي.

إفوغاس، وهي قبيلة عربية شريفة تنحدر من إدريس الأول، وكانت من قبائل مدينة السوق التي ورثت مدينة تادمكت بعد اندثارها، وقد انحدر منها العلماء والصالحون، وإليها ينتمي العام والمربي الشهير سيدي عالي بن النجيب شيخ الشيخ سيدي المختار الكنتي. وبالإضافة إلى هذا الدور فهي قوية الشكيمة مهابة الجانب، تستوطن بشكل رئيسي في جبال آدرار (آدغاغ) وتيمترين على الحدود مع الجزائر، التي لها امتدادات بها وكذلك النيجر. وانطلقت منها على مدى التاريخ جميع الثورات والانتفاضات ضد الفرنسيين ثم ضد الحكومة المالية، حتى الثورات المعاصرة والحالية التي يقود أبناؤها أجنحتها الرئيسية اليوم: حركة أنصار الدين وحركة تحرير أژواد.

ويتوزع إفوغاس من الأفخاذ التالية: كل تينبوكورت، كل أباغ، تل كاتن، إيريَڴين البيض ويشتعينين، إيريَڴين الكحل ويلينين، إيبهاون، إيمزڴرن (أهل الذكر) إفرقومس، إيقلاد، إيمدّدغن (يسكنون النهر مع إمغاد) تاراقازا، كل تلميط، كل تشادّين (أهل النخل في تسليت)إبراهيم الدغوغي، الأنصار، والبعض من إفوغاس يسكن النيجر وهم كل تَدَينْ، كل تغليت، يقضاض (الطيور) ومن القبائل المنضوية تحتهم: إڴدلن (ڴداله) أهل السوق (بعض من كل السوق) إيدنان، كل تغليت، إرڴناتن، الكناته (من كنته) إيضبيلالن، يغوزاون، إمغاد وهم أتباع من قبائل شتى، كل أغلال، إيبوعلليتن، إينهاضن (حدادون) وولاؤهم لكل القبائل.

- الهڴاروهي على الحدود المالية الجزائرية، وقاعتها اليوم في تمنغاست بالجنوب الجزائري، ويوجد البعض منها داخل الشمال الشرقي لأژواد، ومن فروعها: كل أغلال، كل أغري، تاغت نلت.

- إيدنان،ويضمون: تالكاست (وهم من الأنصار) إينهرن (الغزلان) تايتوق، كل تيرغست.

- إدوسحاق: وهم من أصول عربية، ومن قبائل العلم.

- كل السوق: تحدثنا عن مكانتها العلمية التي ما تزال قائمة، ولها فروع متفرقة بين قبائل أژواد العربية والطارقية، ويتحدثون العربية إلى جانب تماشغ.

- شَمنمّاس (شام أنماس = الشام الأوسط) وهي من أصول عربية وتنتجع في الوسط وفي أقصى الجنوب حتى بوركينا فاصو.

- إمغاد،وهو خليط من أتباع جميع القبائل ويوجدون بين قبائل الطوارق والعرب. يتبع

**

للمزيد من الاطلاع يمكن الرجوع إلى:

1. HAUT- SNEGAL – NIGER T 1Paris Maisonneuve et larose 1972

2. PAUL MARTY: les kounta de l,este – les brabiche les iguellad, T.1ernest leroux paris 1920.

3. PAUL MARTY : la région de Tombouctou , T.2-

4. صحراء العرب الكبرى لمحمد سعيد الكشاط دار الرواد طرابلس – ليبيا 1994.

5. أژواد أو صحراء التينرى " " "مؤسسة ذي قار سنة 2000.



























قراءة في كتاب الأمل الخائب، 2006-2008: ديمقراطية بلا مستقبل

$
0
0

قبل أسابيع نوهت مواقع الالكترونية عن صدور هذا الكتاب لمحمد السالك بن محمد الأمين وزير الخارجية في حكومة سيدي محمد بن الشيخ عبد الله الأولى، ولم أطالعه إلا في الأيام الأخيرة، فحاولت الاكتفاء بتصفح المقدمة وبعض فصوله، في انتظار الانتهاء من بعض الالتزامات، لكني فوجئت مع الفقرات الأولى من المقدمة بأنني أمام عمل جاد يحتاج إلى قراءة كاملة ومتأنية، فكرست الوقت الضروري له، وهو ما لم أندم عليه.
إن الكتاب بالغ الأهمية لاعتبارات عدة، منها: أنه:
- أول تدوين لوزير موريتاني منذ الاستقلال باستثناء عملين تفصل بينهما ثلاثون سنة .
- أن الكاتب وزير خارجية أدار سياسة البلد وحاور قادة العالم.
- كونه شاهدا على أحداث ما تزال فصولها تتوالى، وفاعلوها حاضرون، سواء في السلطة أو خارجها، وكذلك المتابعون في الداخل أو الخارج.
- عنوان الكتاب، الجريء المعبر.
- تطرقه لجوانب أساسية من التجربة التي عاشتها البلاد بعد انتخابات 2006 و2007.
- تحديد دقيق للأهداف وتوجه مباشر للحلول.
- إصراره على تحمل المسؤولية وإبداء الرأي في قضايا البلاد دون تلكأ.
- كشف أمور ظلت مجهولة على مستوى الدولة.
- تشهيره بأمراض الإدارة الحكومية وقادتها من فساد وعجز وانعدام كفاءة ومحاباة.
- التزامه بقواعد التدوين بذكر الأسماء كاملة والتواريخ، واستشهاداته الدالة.
- معرفته الدقيقة بالأصول الدبلوماسية وكيفية التعامل مع العالم الخارجي وقادته ومسؤوليه.
اقتصرت معرفتي للمؤلف على ثلاثة لقاءات، أولها على مائدة عشاء بدعوة منه في منزل أمين عام الوزارة - أياما قليلة بعد تعيينه - ضمن مجموعة من السفراء السابقين: عْلي بن علاف والشيخ سيد أحمد بن بابا أمين وأحمد بن غْناه الله والتقي بن سيدي، إضافة إلى عبد الله بن الشيخ بن أحمد محمود الوزير السابق، وأول وال لموريتانيا لتيرس الغربية سنة 1976 بعد تقسيم الصحراء الغربية.
وخلال العشاء طلب الوزير سماع آرائنا حول مشاكل البلاد الخارجية والتحديات الآنية، وعلى رأسها قضية الصحراء والعلاقات مع الجيران وبقية العالم، ودور موريتانيا العربي والإفريقي، وحضورها في المنظمات الدولية والإقليمية، إلا أن الحديث لم يتطرق لنهاية المسلسل الانتحابي الذي توج بتنصيب رئيس جديد وتشكيل حكومته، رغم أنها كانت ما تزال حديث الساعة. وقد أرسلت للوزير مساهمة مكتوبة عن رؤيتي بشان المواضيع المذكورة وعن جوانب من أوضاع الوزارة والسفارات، لأن روابطي بهذا القطاع - الذي قضيت ثلاثين سنة من العمل فيه بالخارج - ما تزال حية في الذاكرة.
أما اللقاء الثاني فكان زيارة مجاملة له في مكتبه، والثالث بعد ذلك بثلاث سنوات خلال ندوة مشتركة بين نادي نواكشوط الدبلوماسي ومندوبية اللجنة الدولية للصليب الأحمر في نواكشوط عن "تفادي الصراعات في إفريقيا وإدارتها" حيث تولى هو باسم النادي جانب الاتحاد الإفريقي في الموضوع. وقد أدهش الحاضرين - وأنا منهم - بمعرفته الدقيقة لهذه المنظمة وأهدافها ومراحل تطورها، وما تقوم به تجاه الصراعات في القارة، ذلك أنني عايشت تلك المنظمة منذ إنشائها سنة 1963، حيث موريتانيا من الدول المؤسسة، التي أولت كل اهتمامها للقارة التي كانت ملاذنا لفرض سيادتنا في المنظومة الدولية، ثم لكوني قضيت خمس عشرة سنة مندوبا لجامعة الدول العربية لديها، مما مكنني من حضور جل مؤتمراتها ومن ثم الإلمام بالمشاكل والاطلاع على المشاريع المختلفة. وعندما قرأت تنبأ سفير إثيوبيا لدى منظومة الأمم المتحدة في جنيف لمحمد السالك يوم 20 من إبريل 2007 أي أسبوعا قبل تعيينه بأنه سيكون وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، تذكرت رد أحد ممثلي الاتحاد الإفريقي في جنيف - في معرض سؤالي عن سفير موريتانيا الذي لم أكن أعرف سوى اسمه وأنه من الشباب الدبلوماسيين المحترفين – "نعم هو بخير وجدير بالاحترام والتقدير" وفي هذه الشهادة تعبير عما يكنه الأفارقة للسفير من تقدير، اكتشفنا جوانب من أسبابه في حديثه عن بعض القضايا ذات الصلة بالقارة وعلاقاته بسفرائها، حيث كان لاعبا رئيسيا في المجموعة الإفريقية والعربية في جنيف وحتى في الأمم المتحدة بنيو يورك.
وقد رأيت أن أخصص مقالين لهذا العمل، أولهما عبارة عن نقل فقرات من المقدمة للقارئ العربي الذي يجب أن لا يحرم طويلا من هذا النص، والثاني في شكل ملاحظات حول بقية الكتاب المؤلف من تسعة فصول.
المقدمة
بقراءتنا للمقدمة نجد أننا أمام كاتب متمرس بأسلوبه وثقافته الواسعة المتشعبة ومعلوماته الغزيرة وقدرته على التعبير المباشر، وفوق ذالك منهجيته المحكمة، التي جعلته يوجز مواضيعه التوطئة ليعود إليها بلف ونشر مرتب، مع نجاح في الترابط المنطقي والسياق التاريخي. وقد أشار عند الوهلة الأولى - بشكل عابر - بمنطلقات أساسية، مثل التعريف المقتضب بمولد الكاتب ومكانه، وبعض الآراء السياسية في مرحلة المراهقة في المدرسة التي سيظل لها ذكر في صلب القضايا الوطنية بعد مرحلة النضج، وبداية المسار، بتخرجه في أول دفعة من الشعبة الدبلوماسية في المدرسة الإدارية سنة 1984، تاريخ التحاقه بالخارجية، وتولي رئاسة قسم الأمم المتحدة، ثم الانتقال، مستشارا في البعثة الدائمة في نيويورك، دبلوماسيا محترفا تدرّج في السلك حتى أصبح سفيرا بعد ثلاث عشرة سنة في جنيف لدى منظومة الأمم المتحدة؛ وهو أمر طبيعي في السلك الوظيفي، خاصة لمن يثبت الجدارة، والاعتماد على الجهد والمثابرة؛ مما يؤكد أنه حتى في ظل أنظمة فاسدة ليس النجاح مربوطا دوما بالتزلف والانخراط في كرنفالات المواسم السياسية، فصاحبنا "لم يحضر قط أنشطة الحزب الحاكم  -آنذاك - ولم يشارك في مسرحية بناء فصول محو الأمية ولا حملات الانتخابات الرئاسية". وهو يعتبر الظهور على خشبة الأضواء مناف لقيمه و"للمهنة التي اختار" منسجما مع قناعته بأن "موظف الدولة لا يحتاج إلى إثبات الولاء، وهو الذي يقوم بواجباته الوظيفية والوطنية رعاية للمصالح العامة ودفاعا عن قضايا الوطن". إذن نحن أمام مسؤول غير ملوث يعرف مأموريته ويتحمل تبعاتها دون حاجة إلى رقيب، بل إلى من يؤازره لتحقيق المصلحة المشتركة.
 وتعرفنا المقدمة على شمائل نصطحبها طيلة قراءة الكتاب: اعتزازه بالبلد وقيمه، من صدق وصبر وواقعية، والتي ظلت زاده في تجربته الثّرة خلال مسيرته الدبلوماسية، وكلها مرتبطة عن قرب بهذه "الأرض ذات الطبيعة القاسية، التي ترعرع فيها أجدادنا وأقاموا بها إمبراطوريات عظيمة ساهمت في نشر الحضارة العربية الإسلامية والإفريقية الزنجية، كما تصدوا ببسالة لصد الاستعمار الأجنبي عنها" ولذلك نراه ينحاز إلى الورثة الطبيعيين لهذه القيم: "الجيل الأول الذي تولى مقاليد الأمور في موريتانيا بعد الاستقلال، ورفع التحدي بتكريس السيادة الوطنية ووضع أسس دولة في مجتمع لم يعرف في تاريخه حكما مركزيا داخليا، تقاس صلابتها (الأسس) بدرجة استعصائها على معاول الهدم الواسع الذي يقوم به الحكم العسكري مذ سنة 1978" إذن هو وريث شرعي لتاريخ هذا البلد الذي "امتاز أهله بقوة التحمل والعزة والتعفف والرضا بالقليل، وبروح التضامن التي كانت مصدر اللحمة الاجتماعية".
• لم يخيب الكاتب الأمل في التصريح بآرائه ثم أفعاله - بعيدا عن تقية العجز- كما عودنا البعض، فهو يكتب ل "تمكين الأجيال الجديدة من أن تطْمئن على تاريخ بلادها، عبر ما دونه أولائك الذين تحملوا مسؤوليات وطنية، داعيا كل من عاشوا هذه الأحداث إلى تقديم رواياتهم". فكتب بأدب ورزانة، وبلغة الواثق في النفس العارف بأبعاد قضايا الوطن وتأثيرات الخارج، معتمدا المعلومة والتحليل الموضوعي للأسباب التي جرتنا إلى ما نتخبط فيه من أزمات في مقدمتها "النكوص عن قيم المجتمع الحميدة، نتيجة التغيرات الاجتماعية والفتور والانفتاح على المجتمعات الأخرى، وتسيير النظام العسكري وعمى بصيرته الذي ولّد صفات جديدة انتشرت في المجتمع الموريتاني، مثل الانتهازية والفراغ، وتلاشي صدقية المؤسسات وتدهور القيم وضعف الضمير الوطني، لينتشر صراع الهويات".
• لم يترك فرصة تفوت إلا وندد بالقبلية وتعارضها مع الدولة والعصر، لأنها تشكل تحديا حقيقيا لبقاء موريتانيا ومستقبلها، وهي التي صارت أساس الحكم ومصدر إلهام معظم النخبة والشباب، حتى رأينا رجالا من الرعيل الأول يتنكرون لماضيهم بالانهماك في إحياء القبلية! وشبابا يتكتلون عبر وسائل الاتصال الاجتماعي "فيس بوك" باسم القبيلة! ومثل القبلية النظام العسكري وقادته الذين تحول الموريتانيون في ظلهم إلى شعب خانع، يتصرفون فيه على هواهم، مع الأقارب والحلفاء، مدجِّنين شرائح واسعة من النخبة، التي تحولت إلى أدوات طيعة ينفذون بها مآربهم في جمع المال وتكديسه، بينما الموريتانيون يعيشون في الفقر المدقع يتخطفهم الجوع والمرض.
وحدثنا - تمهيدا لمعالجة قضيتن مهمتين يجب حلهما لصون الوحدة الوطنية - عن:
• محو آثار الرق
• المهجرين الذين خُصص لهم فصل في الكتاب. لكنه كان حريصا على أن يعطي لكل ذي حق حقه، وأن يكبح جماح الاندفاع، عكسا لما تعودناه [إما ضد أو مع]. وعن أحداث 1989، ونتائجها "  إن جزءا من المواطنين تعرض للقمع والتهجير إلى الدول المجاورة، وبقي الجرح نازفا، مما يجعل من المحتمل قيام مجموعات مسلحة بأعمال تهدد السلم الاجتماعي والوئام الوطني سواء من تلقاء نفسها أو بإملاء من قوة أجنبية. وجرت هذه الأحداث المؤلمة رغم أن الشعب الموريتاني ظل على مدى تاريخه في وئام وانسجام بين قومياته المختلفة التي يشكل الإسلام حصنا منيعا لوحدتها، لكن حاجز اللغة بقي عائقا رغم الاعتراف بأن التعددية تشكل ثراء كبيرا ينبغي صونه بتعليم اللغات الوطنية، وبجعل العربية لغة غالبية السكان اللغة الموحِّدة ". وقد لاحظ "تراجع هذه اللغة بسبب إدخال الاستعمار تعليم اللغة الفرنسية ثم بسبب اختطافها من طرف القوميين العرب المتناسين أنها استُعملت بشكل واسع من طرف السكان الكور" .
إن إثارة موضوع اللغة العربية في غاية الأهمية ما دمنا نريد التصدي لأهم القضايا التي لها تأثير مباشر على لحمة الموريتانيين وهويتِهم كبلد مسلم عربي إفريقي ليس له من صيت أو موطئ قدم في الإقليم ومن ثم في العالم إلا بإشعاعه الديني ونبوغه الثقافي العربي، وهو ما ينسجم اليوم مع تطلعات الأشقاء في سنغال ومالي وتشاد ونيجيريا والنيجر... الذين يولون كل الاهتمام لتعليم اللغة العربية ونشرها ويعولون على الدور الموريتاني.
ونبه الكاتب إلى أن من أسباب تذمر الكور سيطرة البيظان على الثروة، والذي تجلى أكثر فأكثر بعد "وصول ائتلاف قبلي سنة 1984 إلى الحكم، وعزز قبضته على الاقتصاد الوطني. مع ملاحظة أن الغبن عام، حيث لا توجد شخصية من الحوض أو العصابة ضمن الأغنياء الجدد أولائك". وأشار إلى أن الكور استاءوا في المجال الخارجي من انسحاب موريتانيا من الجامعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا دون شرح للأسباب.
• ثم أثار القضية الكبرى الأخرى التي يعاني منها المجتمع ونسيجه الاجتماعي، وهي "آثار ظاهرة الرق البغيضة، والتحدي الذي يشكله اندماج الأرقاء السابقين" منبها إلى "أن الظاهرة منتشرة في جميع مكونات المجتمع، وتمتد إلى خارج الحدود في جميع منطقة الساحل والسودان، لكنه يلاحَظ  أكثر لدى المجموعة العربية بسبب اللون" وذكّر بأن "الأرقاء السابقين هم أكثر شرائح المجتمع فقرا وتهميشا، رغم أن آلافا من المواطنين الذين لم يخضعوا للرق يشاطرنهم هذا الوضع، وهو وضع ظالم اجتماعيا وخطير سياسيا وعقيم اقتصاديا، ومن ثم فهو أكبر خطر يهدد المجتمع الموريتاني، حيث يمكن استغلال يأس هذه الجماهير المعدَمة من قبل تيارات متطرفة ومن قبل دول خارجية لزعزعة البلاد لذلك كان لا بد من مواجهة هاتين القضيتين لمنع خطر الانفجار"
• وتمهيدا للدخول في معمعة الحكم ومعاركه كان لا بد من وصف المشهد السياسي ولاعبيه، فجاء عنوان "صفات القيادة" الذي أعطى فيه للرئيس ما هو أهل له: "الاحترام والتعليم والتجربة وللوزير الأول الشباب والحيوية" مقابل "طبقة سياسية صاغها بشكل كبير الحكم العسكري، متعودة على ممارسات نقيضة لالتزامات رئيس الجمهورية عن الإصلاح وإعادة السلوك الأخلاقي للحياة العامة. فكان من الجليّ أن نجاح التجربة الديمقراطية أو فشلها وإعادة تأسيس الدولة مربوطة بالطريقة التي سيسير بها الرئيس العلاقة مع هذه الطبقة السياسية وبقدرته على مقاومة ضغطها ومناوراتها". ولإكمال الصورة ذكّر بأن الرئيس "رغم تأييده من رئيس المجلس العسكري (الحاكم) وكبار أعضاء المجلس لم يحصل في الشوط الأول إلا على 25% من أصوات الناخبين؛ وتقدم في الدور الثاني على منافسه بأغلبية  بسيطة، رغم انضمام الزين بن زيدان ومسعود بن بلخير إليه. ودلت الأرقام على شفافية الانتخابات وخاصة على وعي ويقظة الناخبين الذين صوتوا بكل حرية".
وكان منطقيا "دمج هذه العوامل واستخلاص رؤية عامة على ضوئها يتم الدفاع عن مصالح البلاد ووضع أسس سياسة خارجية على المدى الطويل؛ أبرزها أربع أولويات: القضاء على التناقضات الداخلية، إزالة العوائق البنيوية، تقوية الإمكانيات المؤسسية، إبراز المصادر الطبيعية عبر مساهمة المهارات المحلية ورأس المال الخارجي الضروري. وعليه يجب تعبئة الطاقات الوطنية لرفع هذه التحديات، مما يحتم على الجهاز الدبلوماسي أن يستعد للإسهام بأقصى ما يمكن في تحقيق هذه الطموحات. ومهما كانت السياسة الخارجية عادلة ومحكّمة فلن تحقق نتيجة ذات بال إذا لم تنفذها دبلوماسية فعالة وكفئة، وبالعكس فإن جهازا دبلوماسيا جيدا لن يحقق نجاحا معتبرا  إذا كانت الأهداف المحددة خاطئة وغامضة" وبعد أن استطرد رؤية بعض الرواد في تعريف الدبلوماسية كـ"أداة لتحقيق مصالح الدول وتنفيذ سياستها اليومية" لاحظ "أن من ميزاتها الاستمرار، لأن المحيط الجيوستراتيجي والإكراهات التي تواجهها كل دولة تكاد تكون ثابتة؛ وفي حالتنا كانت سياستنا جامدة طيلة عقود من الزمن ولم تكن تقاد باختيارات واضحة ومدروسة. كما لم تستخلص دروسا من سرعة التاريخ الناتجة عن انتهاء الحرب الباردة."
وانطلاقا من ذلك حدد الوزير المحاور الرئيسية للسياسة التي سيقودها:
• تعميق العلاقات مع الدول المغاربية
• تأكيد انتمائنا لاتحاد المغرب العربي، والسعي لبعث أجهزته والعمل مع تونس وليبيا – إن أمكن – لحمل الجزائر والمغرب على المزيد من المرونة، إذ بدون هذين البلدين لا يمكن تحقيق أي تقدم.
• تعزيز العلاقات مع دول غرب إفريقيا وخاصة القريبة مالي، سنغال، غامبيا، غينيا بيساو، الرأس الأخضر.
•   تنشيط العلاقات مع دول غرب إفريقيا الأخرى ووضع أسس شراكة مع المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا على أسس قواعد منظمة التجارة العالمية.
• استعادة العلاقات المميزة مع جميع الدول العربية مع عناية خاصة بدول مجلس التعاون الخليجي.
• تطوير الشراكة مع الاتحاد الأوربي، مع العناية بالروابط الخاصة مع ألمانيا وإسبانيا وفرنسا.
• تعزيز الشراكة مع جمهورية الصين الشعبية.
• العمل على رفع العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية لتكون على مستوى العلاقات السياسية.
• تعميق العلاقات مع اليابان
• وضع أسس للعلاقة مع الدول الصاعدة لكسب أكبر قدر من المزايا الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية من تقلبات توزيع الثروة على المستوى العالمي".
أما الخطوات التي تمكّن الجهاز الدبلوماسي من أداء مهمته فهي:
• " إنجاز برنامج للتكوين والتدريب لموظفي الوزارة
• السهر على تسيير الوارد المالية بطريقة سليمة
• تحسين وضعية العاملين الدبلوماسيين
• تحديث الإدارة المركزية والبعثات الدبلوماسية والقنصلية
• تصور سياسة صحيحة للمحفوظات ووضعها موضع التنفيذ
• توخي الصرامة في منح الوثائق الإدارية.

الجزء الثاني
استقبل الرئيس سيدي محمد بن الشيخ عبد الله يوم 1 ميه 2007 وزير الخارجية الجديد محمد السالك بن محمد الأمين صبيحة وصوله إلى نواكشوط، بعد أن تسلم مهامه، حيث عبر له عن رؤيته للوضع الجديد بالقول إن التحدي الذي يواجهه (الرئيس) أكبر مما يتصور، لأن الدولة وبنيتها قد تحللت منذ وصول الجيش للسلطة سنة 1978، وأن القيم الأخلاقية قد سجلت تآكلا خطيرا، ومع ذلك فإن انتخابه قد أثار آمالا عريضة، وأن قطاعات واسعة من الشعب تنتظر تغييرات عميقة، على رأسها استعادةُ دولة العدل والإنصاف، خاصة وأن الأشد فقرا من المواطنين هم الأكثر معاناة من الاستبداد والفساد. ويمكنه الاعتماد على الشرائح الكبرى التي ستكسب من تنفيذ برنامج إصلاحي عادل وعميق لدحر مقاومة المجموعة القليلة المتنفذة التي ظلت تحصد المكاسب من ضعف الدولة". وقدّم له عرضا عن السياسة الخارجية والإصلاحات الضرورية لتفعيل الوزارة وجعل الدبلوماسية أداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إنه لأمر جديد وغير مألوف - خلال العقود الثلاثة الأخيرة - أن يقوم وزير خارجية بشرح مهامه وتوجهاته إلي رئيس الدولة. فقد فصلتنا صحراء قاحلة عن العصر الذي احتلت فيه الدبلوماسية الموريتانية مكانة سامقة في وجدان الموريتانيين، وحظيت باحترامهم وعناية رئيسهم الذي تولاها أزيد من سنة، فعرف أهميتها وارتباط بها، وهو ما كرسه الدستور وأصبح دستوريا أو عرفيا في معظم الأنظمة الرئاسية. وظلت الدبلوماسية الركيزة التي نعتمد عليها لفرض وجود موريتانيا على الساحة الدولية، والعنصر الحاسم في بناء السمعة التي حظيت بها البلاد، وأعطتها وزنا أكبر مما هي عليه، وأعطاها بقاء حمدي ولد مكناس وزيرا لها عشر سنوات استمرارية، ساعدت في التحكم في السفارات والموظفين وغطت على الكثير من النواقص البنيوية وضعف الإمكانات المادية، وساهمت علاقاته الشخصية في ربط صلات متينة مع نظرائه في العالم العربي والإفريقي بل لدى معظم الشركاء، فكان المردود إيجابيا. ومع وصول الجيش إلي السلطة تغيرت هذه الوضعية مئة وثمانين درجة بحيث أصبح وزراؤها الأقل استقرارا، حتى أن أحدهم لم يقض إلا عشرين يوما. وتدنت كثيرا مكانتها لتصبح دائرة تابعة لمدير ديوان رئيس الدولة، ليس فقط بغيبة الوزير بل بحضوره وبرغبة منه - أحيانا - حتى لا يتحمل أي تبعات. فرؤساء البعثات يتصلون مباشرة بمدير الديوان، بينما يتولي الأمين العام مهمة التسيير الإداري وتنفيذ تعليمات الرئاسة، وحتى أن التمثيل في المحافل الخارجية ونقل الرسائل إلى القادة لم يعد من مشمولات وزير الخارجية، إذ لا يحتاج – في نظر الديوان - إلى خبرة ولا تجربة. وبشكل عام خرجت الوزارة نهائيا عن دورها "الشكلي" فما بالك بالقضايا الجوهرية كالقيام بالمبادرات وتقديم الأفكار الجديدة ووضع الاستراتيجيات وخطط التنفيذ، فالوزراء مجرد كتبة ينفذون ما يملى عليهم، والخارجية والإعلام مراكز"حساسة" لا بد للعاملين فيهما من إثبات الولاء وخدمة الحاكم والبطانة. 
من هنا نفهم سلسلة الإرباكات التي تعرض لها الوزير في عمله وخاصة مع الديوان الذي يعتبر نفسه وريثا لسابقيه، في عملية استنساخ الماضي التي طبعت التجربة وساهمت في البلبلة والتذبذب الذي يتحدث عنه الكتاب؛ وقد مرَد مديرو الدواوين الرئاسية المتعاقبون على خلق مراكز من العاملين حولهم ممن ليس لهم عمل ولا مكاتب لتدمير الوزراء، بمتابعة عملهم اليومي غير متورعين عن استخدام الكذب، حتى يتسمم الجو ويسود الشك. ومن المحزن أن ذلك يسبب الضرر الكبير لعلاقات موريتانيا والتزاماتها ومواقفها. ويُحسب للوزير تثمينه للنتائج الإيجابية التي تحققت وإسداءه خدمة جليلة بالكشف عن الاختلالات التي عانت منها مؤسسات الدولة: رئاسة ووزارات وبعثات دبلوماسية؛ كما يؤدي واجبا بإطلاع الرأي العام على عمل الحكومة وسياسات البلد ومواقفه؛ لكن المقام لا يتسع هنا لسرد ما أورد.
  ومنذ الوهلة الأولى يسجل الوزير "أن قطاع الدبلوماسية أساسي، إلا أنه في حال يرثى لها، فموريتانيا تُبحر بدون رؤية منذ 1978 بلا سياسة خارجية واضحة أو منسجمة، ترتجل حسب الظروف، وهي لا تستطيع أحيانا الوفاء بالالتزامات التي تتحملها بين الحين والآخر، ووجودها في المحافل الإقليمية والدولية شكلي، فكما قال فيصل القاسم "لا تُستشار عندما تحضر ولا تُنتظر عندما تغيب" ومن ذلك أيضا ما جاء في تقرير بعثة من صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة زارها سنة 2000: "إن موريتانيا المتأثرة بالثقافة العربية والإفريقية لا تنتمي لأي منهما". أما على المستوى الإداري فإن الوزارة ملغومة من الداخل على مدى جيل على الأقل بسبب العدد المفرط من العمال عديمي الكفاءة. والإمكانيات الموجودة على قلتها لا توزع بين البعثات حسب ارتفاع المعيشة ولكن حسب تأثير رئيسها".
لقد كانت الورقة الرابحة التي يملكها الوزير لتغيير النظرة السلبية إلي البلاد وإقناع الشركاء من أشقاء وأصدقاء بالدعم والمؤازرة هو إقامة مؤسسات ديمقراطية حيث "شكلت الهالة التي تمتعت بها البلاد صبيحة إقامة المؤسسات الديمقراطية ورقة رابحة" عكسا لما نتذكره عن الورقة التي كان معظم من يصل إلي السلطة بانقلاب يقدمها للمانحين أن الخزينة فارغة لا تتوفر على ما تدفعه رواتب للعمال. وظل يشرح لمحاوريه المزايا التي يمكن أن تُجنى من احتضان التجربة الموريتانية الجديدة سواء في إفريقيا أو العالم العربي أو بقية العالم الذي تتشابك مصالحه، إضافة إلي تعزيز العلاقات مع المحاورين وفتح مجالات للتعاون المثمر، وأنجعُه المنظمات الحكومية التي "توفر الإطار الأمثل للتعاون الدولي. فالدول الصغيرة يمكن أن تحقق تأثيرا يتجاوز بكثير حجمها الحقيقي إذا استغلت التحالفات الجهوية أو السياسية التي تنتمي إليها لتوسيع تأثير مواقفها". وكانت الأسبقية للدبلوماسية الجديدة هي الإسهام في النمو الاقتصادي والاجتماعي الذي له تأثير على حياة الشعب المنتظر لما يساعده، لأن موريتانيا هي رقم 155/177 دولة فقيرة في العالم، تنتمي إلى المجموعة الرابعة الأكثر فقرا. وكان أول ما استهدفه التوجه الجديد: المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء خاصة الدول المجاورة، والعالم العربي، مع التركيز على دول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما تجسد في الزيارات التي قام بها الوزير لهذه الدول.
أفكار ومبادرات
يتميز الكاتب بروح المبادرة وخصوبة الخيال الفكري حيث لا نجد فصلا خاليا من فكرة أو مبادرة، ومن ذلك:
- السعي لإقامة فريق باسم "أصدقاء الديمقراطية في موريتانيا" يكون راعيا للتجربة الديمقراطية وضامنا لاستدامتها، مؤلف من الشركاء الرئيسيين (ألمانيا واسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا) على أن تلتحق بهم دول أوروبية أخرى (إيطاليا والنرويج والسويد)، واقترحت أن تلتحق بهم ثلاث دول إسلامية (ماليزيا وقطر وتركيا) وقد رحب بالفكرة دون تردد رئيس وزراء إيطاليا، كما رحبت بها الدول الأخرى، لكن بعضها طلب مهلة زمنية للدراسة. وقد أحسست التردد لدى مستشار الرئيس بوش للشؤون الإفريقية. وعلى كل فأزعم إنني لو تابعت هذا المشروع أكثر لأمكن إنجازه. ولو تحققت إقامة هذا الفريق لكان لها تأثير على الأحداث اللاحقة."
- إقناعه مجلس وزراء اتحاد المغرب العربي بأن يقدموا لموريتانيا الدعم الذي تحتاجه على غرار ما يفعل الأوربيون مع الدول الأقل نموا، لذلك قرروا "عقد ندوة المستثمرين المغاربيين ونظرائهم من مجلس التعاون الخليجي في نواكشوط. إضافة إلى سعي الوزير الليبي إلى أن يقوم رؤساء الدول المغاربة بزيارة موريتانيا معا، ولو تم لكان له وقع كبير، ويساعد على إحياء مؤسسات الاتحاد الميتة منذ فترة طويلة، والمبنية أصلا على خطأ، وهو تساوي الأعضاء في المساهمات، حيث استحت موريتانيا من أن تثير وضعها الخاص، انطلاقا من نظرتها لقيمة الكبرياء، المتناقضة اليوم مع القواعد التي تسيّر المجتمع الدولي، إذ لا يمكن لأية مجموعة أن تطلب من أعضائها دفع ما لا طاقة لهم به"
- السعي لخروج موريتانيا من اللاموقف من مشكلة الصحراء الغربية التي نعتبر - مثل الجزائر - مهتمين بها، فلا نزيد على تكرار عبارة "إننا مع كل حل يرضاه طرفا النزاع" أمام جميع الزوار مما يجعل من غير المجدي لنا وللأطراف الأخرى والوسطاء كالأمم المتحدة تبادل الرأي معنا. فقد حان الوقت لتكون موريتانيا حاضرة في هذا الملف الذي يرهن مستقبل العلاقات المغاربية والاتحاد المغاربي، ومن ثم مستقبل شعوبنا. وقد أشار الوزير إلي أنه لم يفصح عن بعض الأفكار التي طُرحها على الرئيس في هذا الشأن، وذلك - ربما - ضمن التزامه بأن لا يكشف ما قد يكون له تأثير على مصالح البلاد.
-  - اقتراح المشاركة في قوات الأمم المتحدة في دار فور، مما سيعزز مكانة البلاد في الأمم المتحدة ومع الشركاء، وترشحها لمقعد غير دائم في مجلس والذي تخلت عنه لليبيا رغم معارضة الوزير. وكان الرئيس معاوية بن الطائع قد عرض سنة 1992 إرسال كتيبة إلي دارفور ضمن قوات الأمم المتحدة لكن أمريكا رفضت بسبب تبعيّات موقف موريتانيا من احتلال الكويت.
- عقد اجتماع وزاري لمجموعة (5+5) حول التضامن الرقمي في يونيه 2008 بنواكشوط.
- التمكن من إدخال موريتانيا في مجموعة الشراكة الأورو-متوسطية بعد عشر سنوات من التأجيل.
- إقناع الصين الشعبية بتحويل المساهمة السنوية في ميزانية الدولة إلي تشييد أبنية عمومية.
- حرصه في مؤتمر آناپولي المنعقد في رحاب الحكومة الأمريكية بواشنطن في نومبر 2007 على أن يتحدث عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 حول تقسيم فلسطين، وهو ما لم  يقم به أحد حتى أصحاب الشأن.
وقد خصص الكتاب صفحات عديدة للعلاقات بين موريتانيا ودول الجوار، حيث يُلاحظ تعقيد تسييرها لأسباب موضوعية أحيانا ونفسية وتراكمية في كثير من الأحيان، لذلك نرى حرصه الشديد على أن يتعامل معها جميعا بالندية، فقد رد علي الرئيس – بشأن - وشاية نمت إليه عن رسالة حادة قد يكون وجهها إلي الرئيس الدوري الليبي لوزراء خارجية اتحاد المغرب العربي، يرفض فيها قرارا لم يُستشر عليه - قائلا "إن دولة لا تحرص على أن تُحترم ليس لها شركاء وإنما أوصياء، وبالتجربة، فإننا لن نكسب احترام تلك الدول بابتلاع الأفاعي، وأرى أن على الدولة الصغيرة أن تكون أحيانا متشددة وإلا فإن شركاءها سيتجاهلونها تماما. واخترت بهذه الرسالة أن يحترم الآخرون القواعد التي وضعناها معا. فالمثل الصيني يقول إن السمك الكبير يبتلع الصغير الذي يتغذى بدوره على القريدس؛ وفي المغرب العربي نحن "القريدس" لكن علينا اليقظة حتى لا نُؤكل. وقد قدم الوزير الليبي للسفير في طرابلس الاعتذار، فأبلغ السفير الرئيس بعد ذلك أنه لم يشعر بالتقدير إلا بعد تلك الرسالة"
ويلفت النظر في الكتاب المعرفة الدقيقة بتاريخ البلاد التي زارها على تنوعها، فقد ذكّرنا بأن دمشق هي أول مستوطنة بشرية على أرض المعمورة وأن صنعاء أول عاصمة في التاريخ، وبمكانة الشناقطة في السودان، ولم يبق له إلا أن يذكّرنا بمحمد صالح الشنقيطي رئيس أول جمعية تأسيسية فيه قامت بإعلان الاستقلال وصادقت على دستوره، ولا شناقطة اليمن والأردن والكويت ومصر وليبيا، ولعل ذلك من باب توخي الاختصار، كما نبهنا إلى أن أول دستور حديث في العالم العربي هو ما استنه البايْ محمد الصادق في تونس عام 1861 مما يفسر رفض شعبها لخنق حرياته.
 ويضاف إلي هذه الميزات التمكن من الأساليب التي يُتعامل بها، من ذلك طلبه لعدد من القادة التدخل لتحسين علاقات موريتانيا مع دول أخرى، والحضور الذهني لتصحيح معلومة أو إسهام في حديث أو تنبيه خلال لقاءات يحضرها بين الرئيس ونظرائه؛ وتلك أيضا من مهام وزير الخارجية في الأنظمة غير الاستثنائية.
**
يضم كتاب الأمل الخائب مقدمة وتسعة فصول هي: وزير الخارجية، وضع التوجيهات المحدِدة للسياسة الخارجية موضع التنفيذ،مجلس الأمن، إسرائيل، قضية الصحراء الغربية، اللجنة الوزارية المكلفة بعودة اللاجئين، وحل الإرث الإنساني، إصلاح وتحديث الجهاز الدبلوماسي، نتائج مشرفة، الستار الحديدي.
لقد عالج الوزير جميع هذه المواضيع بعمق لأنها كانت في صلب مهامه وأشبعها تحليلا، عارضا وجهة نظره وما أنجزه وما لم يتمكن منه، والعقبات التي واجهته، والنواقص التي تعاني منها وزارته، مع ربط المشهد كله بالموضوع الجوهري، وهو التجربة الديمقراطية ومآلها المحزن، موضحا دور كل اللاعبين، ومحددا لكل منهم مسؤوليته وعلى رأسهم الرئيس سيدي محمد بن الشيع عبد الله. وبذلك يرفع سقف النقاش السياسي، الذي ظل متقوقعا حول الهم اليومي، واجترار معلومات قديمة مجتزأة، وتخمينات، دون تحديد المسؤوليات. وينبغي أن يشكل الكتاب إغراء للسياسيين وخاصة أقطاب التجربة المعنية بالإدلاء بدلوهم.

غرائب وطرائف

- توعُّد الرئيس الفرنسي نيقولا سركوزي لأحد معاونيه أمام رئيس الجمهورية ووفده في الأليزى!
- إبدال كاتب الدولة الفرنسي لاسم الرئيس وبحضوره باسم وزيره الأول الزين بن زيدان ثم تصحيح الخطأ.
- العثور على اتفاقية بين موريتانيا وجزر الرأس الأخضر بشأن الجرف القاري بينهما سنة 2003، حيث قُدمت للبرلمان لإجازتها، حتى نتمكن من مد مياهنا الإقليمية 200 بحري طبقا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق البحار.

تصويبات

أقيمت العلاقات مع سوريا سنة 1966 وسبقتها مصر بسنة، ولم تقدم من المساعدات إلا في الثمانينات وهي كلها في مجال المنح؛ أم سفيرها فكان في نواكشوط سنة 1987.
- جاك لبريت هو ثاني سفير لفرنسا لدى موريتانيا بعد الاستقلال.
- قطعت موريتانيا علاقاتها بإيران بعد العدوان على موكب أمير الكويت أمام قصره، حيث كلفت بإعداد "تقدير موقف" حول الموضوع، نصحت فيه بعدم القطع، وقبل أن أسلمه بساعات أُذيع القرار!.


Article 1

$
0
0
جميع الحقوق محفوظة، يحظر نشر مواد المدونة أو الاقتباس منها دون ذكر المصدر

نظرة الرئيس المختار بن داداه لما يجب أن يتحلى به رئيس دولة من صرامة وأخلاق وتعامله مع الرشوة

$
0
0
في كل مرة تثار فيها مشاكل موريتانيا أجدني مدفوعا إلى العودة إلى مذكرات الرئيس المختار "موريتانيا عبر التحديات" لعلي أجد فيها ما ينير الرؤية. ومن ذلك ما كتبه في الفصل الرابع عشر بعنوان {ما جعل الله  لرجل من قلبين في جوفه} وهذا جزؤه الأول الخاص بالرشوة ومواجهتها، الذي أنقله إلى القارئ الكريم:

  "لقد حاولت على الدوام، مدة بقائي أن يتطابق تصرفي فيها مع تصوري الأخلاقي للمسؤولية. وهكذا فإن المسؤول في نظري، وخاصة المسؤول السامي، مطالب ببذل قصارى جهده في الابتعاد عن مواطن الشبه في جميع المجالات الأخلاقية والمادية. ومن الضروري أن يتحلى بالصرامة تجاه نفسه ليكون قدوة حسنة للآخرين، وأن يفرض وجوده بالفضيلة لا بالاستبداد، وألا تكون رغبته احتكار السلطة والمال. وعليه في الوقت نفسه ألا يكتفي بتحاشي الرشوة بل تلزمه محاربتها بكل عزم وفى أي شكل مادي أو أخلاقي كانت. ولا فرق في نظري بين المحاباة والمحسوبية وبين الرشوة الصارخة والمكشوفة. فالكل مذموم ويستحق الإدانة. إن لين جانب المسؤول حيال الإخلال بواجبه ذنب لا يغفر. ولهذا السبب كنت دائما أعاقب بقسوة كلما أبلغت عن حالة من هذا النوع نظرا لأن إهمال العقاب يجعلني متمالئا مع المتهم بالخربة.
   وهكذا تصرفت في كل مرة أقتنع فيها بأن مسؤولا ساميا – وزيرا كان أو سفيرا أو واليا أو مديرا أو رئيس مصلحة – أصبح غير نزيه. ولا تقف العقوبة عند تجريده من الوظيفة، بل كنت أطلب في الوقت نفسه متابعته قضائيا. وخير شاهد على ذلك إلقاء القبض على وزراء وسفراء الخ. ولم يكن هذا النهج محل إجماع، حتى في صفوف الطبقة الحاكمة، بل إن كثيرًا من الناس داخل البلد وخارجه اعتبره صارما جدًا.
  وبالفعل، فقد نصحني كثيرًا بعض أعواني ومسؤولون سياسيون آخرون بالتسامح، وكانوا يبحثون عن ظروف مخففة لصالح المرتشين منبهين في الوقت نفسه على ما ينجم عن اعتقال وزير من فضائح يمكن استغلالها، مثلا، من قبل المعارضين للنظام للنيل من نفوذه وصيته عندما تعرض مساوئ بعض المسؤولين السامين في وضح النهار. وهذا خطر قائم حسب رأي هؤلاء. أما في الخارج فقد تتضرر سمعة البلد من ذلك…
  ولم تتغير إجابتي لهؤلاء، إذ أعتبر أن إنزال العقوبة بمسؤول سام غير شريف لا يشكل فضيحة، بل إن الفضيحة الحقيقية تكمن في تركه دون عقاب وقد ثبت عليه عدم النزاهة الأخلاقية أو المالية.
  أما مفهوم المسؤولية فيتناسب عندي مع الرتبة التي يحتلها الشخص في سلم الدولة. فكلما ارتقى إلى مسؤولية سامية كلما كان خطؤه جسيما. وعليه فإن ممارسة مسؤولية، مهما كانت درجة سموها، لا توفر حصانة لصاحبها، بل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فالذنب يعظم أو يصغر حسب الموقع في المسؤولية. لمذا؟ لأن سلوك المسؤول السامي، طيبا كان أو سيئا، إنما هو أسوة للآخرين خاصة من يتبع منهم لسلطته، في حين أن تصرف الموظف البسيط التابع أقل تأثيرا.
  وعليه فإن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع درجة الخطأ من جهة، ومع أهمية الوظيفة التي يمارسها المخطئ في سلم الدولة من جهة أخرى. ويتطلب الأمر في المقام الأول، إرساء قواعد عدالة موضوعية حقا، تخدم الجميع، وهو طموح يصعب تحقيقه في الواقع، ولكن ينبغي السعي إليه دائما. وفى السياق نفسه، قرر المكتب السياسي الوطني لحزب الشعب الموريتاني في شهر فبراير من عام 1970 التعليق المؤقت لأي عضو يتعرض لمتابعة قضائية، على أن يعاد دمج المعني إذا أثبتت العدالة براءته. وبالمقابل فإن إدانته تقتضى، حسب الإجراءات، طرده نهائيا من المكتب السياسي الوطني.
   إن الطرح السابق يلخص بإيجاز جهودنا الرامية إلى تهذيب أخلاقنا وسلوكنا السياسي والإداري قدر الإمكان. فقد نجحت تلك الجهود على الأقل في الحد من آثار الرشوة والمحاباة وأمراض أخرى مشابهة، وإن لم تقض عليها بصورة نهائية. فلم يعتقد مسؤول قط، مهما كان منصبه، أنه فوق القانون. فالكل مقتنع بأنه سيعاقب سياسيا أو قضائيا أو هما معا حسب الحالات، وذلك عندما تثبت عدم نزاهته.
   ويمكننا القول دون تباه بالنصر إن حالة البلد في هذا المجال سنة 1978 لم تكن الأسوأ مقارنة بنظيراتها السائدة في بعض بلدان منطقتنا. فخلال ثماني عشرة سنة مثلا لم يثبت على المسؤولين السامين من عمليات الاختلاس سوى بعض حالات تمت متابعتها قضائيًا. وكان البحث عن المختلسين في تلك الفترة على أشده من قبل مراقبي الدولة ومفتشي المالية. وأشير في الأخير إلى أن هذه السياسة نجم عنها تعميم عدد هام من الرسائل وجهتها شخصيا إلى الوزراء ومراقبي الدولة والولاة.    
ومن غير المستغرب أن تثير هذه السياسة استياء من تعرضوا للعقوبة جراء الأسباب التي تم عرضها، وأن تكون الحال كذلك بالنسبة لذويهم وحلفائهم، وهي السياسة التي سماها البعض "صرامة المختار السقيمة". يتبع

Article 24

مصلو تفرغ زينه يستقبلون رمضان بدون الإمام أحمد بن محمد فال

$
0
0


  
 


دأب سكان حي "سـوكـوجـيــــم"على صيام شهر رمضان الفضيل وقيامه، يستقبلونه بفرحة، يصومون نهاره ويصلون ليله، كباقي مساجد العاصمة الكثيرة لله الحمد، مجتهدين في أعمال البر من بذل للفقير والمحتاج؛ يأدون الفرائض الخمس في المسجد، يجتهدون في الوصول باكرا لأخذ أمكنتهم خلف الإمام في صلاة العشاء – رجالا ونساء - في ساحة المسجد، ثم صلاة التراويح.
وقد ظل خلال العقدين الأخيرين القارئ الحافظ أحمد بن محمد فال بن سيدي بابا، إمام هذا المسجد، الذي يقبل عليه سكان الحي المترامي الأطراف، بل جيرانهم من الأحياء الأخرى، خاصة في رمضان.
  وفي 27 من رجب الماضي وافت المنية الإمام أحمد في تونس وهو في رحلة استشفائية من مرض عضال قاومه عدة سنوات بصبر وشجاعة، فكانت رزية لمصلي المسجد ورواده، ورزية لهذه البلاد بفقد أحد حفظة كتاب الله العزيز.
  لم أكن من الرعيل الذي عايش آخر فصل من قصة نجاح هذا الرجل العبقري الصبور، ولكني سمعتها من المصلين القدماء، وهي تحويل كشك من الصفيح، كان مخزنا لمعدات شركة سوكوجيم، إلى مصلى ومقر كُتّاب لتعلم القرءان وحفظه، ثم إلى مسجد. وقد استمتعت بعد عودتي من الغربة الطويلة إلى الوطن منذ ثماني سنوات بارتياد بيت الله هذا، المريح بموقعه العامر بجماعته، خلف إمامهم.
  زرت معظم أحياء نواكشوط لأطلع على التوسع الذي حدث، فوجدت مدينة عامرة بالمساجد من أحجام وأشكال مختلفة، في نهضة مباركة تعوض عن الإخفاق في مجالات أخر، وصليت في العديد منها، فبُهرت بعدد الجمهور المصلي، ونوعيته، التي يمثل الشباب غالبيتها، بعد أن لم يكن في العاصمة خلال خمس عشرة سنة من إنشائها إلا جامعان وثلاثة مساجد، حيث كان الناس يعتاضون عنها بالصلاة في منازلهم. وإضافة إلى ذلك بُهرت بعدد من الأئمة، لحفظهم وحسن تلاوتهم، وتنوع مقرئهم، من ورش وقالون إلى قراءة حفص الوافدة، وإن كان البعض من الأئمة الشباب يقلدون مُقرئي الحرمين الشريفين حتى كأنك تسمع عبد الرحمن السديس أو سعود الشريم أو على بن عبد الرحمن الحذيفي.
  وفي مسجدنا ينتمي الإمام إلى المدرسة الشنقيطية وخاصة إلى محاظر القرءان في أفلّه والعصابة والحوض، التي هي - لله الحمد - احتياطنا الاستراتيجي في حفظ القرءان وتعليمه، فهو صمام أمننا في مواجهة الجهل والزيغ والانحراف، يتلو في الفرض بقراءة ورش وفي التراويح بقالون، متوخيا التخفيف لقصر المد عند الأخير وبطريقتنا المحظرية المؤثرة. وعندما ينتصب هذا الرجل المائل إلى القصر والنحافة، ويُحرم للصلاة مندفعا في التلاوة، تجد نفسك خلف عملاق من جنود الله لا يكاد محرابه يسعه، تتهادى كلمات القرءان من فيه بسلاسة وعذوبة، رحمةً على المومنين ووبالا على الغافلين؛ في ملحمة مع النفس والشيطان أمام الخالق الديان، وفي اقتفاء حرفي لما صح من صفة صلاة رسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام؛ ويزيد خضوعك وخشوعك انضباط هذا الرجل في حركاته وكأنها  مبرمجة على جهاز آلي، فالوقت هو الوقت، وقدر القيام والسجود والركوع محدد، والهيئة هي نفسها طوال السنة: لباس نظيف، يكاد يكون من مقاس واحد، يغطي الجسم كله ولا يزيد، لا ترى إلا المُحيا والرقبة والأيدي والسواعد والسيقان، دون أن يظهر السروال، بينما تُتوّجُ العمامة ذاتُ الذؤابة هامتَه البيضاء، مما جعلني أقول لبعض الإخوة إن الإمام بانضباطه يشبه من تدرب في الجيوش، قبل معرفتي بقصته الكاملة أياما قبل رحيله. إنه باختصار مدني متحضر ومنضبط، كمن لم يتأثر بالبادية وبعض مسلكياتها التي تشوب سلوك معظمنا اليوم حتى في بيوت الله.
                                       رحلة الحياة
  ولد فقيدنا في موضع يُدعى بيظة الماء في الأطراف الجنوبية الشرقية لأفلة (الواقع آنذاك بين ولايتي العصابة والحوض) قبل حوالي ستين سنة، في أسرة صيتُها بالأمانة والصدق منثور في الحي والقبيلة، وعندما بلغ سن الدراسة تولى أمرَه زوج خالته محمد المختار بن سيدي بن عُمارُ، متنقلا به في أطراف البادية إلى حيث المرعى والكلأ من وادي أم الخز المنبثق إلى الشمال الغربي من جبل العاگر، حيث منازل القبيلة، التي تتجه جنوبا في بعض الأحيان زمن الصيف إلى ضفاف أعالي نهر سنغال وحاضرته خاي. وما أن كسر "اذْهَابَة" (حفظ القرءان دون المقرء) حتى عاد الصبي الحافظ إلى والديه، ليبدأ قراءة علم التجويد، ويأخذ السند (الإجازة في قراءتي ورش وقالون عن نافع)، وهو في هذه الفترة مساهم في رعاية الماشية والقيام بنصيبه من شؤون الأسرة وإعالتها مع إخوته. ثم اتجه إلى تدريس القرءان للصبيان لدى الأقارب، كمصدر للعيش بعد سن البلوغ، كعادة أقرانه من حفظة القرءان الشباب، المتخرجين في المحاظر المحلية التي كان من أشهرها محظرتا محمد فال بن القاسم، ومْحمد بن اچّوهَ. وهكذا تنقل في أطراف الولاية والبلاد، حتى حطت رحالُه في أكجوجت ليعلّم الصبيان لدى بعض الأسر.
وقد تاقت همته إلى الدخول إلى الجيش، ربما لكسر حاجز العزلة، الذي ضربه الاحتلال على القبائل التي حاربتهم فمنعوا عنها اقتناء السلاح أو استعماله، مما ولد عزلة لدى غالبية الشعب والابتعاد عن السلطة الوطنية وأدواتها، والتي ظلت في نظر الكثيرين امتدادا لإدارة الدولة الفرنسية الظالمة، حيث منعوا التعامل معها خلال الستين سنة من الاحتلال. وقد ترسخ هذا النهج في مناطق المقاومة أكثر من غيرها، مثل أفلّه والعصابة التي ظلت جبالها – كما تگانت - سنوات عدة معقلا للمقاومة المسلحة (أهل الكديه) قبل انتصار المحتل الغاشم. أليس مستقر جزء من قبيلة إمامنا في حاضرة بوگادوم المجاورة لرأس الفيل، حيث ضريح شيخ المجاهدين الأمير بكار بن سْويدي أحمد؟ ومن المنطقة نفسها التي واجه فيها مقاتلو أفله والعصابة الغزاة المحتلين في الجحافية، والبيظ وعلب الجمل و أجار ولدالغوث، ، بقيادة سيدي بن الغوث، ومن نفس المجموعة التي استشهد أبطالها في انييملان، من أمثال محمد الأغظف بن الشيخ بن الجوده، وحد بونا بن جدُّ بن عبد الرحمن خْليفه  من ضمن حوالي أربعين شهيدا منهم في هذه المعركة.
أُرسل الشاب أحمد إلى المغرب في دورة تدريبية في سلاح المدرعات، ليعود سائق مدرعة، ثم أبعد من الجيش سنة 1987 في الحملة التي شُنت على البعثيين، وراح ضحيتها المستعربون من أمثاله. فما كان منه إلا أن عاد إلى مهنته المباركة الشريفة تعليم القران، الذي جره إلى قلب العاصمة، فاكتتبته شركة سوكوجيم حارسا لمعداتها، في الكوخ الشهير؛ ليكون صاحبُنا مركزا دينيا واجتماعيا، حيث شكل محطة استقبال للأهل القادمين من مواطنهم للاستشفاء وقضاء الحوائج، أو العبور، كما توسعت الأسرة، وكبر بعض الأولاد، الذين حفّظهم القرءان إلى جانب التعليم في المدارس الرسمية، ليتخرج البعض منهم، بينما يواصل الصغار الرحلة المباركة، وقد أنتدب أحدَهم العامَ الماضي ليصلي بالناس التراويح.
إننا لنبتهل إلى المولى الرحمن الرحيم أن يحسن مثواه ويتغمده برحمته، مرددين مع الإمام الشاطبي:
 وإنّ كتابَ الله أوثقُ شافـعٍ  وأغْنى غِناءٍ واهبًا مُتفضِّـلا
وخيرُ جليسٍ لا يُمل حديثـُه وتَردادُهُ يَزداد فيـه تجَمـــــُّلا
وحيثُ الفتى يرتاعُ في ظُلماته من القبر يلقاه سَنًا مُتهلِّـلا
يُناشد في إرضائـه لحبيبـه  وأجدرُ به سُؤلا إليه مُوصلا 

محمد بن سيدي بابا في ذمة الله

$
0
0

  توفي ليلة الخميس الماضي 13 محرم 1436 – 14/11/6م في نواكشوط محمد بن الداهي بن سيدي بابا، عن عمر يناهز الواحدة والسبعين، بعد مرض عضال كان متلبسا به منذ فترة؛ تاركا ابنا ما يزال في نهاية المرحلة الثانوية، وابنتين، وثلاث أخوات؛ وترك في الآن نفسه فراغا في الرشيد ومجتمعه المتمدد في تكانت ومعظم ولايات الوطن.
تربى الفقيد في أسرة دين ومروءة وشهامة، في كنف أبيه الداهي الذي توفي عنه مع البلوغ، وأمه فاطمه بنت خواه، وبين أخواته وأخيه (مات مبكرا) فشب على البرور بالوالدين والأسرة، التي توسعت بزواجه، الذي أضاف لهذا العقد النفيس: فارسا وزهرتين. فتشكلت أسرة هي اليوم مضرب المثل في التقى والورع والمروءة، والثقافة الواسعة من أدب وشعر وسيرة ومناقب، فهي مرجع الباحثين والدارسين للمجمع، وجميع أنواع الثقافة المحلية، مع الإبداع، وعلو الهمة، مما يكرس إرثا ضاربا في أعماق التاريخ.
 كان محمد، عارفا بأمور دينه، مشاركا في الفنون المتداولة في محيطه،  شاعرا بالعامية، جغرافيا، قل من يضاهيه في معرفة جبال تكانت وسهولها، وأوديتها، ومنابع مياهها، وأشجارها، وتركيبتها السكانية، إضافة إلى معرفة واسعة بمجتمعه والمجتمعات المجاورة، راوية للشعر الفصيح والعامي، ولمناقب الرجال،  صدوقا صبورا، شجاعا، يعاف الخنى، ويأبى الضيم، والمذلة، يكرم الجار، ويقري الضيف، ويقدس العهد ويفي بالوعد.
 زرته يومين قبل وفاته، بعد ما سمعت بخطورة نوبة حلت به، حيث كنا نتحادث بالهاتف فقط، بسبب صعوبة التنقل في المدينة وضيق الوقت، وخاصة أنني لم أكن أتصور خطورة المرض الذي يعانيه، ويلح عليّ أنه من سيزورني في البيت. وخرجت بعد زيارتي وحديثي معه مطمئنا إلى حد ما، وأن نوباته عابرة، خاصة وأنه أشفى لي الغليل بتفصيل وروية في موضوع سألته عنه.
وفي نوبته الأخيرة قبل وفاته، استدعى الابن وأوصاه، بحضور عدد من أفراد الأسرة، وطمأنه أن لا ديون عليه، وحدد له أماكن بعض الأمانات والودائع، وقال لإحدى القريبات التي كانت تريد أن تدلّك قدميه "لا جدوى! إذ مرت من هناك المنية، فلم أعد أحس باللمس"  ثم نهَر أحد الحاضرين الذي كان يداعبه، ليحاول تخفيف ما هو فيه: "اتركني وما هو أنفع لي"وقرأ الفاتحة وبعض الآيات، ثم شرع في الشهادة، حيث لم يفقد الوعي إلا في آخر رمق. وبذلك مات محمد على ما عاش عليه من المثل التي تربى عليها.
  وأول ما يتبادر للذهن أمام هذه الشجاعة، ما ذكر لي الثقاة الراوين عن شهود عيان عن موت جد أبيه لأمه محمد المختار بن الحامد؛ عندما حلت به المنية وهو في ركب من الحجاج عند ميقات ذي الحذيفه حوالي سنة 1915 - وهو مهاجر من بلاده بعد الاحتلال الفرنسي - حيث كان يعاني من مرض اعتبره رفاقه خفيفا: فالتفت إليهم وقال: "سترون اليوم موت الشجعان"فتمدد على الأرض وتغطى بقطعة قماش، وما لبث أن انقطع دون حراك.
  وفقدت تكانت بموت محمد بن سيدي بابا علما بارزا قل مثيله، كما فقد الرشيد وجهه الأدبي الثقافي المتميز، وفوق ذلك فقدت الأسرة الأب والأخ والابن، وفقد الأصدقاء الزميلَ والرفيق المؤنس، المنجد عند الملمات، رحم الله الفقيد وأدخله فسيح جناته ورزق الأهل الصبر وحسن العزاء، وبارك في الخلف، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ذكرى رحيل أحمدُ بن احميّد

$
0
0
                                                               بسم الله الرحمن الرحيم




قبل إعلان الاستقلال بأشهر، وحتى السنة الثالثة بعده، توافد على نواكشوط عدد من أبناء موريتانيا المقيمين في الخارج، معظمهم من الدول الإفريقية المجاورة والباقون من جهات أخرى، أهمها المنتمون إلى الجالية الموريتانية في المملكة العربية السعودية والسودان، وبعض الإخوة من بيظان أزواد.
كان القادمون من السعودية الأكثر عددا وتنوعا، وكان أولهم النعمه بن المجتبى نجل أحد أبرز أشياخ الصوفية، المقيم في الحجاز، الذي عين مستشارا في الرئاسة قبل الاستقلال بأشهر، أما الدفعة الأكبر فقد وصلت على حساب الحكومة الموريتانية، عن طريق أحد كبار المسؤولين، السفير/ محمد عبد الله بن الحسن، وأشهرهم أحد رجال الدين البارزين: أحمد بن المختار، ومنهم معلمون، وضابط برتبة ملازم، ومجموعة من الشباب.
وبما أن غالبيتهم من المستعربين، الذين لا يعرفون اللغة الفرنسية، فكانت مجالات استخدامهم مححدودة، فوُجهوا إلى الجهات لإدارية التي بها استخدام - ولو متواضع - للغة العربية، فأربعة إلى الإذاعة: أحمدُ بن احميّد، خليفه حسن، محمد الأمين بن ماء العينين، وول عبد الملك، وآخر إلى سكرتارية الرئيس العربية، ثم الإعلام: أحمد محفوظ لبات، واثنان إلى التعليم: محمد محمود بن ياتي، وإسلمُ بن بيبّه قبل أن يُبعث طالبا إلى تونس، والتحق واحد بالسلك الدبلوماسي هو محمد لقمان بن سيدي كأول قنصل في القاهرة، وكان قبل وصوله موظفا في إحدى وكالات الأمم المتحدة، وعمل اثنان في السفارات: أحمد بن المختار سابق الذكر بعدما مر بالإذاعة، ومولاي الزين بن شغالِ، ومنح بعض الشباب في الخارج مثل سيدي ابراهيم سيدات.
 ومن أبرز من جاء من أزواد خي بابا شياخ ليلتحق بالإذاعة، التي تعلقت به.
وقد عاش هؤلاء وضعا حرجا عند وصولهم، إذ لم يكن بالإمكان توفير متطلبات إقامةٍ وتوظيفٍ، حيث لا إطار جاهزا لذلك؛ فالدولةُ في طور التشييد، والعاصمة ورشة عمل كبيرة لإقامة مكاتب الحكومة وسكن موظفيها، وسط فوضى انتقال الوزارات ووثائقها من العاصمة السابقة "اندر"في السنغال، وحركة المواطنين القادمين من أنحاء البلاد؛ في يقعة لا توجد فيها فنادق ولا مطاعم ولا سيارات أجرة، حيث يتكدس الضيوف في المنازل الخصوصية في "الَگْصر"الذي يسكنه أيضا موظفو انْدَرْ قبل انتهاء تشطيب المنازل المخصصة لهم.
أما مكاتب الوزراء والمديرين فهي ضيقة جدا، ومليئة بالأثاث والملفات المرحّلة من العاصمة السابقة بسيارات الشحن؛ والهمُّ الرئيسي للقادة تثبيت موطئ قدم للوزراء والنواب ورؤساء المصالح، المرحلين.
ومصدر القرار: رئيس الحكومة (رئيس الجمهورية فيما بعد) لا يجد بدوره مكانا كافيا في مكتبه حتى لا ستقبال أكثر من أربعة أشخاص، وإن زادوا فسيبقون واقفين.
وهكذا يجد هؤلاء العائدون إلى الوطن - بعد غيبة دامت  أحيانا عقودا من الزمن - أنفسهم في ساحة تجمع، تشبه تلك التي تلتئم فيها الأحياء البدوية في مواسم الخريف على بواكر المراعي (العارظ) أو الصيف على المناهل، أو "حصرات"إحصاء السكان.
يضاف لما سبق الجو السياسي المشحون بالجدل حول مستقبل الكيان الجديد؛ فالأحزابُ السياسية تتصارع حول نوع نظام هذا الكيان وهويته، ولمن سيتبع، هل إلى الشمال أو الجنوب، أو سيبقى حيث هو؟.
والطموحاتُ التي يحلم بها الوافدون لبلادهم من المشرق، جعلتهم يعتقدون أنها مع الاستقلال ستتحقق، بل إن جزءا منها لا بد أن يكون قد أُنجز خلال غيبة أجدادهم وآبائهم. فوجه موريتانيا – في مخيلتهم - لا بد أن يكون قد تغير، كبقية مستعمراته في العالم وخاصة في المشرق (لبنان وسوريا والعراق) أو على الأقل كالدول التي مروا بها في الذهاب، كالسودان الفرنسي ونيجيريا أو المقيمين فيها كالسودان والحجاز.
وهم أيضا لا يرون موريتانيا إلا بلدا عربيا صرفا، لا مكان فيه لغير لغته العربية، بعد أن تكون الحكومة قد ألغت لغة المستعمر: الفرنسية! التي كان تعليمها من أسباب هجرتهم، هروبا بدينهم ولغتهم. وأن البلاد لن تكون أقل في تطورها العمراني وبنيتها التحتية من الدول الآسيوية المتخلفة آنذاك، كمليزيا وكوريا وتايوان بل الصين، ولا يمكن لمستواها العلمي والثقافي أن يكون أقل عن اليمن الشمالي المستقل.
وعلى صعيد السياسة الدولية الدولية، فيجب أن تكون قلعة للأحرار عدوة للاستعمار والصهيونية، تتبع الخط الثوري لجمال عبد الناصر، وتنتقم من فرنسا على احتلالها، وتعيد المهاجرين الذين شتتهم المحتل في القارة السمراء وعلى ضفاف نهر النيل وفي الجزيرة العربية وتركيا؛ حيث القادمون هم أبناؤهم وأحفادهم؛ (هذا في وقت أوصدت جامعة الدول العربية أبوابها أمام هذه الدولة الحديثة).
والحمد لهف أن جزءا من هذه الأحلام قد تحقق في حياة البعض من هؤلاء الأبناء المتشبعين بحب الوطن.
هذا هو الجو الذي التحق فيه أحمدُ بن احميّد بالإذاعة سنة 1962، وتلك طموحاتُ أقرانه العائدين، ومن ثم فهو يحمل على - الأقل - جزءا منها، لكنه يجد إذاعة في مبنى صغير، كانت إدارتها قبل سنة فرنسية، ورئيس التحرير فرنسي، يفرض  خط تحرير صارم، لا يتحدث عن الثورة الجزائرية إلا كتمرد إرهابي، ويعادي العروبة والإسلام وحركة التحرير الإفريقية، من كينيا (الماو ماو) حتى غانا، ومن الكامرون حتى جنوب إفريقيا.
 وباختصار، الإذاعة هذه، خارجة للتو من التبعية العضوية لإذاعة فرنسا لما وراء البحار. وبرامجه العربية مقتصرة على  نشرة إخبارية في الزوال وأخرى في المساء، تتبع مباشرة النشرة الفرسية، وتكون أخبارهما متطابقة، وطاقمها مؤلف من مذيعيْن اثنين، ومترجم إلى الحسانية.
كان أحمدُ استثناء من المجموعة، فقد تغلب بسرعة على عواطفه، وتحكم في خيبة أمله، حيث اندمج على الفور في القسم العربي، ووضع خبرته تحت تصرف الهيئة، وألغى فارق السن الذي يصل الأربعين سنة مع لسكرتير التحرير، ولم يناكف في موقعه ولا مؤهلاته ولا التجربة التي تؤهله هو لسكرتارية التحرير، حيث كان الرجلُ، وطنيا حتى النخاع، مستعدا للتضحية بما لديه في إقامة دولة وبناء وطن، وهو الذي علّمته الغربة أن الأوطان أغلى من الاعتبارات الشخصية، ولا يمكن التفريط فيها، فهو متقدم في تفكيره على الكثيرين ممن يعاصرونه. 
أحمدُ هذا، عاش فترة فريدة في حياته وهي مواكبة استقلال السودان، فتشبع من تجربته التعددية، التي سبقت الأحكام الاستثنائية والرأي الواحد، وفوق ذلك تعرف عن كثب على الصحافة وعلى دورها في توعية الشعوب، للنهوض من التخلف بثالوثه: الجهل والفقر والمرض. فكان أول من نادى بأن يكون للإعلام الموريتاني إسهامه في تطوير عقلية مواطنيه، إذ ليس كل شغله أخبار الساعة رغم أهميتها، وانخراطه فيها، كمحرر ومذيع. لذلك أنشأ فورا برنامجه الشهير "الحضارة والنظام في القرن العشرين"فكان أول من شخّص مواطن التخلف في تفكيرنا وسلوكنا، بأسلوب مبسط وممتع، رغم حساسية بعض المواضيع.
فتحدث عن التعليم ومناهجه، وعن التعامل في الإدارة، وأهمية  الانضباط والطاعة، وضرورة التوثيق، وأرشفة أعمال الدولة، وعالج من جانب آخر قضايا كانت شائكة مثل السمنة لدى النساء، وملابس النيلة لديهن ولدى الرجال (العمائم والسراويل) والتمائم المعلقة على صدور الناس (الَكتوب) بمن فيهم الوجهاء والمشائخ والأمراء، وفوضى دخول المنازل الخصوصية، وظاهرة التّمعيش، بدل العمل والكدّ، ومحاربة الاتكالية، ومضار الشاي، وتضييع الوقت في شربه وفي جلسات لعب ظامت و"الكرت". وكان من دعاة إقامة مسرح وطني لبث روح الوعي والرفع من ذوق الناس.
ومما تميَز به أحمدُ الذي زاملته أكثر من أربع سنوات، قبل انتقاله من الإذاعة إلى الصحافة الكتوبة انضباطُه، وجديته وتشبعه بروح الزمالة والدعابة.
ونحن بعد 50 سنة من الاستقلال نعيش مظاهر تحتاج أكثر إلى التوعية والتوجيه، وتضافر الجهود لمواجهتها، فعندما نرى طريقتنا في البذخ خلال الحفلات، وفي الأكل والشرب، ونتمعن أذواقنا في اللبس والأثاث، نتذكر برنامج الحضارة والنظام في القرن العشرين.
نعم كبرت المدن، واستغنى من استغنى، وافتقر من افتقر (وهم الأكثر) وتراكمت المشاكل وتعقدت، وتدهورت القيم، وضعف الحس الوطني، وطغت المادة، وفسد الذوق، وتضعضع الموروث الثقافي، لتحل محل ذلك كله قيم الغير، وخاصة الغرب، الذي يأخذ اليوم ثأره بعد ستين سنة من ممانعة الموريتانيين في التعامل مع دولة الاحتلال وخاصة تعلم لغتها والأخذ بقيمها، وبعد العقدين الأولين من الاستقلال، حيث كان العمل يجري على قدم وساق لاستعادة مكانة اللغة وتحديث الثقافة، للّحاق بركب الحضارة، مع الاحتفاظ بالثوابت الوطنية والدينية وبالأصالة، قبل أن يتعرض المشروع لمعاول الهدم.
ورغم أن معظم العائدين من الهجرة قد عادوا أدراجهم، تاركين أرض أحلامهم، فقد بقي البعض - ومنهم صاحبنا - ليساهموا في تأسيس المشروع إيانا.
فنتذكره كموجه وناقد اجتماعي، وصاحب ذوق رفيع وحس مرهف، متمنين أن تتجه وسائل الإعلام الكثيرة المؤثرة صوب أغراض الإعلام، من إخبار وتوجيه وتسلية، وأن تركز على الابتكار والابداع، وليس الاجترار والمحاكاة.
.
وفي هذا المقام، دعونا نتذكر آخرين من الرعيل الأول الذين أسهموا في مسيرة إقامة الدولة والدفاع عن استقلالها، من خلال انخراطهم في حقل كان وليدا ولكنه خطير، هو الإعلام، فلنكرمهم أيضا، كزملاء ونناضل من أجل أن تلتفت إليهم السلطات العمومية، لتفي بحقهم وذويهم، بدل أن تتولى الأمر العائلة والقبيلة.
وممن نتذكر ممن لم يكرموا بعدُ، محمدّن بن حامدٌ، محمد الأمين بن آگاط، خي بابا شياخ، الحاج انكيده، عبد الرحمن بن إبراهيم اخليل، سومارى حامدن.

رحم الله من لقوا ربهم، وشمل بلطفه الباقين، وأنعم على هذه البلاد بالخير العميم، وأخرجها من نفق التخلف، ووقاها من الانزلاقات، وأزال عنها الظلم والحيف.


23/01/1436- 17/11/14م

Article 0

عرض عن كتاب الداهية بن محمد فال المختار موريتانيا وقضية الصحراء، من الحرب إلى الحياد، قراءة في الحصيلة والآفاق

$
0
0


عرض  بقلم/ محمد محمود ودادي

   أشكر المعهد الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية على دعوته للمشاركة في هذه الندوة، وأثمن عاليا جهوده للإسهام في تلبية حاجة الدارسين والمهتمين، بل الجمهور، في الوصول على مبتغاهم المعرفي في بلاد ما تزال في بداية طريقها إلى توسيع حقول المعرفة، كما أثمن مجهود مركز الجزيرة في اهتمامها المتواصل بالمؤلف الموريتاني.
  لقد قرأت هذا الكتاب المؤلف من 270 صفحة، وبابيْن وأربعة فصول وملحقات عديدة، وذلك بطريقة سريعة ومتقطعة، لكني خرجت بأنه إسهام في موضوعه، فهو عرض مكثف عن الصحراء الغربية وعلاقات كل من موريتانيا والمغرب بها وكذلك الجزائر، إضافة إلى تطرقه لأحداث موريتانيا الداخلية، وخاصة النشأة، ومدى ارتباط ذلك بالموضوع، موظفا هنا أهم وثيقة موريتانية مكتوبة حتى الآن عن نشأة الدولة والمصاعب التي اعترضتها، وخاصة علاقاتها بالجيران والإقليم، ثم عن القضية الصحراوية والحرب التي اندلعت حولها، أعني كتاب الرئيس الراحل المختار بن داداه: موريتانيا على درب التحديات.
   ويمكن تلخيص الرؤية الموريتانية في قضية الصحراء في أنها ذات أبعاد وطنية وإقليمية وحتى دولية، ولاهتمام موريتانيا بها وتشبثها بأن تكون طرفا في جميع الجهود والتحركات المحلية والإقليمية والدولية، لتقرير مصيرها، مقدماتٌ كثيرة، أن الطبقة السياسية الموريتانية كانت مقتنعة بأن الصحراء جزء من موريتانيا ومعها ـ إلى حد ما ـ  أزواد في مالي. وهو ما يجسده خطاب الرئيس المختار الشهير في أطار سنة 1957 الذي ذكره المؤلف دون فقرته الأكثر التصاقا بوجدان جل المواطنين: "..أن موريتانيا لا يمكن أن تنهض إلا بجناحيها: الصحراء الغربية وأزواد"؛ إضافة إلى أن تحقيق الوحدة مع الصحراء هو اكتمال للسيادة الوطنية وتعزيز الفضاء الشنقيطي البشري والثقافي، ومن ثم الاقتصادي والسياسي، مما سيحصن استقلال موريتانيا ويدعم مكانتها الإقليمية، سواء مع أقطار المغرب العربي، أو دول غرب إفريقيا؛ وكانت الفترة التي شهدت تقاربا بين نواكشوط والرباط والجزائر، منذ سنة 1969 مليئة بالآمال والتوقعات ببناء جسور من الثقة بين الأطراف الثلاثة، الخارجة من سنوات من القطيعة والتوتر، فالتقت وجهات نظر قادة هذه الأقطار في حينه، حول هدف محدد ومعلن، هو إخراج الاستعمار الإسباني من الصحراء الغربية، فشكلوا "مجموعة"ثلاثية في مؤتمر نواذيبو سنة 1970، نسقت للضغط على إسبانيا وحرمانها من سياسة فرق تسد التي كانت تلعب عليها لتماطل في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومهد هذا التفاهم الثلاثي ـ كما كان متوقعا ـ لتوقيع اتفاقية حدود بين الرباط والجزائر، وطي صفحة الخلاف المزمن بين موريتانيا والمغرب، لتثبّت الحدود نهائيا بين الأقطار المغربية الثلاثة، بعد أن ظلت سببا رئيسا في الخلاف بل الصراع أحيانا.
  
   وقد استطرد المؤلف محطات مهمة، منها أن  الموقف المبدئي لموريتانيا كان رفض التقسيم لأنها تعتبر الصحراء موريتانية، مثل الموقف المغربي منها تماما، لكن الرئيس المختار قبِل التقسيم، خضوعا لواقع ميزان القوة والضغوط الخارجية، ومنها العربية والإفريقية والأروبية.

  وكما قال المؤلف، فإن التقسيم تم في التفاهم السري بين المختار والحسن، الذي توج باتفاق فاس سنة 1974، ثم تلته المرافعات أمام محكمة العدل الدولية سنة 1975، والتي كان يراد منها تثبيت الاعتراف بحق كل طرف أمام هيئة دولية؛ فقد قُبلت "المجموعة الموريتانية"ندًّا للدولة المغربية ذات الإدارة العريقة، وهي سابقة قانونية كرستها المحكمة الدولية، وبذلك حُسمت المطالبة بموريتانيا - وهو مكسب عظيم - حيث اعترف المغرب "بالمجموعة الموريتانية"وأن لها "صلات خاصة مع بعض قبائل وادي الذهب أي تيرس الغربية"مقابل اعتراف موريتانيا للمغرب بـ"علاقات مماثلة مع بعض قبائل الساقية الحمراء". وقد لاحظ المؤلف أن المحكمة حرصت على أن تقرير المصير المنصوص عليه في قرار الجمعية العامة هو الاستفتاء المباشر، بينما اعتبرت موريتانيا والمغرب أن تصويت المجلس الوطني الصحراوي (برلمان المستعمرة) بالأغلبية لصالح اتفاقية مدريد، تقرير مصير، مثل الجمعيات الوطنية في المستعمرات السابقة التي أُعلن استقلالها دون تنظيم استفتاء شعبي، ومنها موريتانيا، بينما ردت پُوليزاريو بأن ذلك يتجاوز الحقيقة، لأن أعضاء برلمان الإقليم لم يكنوا حاضرين جميعا، بل ساندها بعضهم وحضروا إعلان الجمهورية الصحراوية في فبراير 1976، مؤكدة تشبثها بنص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 حول تقرير المصير.
 
وقد ضم الكتاب بين دفتيه معلومات كثيرة يحتاجها - بلا شك - القارئ، وإن كان القليل منها جديدا بالنسبة للمتتبع، كسير الحرب وخسائرها، وملابسات انقلاب 1978 وما آلت إليه سياسة اللاسياسة بالنسبة للبلد عامة، ولقضية الصحراء، وعلاقات الحكم الجديد بأطرافها، بل بالعالم الخارجي كافة. ومن أمثلته على ذلك "اتفاق الجزائر بين موريتانيا وپوليزاريو، في 5 أغشت 1979، والظروف الغامضة التي اكتنفت توقيعه، حيث كان إذعانا للجبهة التي فرضت انسحاب موريتانيا من تيرس الغربية - دون إخطار شركائها في اتفاق مدريد - في موعد رُتب له أن يكون سريا، لكن المغرب اطلع عليه، فبادر باحتلال تيرس الغربية. ولم يحقق الطرفان الموريتاني والصحراوي أي مكسب"؛ وهو ما كشف هشاشة بعض التسريبات إلى الصالونات (محل الحل والعقد للحكم الجديد) عن وجود "تفاهم سري يجعل الجبهة تترك تيرس الغربية بيد موريتانيا، وتتفرغ لمواجهة المغرب"ويصوغ "الصالونيون"في ذلك مقولة تريد تغطية واقع الكراهية آنذاك بين الطرفين "بأن حرب الصحراء لم تكن بين عدوين، وإنما صراع إخوة، سينتهي بالتصالح، وأن احتفاظ موريتانيا بجزء من الصحراء سيكون لصالح المجموعة؛ فالرابح في عرف البيظان أن من يُبقي على جزء من "لَمْدنّه والماشية"بعد الغارة، يكون قد خدم المجموعة كلها".

  وقد اعتمد الكاتب بالنسبة لمعظم معلوماته عن الطرف الموريتاني على ما وجد بين يده منشورا من قبل الدارسين الموريتانيين القلائل، الذين تعرضوا للموضوع، خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وهو غير كاف، خاصة أن المعلومات متوفرة ولكنها تحتاج إلى التجميع والتدوين، فالكثيرون من شهود العيان ما يزالون على قيد الحياة. كما أهمل الكاتب مصدرا رئيسا للمعلومات هو ما نشر باللغات الأجنبية الأوربية، سواء من كتب أو دراسات أو مقالات، صادرة عن مراكز بحث، أو مؤسسات حكومية غربية، أو صحف ومجلات، وتلك ظاهرة تتكرر في المؤلَّف العربي في موريتانيا. لكن الكتاب ضم بين دفتيه وبتفصيل، وثائق الأمم المتحدة الخاصة بالنزاع، وعلى الخصوص، مشاريع التسوية المختلفة التي قدمتها لأطراف النزاع والتي لم تراوح مكانها.

  وقد حاول المؤلف أن يكون متجردا وموضوعيا وهو ما لا يمكن التأكد من أنه سينجح فيه، نظرا للاصطفاف الذي ما يزال قائما بين جمهور المعنيين من الأطراف المختلفة، ولأدلجة الخطاب السياسي والإعلامي، الذي يضيّق كثيرا من هامش التجرد لدى أي كاتب، خاصة في موضوع كهذا. وقد تجلت تلك الصعوبة عندما حاول أن يقترح مشاريع حلول للخروج من الأزمة الحالية، حيث استخدم تارة عبارات تكاد تكون "وعظية"من قبيل "تغليب المصالح المشتركة، وإقامة المغرب العربي"بعد أن برهن  - من خلال سرده للوقائع السياسية ووجهات نظر الأطراف المعنية - على استحالة ما يتمناه، لعمق الهوة بين الأطراف، ولرسوخ انعدام الثقة، مقترحا أن يُترك الأمر بيد الأمم المتحدة، وهو أمر غير واقعي أيضا، أمام فشلها الذريع في القضية.
   وعلى كل، فله السبق في هذه المحاولة التي ينبغي للدارسين التركيز عليها، لكن المسؤولية تبقى على عاتق قادة الأطراف المعنية، وهم المغرب وپوليزاريو والجزائر، وموريتانيا الذين عليهم مقاربة جديدة للخروج من المأزق الذي تعيشه دولهم وتعيشه قضية الصحراء، حيث يرى د. ددود بن عبد الله: "أن على هذه الحكومات رفع اليد عن شعوبها بإدخال إصلاحات حقيقية، أو اكتمال ما تم حتى الآن، لتولد أنظمة حرة منبثقة عن إرادة الشعوب، التي ستعرف مصالحا، وأن تضع هذه الحكومات الصحراويين في ظروف من الحرية والشفافية، ليعبروا عن إرادتهم، سواء في الساقية الحمراء ووادي الذهب أو في مخيمات تندوف، وموريتانيا، أو في الشتات، وعندها سنكون على الطريق الصحيح لإيجاد حل نهائي للقضية"  لكن ذلك كله مرهون بقدرة الشعوب على فرض التغيير على حكامها وتحقيق الحرية والعدالة والحكم الرشيد وإقامة دولة القانون. وقد يكون هذا جوهر أمل المؤلف في أن نجاح الربيع العربي سيساهم في ربط علاقات أخوة بين شعوب المغرب العربي، والإسهام في حل القضية الصحراوية.
ورغم هبّة الثورة المضادة فإننا على يقين من أن عصر الدكتاتورية والتسلط، والنهب والفساد، والاحتقار، مآله الزوال، وأن الشعوب العربية لا بد أن تصل إلى إقامة أنظمة تُدخل العرب العصر، الذي حُرموا من الدخول فيه طيلة ما يناهز القرن، فسيصلون إلى إقامة أنظمة انتقالية تؤسس لأحكام ديمقراطية تحترم القانون، مما سيكون مفتاح حل الكثير من المعضلات ويضمن بقاء كياناتنا بل شعوبنا المهددة في كثير من مواطنها بالسقوط.

نواكشوط 20/08/1436 – 06/06/2015

أفكار للإسهام في تنمية بلديتي مركز الرشيد الإداري

$
0
0







منظر بانورامي لحاضرة الرشيد


    {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمسورة الرعد الآية 11  {
[لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه]حديث صحيح

المحتويات
1. مدخل
2. هموم المجتمع
3. التحدي الأول : التعليم
4. محاربة الاتكالية
5. حماية البيئة
6. آفاق مستقبل وادي الرشيد
7. خصوصيات محلية
8. الزراعة المروية
9. العمارة
10. الصناعة التقليدية
11. السياحة
12. إجراءات لها أولوية
13. خاتمة

1 مدخـــــل

•  منذ ثلاث سنوات أقضي عطلة الخريف في تكانت، بحثا عن الراحة البدنية والنفسية وهربا من نواكشوط التي لم تعد مضيافة كما كانت، خاصة في فترة الخريف، بسبب تلوث شوارعها وأجوائها، واستيطان البعوض الذي لا يميز بين الليل والنهار، وزحمة شوارعها وأسواقها وفوضى المرور فيها، وانعدام الأمن. كل ذلك جعلني "أهرب"إلى الداخل، الذي لا توجد فيه أي من هذه المنغصات، وأستعيد ما افتقدته خلال الثلاثين سنة الماضية من العيش في الخارج، ثم الركون في نواكشوط، بعد أن كنت أقضي سنويا عطلتي بين القرى والبوادي، مثل الغالبية التي ما تزال تصر على التمتع بنعمة لا تُضاهى وهي تنفس الهواء الطلق في فضائنا الرحب.
وهذه السنة دامت العطلة خمسة أشهر ونصف الشهر، بين قرى ومراكز  بلديتي الرشيد وانييملان، فأتيحت لي فرصة التجوال بين القرى والأودية، فتابعت عن كثب الناس وحياتهم، لأدرك مدى التغيير الذي حدث في الريف وأهله، وفي البيئة بشكل خاص. فالبدو الرحل قد أوشكوا على الانقراض من تكانت إلا في الجزء الجنوبي، ومعهم المواشي وخاصة الإبل والبقر، التي تناقصت أعدادها إلى حد ملفت، وأصبحت قطعانها تعد على رؤوس الأصابع، ولا يملكها إلا الأغنياء، وخاصة من المناطق المجاورة: آدرار والعصابة، الذين يأتون أزمنة الخصب – على ندرتها - ليغادروا بعد انتهاء المراعي؛ وخلال تجوالنا في معظم أراضي مركز الرشيد الإداري - الذي تغطي مساحته ثمانية آلاف كلم2 – لم نصادف في الطرق إلا أفرادا مسافرين على الحمير أو راجلين، كما لم نر المواشي إلا بالقرب من بعض المراكز المأهولة، ولم نشاهد غابة من أي شجر كان، باستثناء بعض أشجار الطلح المتفرقة في الأودية الكبيرة، وشجر السلَم (التمات) في القيع، كما لم نر هذه السنة حيوانات برية أيا كانت حتى الأرانب، أو طيورا مثل القطا، والحُبارى أو حيوانات مفترسة، إلا ابن آوى الذي نسمع عواءه في الليل أحيانا.  
هذه هي حالة البادية اليوم في تكانت، بعد انتقال غالبية سكانها الرحل مع مواشيهم إلى الولايات الجنوبية خاصة ضفاف النهر أو تلك القريبة من الحدود المالية، فخلى ريف الولاية من سكانها تدريجيا ليتشكل مجتمع جديد في قرى مرتجلة، معظم سكانها من المزارعين، أقيمت دون تخطيط عمراني أو صرف صحي، معظم مساكنها الحجرية والإسمنتية وعرُشها، مبعثرة وهشة، لا تلبي متطلبات السكان ولا تتوفر على شروط السلامة والصحة؛ تقع غالبا على جنبات الطرق الرئيسية أو في بطون الأودية بجوار النخيل أو المزارع، لكن البعض منها منعزل، لا أمل في  بقائه.
لقد أدت هجرة البدو إلى اختلال توازن المجتمع وبلبلته، بعد انفصال كفتي عماد حياته: الرعي والزراعة، فغاب التكامل والتكافل وتلاقح الأفكار، وتعطل التطور والإبداع الثقافي والانتاج الاقتصادي، ورافق ذلك تضعضع في قيادة المجتمع، ومن ثم ضعفت القدوة بتوجهيها، ليحل الفراغ، حيث أن شرعية السلطة التقليدية قد اهتزت بعد ما قررت حكومة الاستقلال النأي بنفسها – عكس الدولة الاستعمارية – عن مؤسسة الشياخة، التي تركتها شأنا قبليا بحتا لا دخل لها فيه، مع مواصلة التعاون معها دون أن تكون الوسيطة الحصريه مع الجمهور، وفي الوقت نفسه أشركت الوجهاء في العمل السياسي ضمن الحزب الحاكم، فكان العديد من الأمراء والشيوخ مسؤولين وناشطين داخل صفوفه وقياديين في هيئاته المختلفة، خدمة لأهدافه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما حاولت حركة الهياكل اقتفاءه، وإن وجهته إلى أغراض أمنية محلية.
 وفي عهد "الديمقراطية"سنة 1992 أحيت القيادة العسكرية الحاكمة الروح القبلية، ووظفت مؤسسة الشياخة في المعادلة الجديدة لكسب الانتخابات، دون أن تسعى إلى توظيفها لأهداف التنمية، وتعبئة الجمهور لذلك، فأصبحت السلطة التقليدية الغائب في النصوص والأدبيات الرسمية، الحاضر في الواقع، حيث بقيت مشروعيتها قائمة، تتكئ عليها السلطة العمومية في تسيير الشأن المحلي، ويُختار منها غالبا المنتخَبون، على كل المستويات أو بإشرافها وتأثيرها، بينما أصاب الوهن مشروعية الإدارة رغم امتلاكها الشرعية؛ فغابت قيم التضامن والتشاور والعمل الجمعوي، وانتهت جهود التنوير والتوعية التي بنى عليها الحزب الحاكم في العهد المدني برامج الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ والريف الداخلي كما "المدينة الريفية"يعيش أزمة قيادة شرعية مؤثرة توجه المجتمع نحو مصالحه والتطلع إلى المستقبل.
  ولم تحاول الأحزاب السياسية القائمة الآن - بما فيها الحزب الحاكم - تغيير هذا الواقع، لأنها بدون صوت إلا في مناسبات الحملات الانتخابية. هذا الوضع أثر على العديد من مناح الحياة، مثل ملكية الأرض والأنشطة الزراعية والرعوية، وحماية البيئة، التي هي رسميا وعرفيا منوطة بالقبيلة، التي فككها الجفاف، بعد أن هاجر غالبيتها واستوطنوا أراض جديدة في ولايات أخرى، فشيدوا فيها القرى وتعهدوا مراعيها، لذلك ترتفع أصوات بأن يُعتبر الموجودون الذين لم يهاجروا هم القبيلة، بقيّمها وعاداتها وصيتها وسلطتها وممتلكاتها؛ وأن يُسد الباب أمام اللبس القائم، بحيث تُحمى الأرض من التعدي الحالي بتحمل البلديات والسلطات الإدارية مسؤولياتها في ذلك.
 بينما يعتبر المهاجرون أنهم أصحاب الشرعية – حتى ولو تقرى بعضهم - فالقبيلة في نظرهم لا تستقيم إلا بتراثها المرتبط بماشيتها وميسمها وخيامها - حتى وإن كانت من القماش - وبالعيش في البادية وسط البدو. ويدعم ذلك استمرار بعض الصِّلات - ولو من بُعد - بين الطرفين - المستقر والمهاجر - لعمق الروابط الموروثة، مما يتجلى في تعلق المهاجرين - وجدانيا على الأقل - بانتمائهم، مهما بعدوا، متمسكين برموزهم من رؤساء وقضاة ووجهاء، الذين يوظفونهم كمفاتيح للكثير من الإشكالات مع الجيران الجدد، حيث التعايش مرتبط بالعلاقات القبلية؛ كما يظلون متمسكين بقيمهم التالدة أينما حلوا، وبمواطنهم الأصلية، مما جعلهم يطلقون أسماءها على أماكن إقامتهم الجديدة: الرشيد، الحويطات، الزويرة، كما فعل الإسبان مع مدنهم، عندما انتقلوا إلى أمريكا الجنوبية: قرطبة، طليطلة، بلد الوليد، وادي الحب، الوادي الكبير .. والرومان قبلهم، بعد انتشارهم في العالم الجديد.
• لقد كان من العوامل التي دعتنا إلى تقديم هذه الورقات حدوث تطور هام تٌعلّق عليه آمال عريضة: طريق أطار - تجگجه  - مرورا بأوجفت وتوابعه من أودية وقصور نخيل، مع العين الصفرة والرشيد والحويطات - رغم تأخرها خمسين سنة عن وقتها. ذلك أن السكان يعولون عليها في فك العزلة عن أطراف واسعة من ولايتي آدرار وتگانت، وتسهيل ربطهما بمراكز القرار السياسي ومصادر التمويل، وانتشار الوعي بتبادل الأفكار وتجارب الآخرين، ووسيلة لنقل السلع وتبادل المنافع، وتأمين أجزاء شاسعة من البلاد؛ وفوق ذلك، يرون أنها ستمكن سكان مركز الرشيد الإداري من التواصل مع أبنائهم المشتَّتين في أرجاء الوطن، ومع أصدقائهم الكثر؛ وقد بدأ أثر الطريق الإيجابي جليا على حاضرة الرشيد وتوابعها، بإخراجها – ولو جزئيا - من قمقمها، بتنفس نسمات فضاء المواصلات، بعد ربطها بعاصمة الولاية والعاصمة الوطنية ومدن الشمال وبقية أرجاء الوطن، حتى قبل انتهاء مقاطع الطريق الأخرى، وبرز أثر ذلك في مجالات العلاج والتجارة وغيرها. وستزداد أهمية هذا الشريان بعد انتهاء الطرق المبرمجة (تجگجه  – بو مْديد – كيفه – كنكوصه) وفي الآن نفسه سيكون معْبرا دوليا، مع انتهاء الطريق الرابط بين موريتانيا والجزائر، ومن ثم شمال إفريقيا والمشرق العربي؛ وبين أوروبا وإفريقيا الغربية.
إن هذه "الأفكار"التي بين أيدينا تدور حول جزء من المشاكل التي يعيشها مجتمع هذا الحيز وأبعادها، والتي هي في الغالب تداعيات خلو الريف من سكانه تدريجيا خلال الأربعين سنة الأخيرة؛  حيث  حاولنا - انطلاقا من مشاهداتنا ولقاءاتنا خلال هذه العطلة – ملامستها عن قرب، راجين أن تكون طُعما، يشد انتباه النخب إلى مزيد من الاهتمام بالشأن العام، لإخراج مركز الرشيد الإداري من عزلته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

2  - هموم المجتمع المحلي وتطلعاته

• لا بد لأصحاب القرار والمهتمين بالشأن المحلي، والقوى الحية والمجتمع المحلي من أن يكونوا قد وضعوا في الحسبان استثمار فرصة إقامة الطريق لتنمية هذا الجزء من الوطن الذي عانى من العزلة التي كادت تُخليه من سكانه، وتقضي على مواطن عيْشهِ؛ لذلك على هؤلاء أن يتقدموا للسلطات العمومية الولائية والمركزية، بمطالب عملية وواضحة في هذا الشأن، حيث سيكون الطريق مسهلا لدمج المركز، بل مقاطعة تجگجه ضمن المشاريع الوطنية مثل "استراتيجية النمو المتسارع والازدهار المشترك"التي تغطي الفترة من 2016 – 2030، المعلن عنها قبل أشهر، حيث لم يكن لهم حظ وافر في مشاريع التنمية المحلية، السابقة، ما بين سنوات 1985، 1990 و2001، وكذا "الإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر 2001- 2015". فهي تمثل فضاء واسعا من عالم الريف الأحوج لأي مجهود تنموي، بعد أن وصل التدهور الاقتصادي فيه مداه مع موجات الجفاف المتتالية، التي أحدثت نتائج خطيرة، في مقدمتها القضاء على قاعدة الاقتصاد الريفي الذي كان العمود الفقري للثروة الوطنية، وتحولات هائلة اجتماعية وثقافية، رافقت هجرة السكان إلى الحواضر ومراكز التجمع، حتى لم يبق في البادية إلا حوالي 6% من عموم السكان سنة 2000، بعد أن كانوا 70% سنة 1965؛ وقد كان تأثير الجفاف على تگانت بالغ السلبية، ليس فقط على الثروة الحيوانية، وإنما على الزراعة وخاصة النخيل، ومن ثم على الگصورْ. فقد تفرق السكان البدو بحثا عن الكلأ والخدمات في الولايات الأكثر حظا في الأمطار، والمتوفرة على طرق وبُنى تحتية وبعض الخدمات الضرورية، كالعصابة وگورگل وگيدي ماغا والحوض الغربي، بينما اتجهت الطاقة العاملة من شباب ومن أصحاب حرف وعمال يدويين إلى المدن الكبرى كالعاصمة ونواذيبو والزويرات وكيفه، وغيرها من التجمعات القائمة على طول طريق الأمل، فتقلص سكان بعض بلديات الولاية إلى أقل من الثلث، مما كان له تأثير سلبي بالغ على نموها، وزيادة العبء على الأسر المعيلة، بعد أن خلت من ثروتها الحيوانية، وطاقتها البشرية، وفي مقدمتها مركز الرشيد الإداري ببلديتيْه.
•           إن المطلوب من السلطات العمومية أن تعطي هذه الولاية الأهمية التي تستحق، كغيرها من الولايات، مع العناية بالبلديات والمراكز الأكثر فقرا، حتى يُرفع الحيف عن سكانها، ويعامَلون كالمناطق الأقل حظا في التنمية، ومنهم سكان مركز الرشيد الإداري ببلديتيه: الواحات والتنسيق، فيعطوْن تمييزا إيجابيا، كما اتُّبع في أنحاء عديدة من الوطن، مما سيكون له مردوده الاقتصادي والاجتماعي، نظرا للموقع الاستراتيجي للبلديتين وقابليتهما للنمو. لذلك لا بد من المبادرة بوضع خطة تنموية مناسبة للمرحلة، تتكفل بإعدادها وتمويلها السلطات العمومية، بالتعاون مع شركاء التنمية، على أن تُشرك القدرات المحلية: الإدارة الإقليمية، البلديات، المنتخبين، المجتمع الأهلي، الفاعلين السياسيين، المستثمرين، أصحاب المبادرات، وكل المهتمين، وأن يصدر عن ذلك:
• تشخيص مشاكل المركز، وتحديد حاجات بلديتيْه، وترتيب أولوياتهما، ومدى إسهامهما المادي والبشري، وطاقتهما الاستيعابية، وإعطائهما الإمكانيات والصلاحيات المنصوص عليها في اللوائح، والتي ما تزال حبرا على ورق، مما يجعل اليوم من هذه المؤسسة التي أنشئت لإدارة الشأن المحلي مجرد ديكور،
•  تلبية مطالب المجتمع التي عبر عنها الناطقون باسمه أكثر من مرة، ومن أهمها:
-  تصحيح الخطأ الفادح الذي ارتُكب سنة 1986 بإلغاء اسمي بلديتي انييملان  والرشيد، قلعتي الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، والذي تُشم منه رائحة السعي لطمسهما، وكأن الوادييْن بلا أهل ولا تاريخ؛ إضافة إلى أنه عمل استبدادي، لم يُستشر فيه السكان أو يعرض على مختصين. والرشيد اسم تاريخي فريد في جنوب الصحراء اختاره رجال بُناةٌ علماء صالحون، منذ مطلع القرن الثالث عشر (نهاية الثامن عشر للميلاد)،
-  تحويل مركز الرشيد الإداري إلى مقاطعة،
-  إنشاء صندوق اقتراضٍ للتنمية المحلية،
-  تأهيل عاصمة المركز، بإقامة منظومة إدارية كاملة، كمكاتب الحكومة ومساكنها، وإداراتٍ ومقارِّ أمن، والمساعدة على تخطيط الحواضر والمداشر وتزويدها بالتجهيزات الضرورية،
- إقامة بنية تحتية من طرق فرعية، وغيرها، وتعزيز المنشآت التعليمية القائمة، وفتح مركز للتكوين المهني متعدد الاختصاصات، بما فيها الإرشاد الزراعي والسياحي ودعم الصحة، مع تأهيل المنشآت الخدمية القائمة، من مياه وكهرباء، بتوسيعها وزيادة طاقتها. فحاضرة الرشيد تستحق عناية، للنهوض بها كما تم مع مناطق أخرى في الوطن، مثل انبيكة الاحواش وترمسّه والشامي،
- تفعيل القوانين المنظِّمة لتوزيع مياه الأمطار من منابعها وبين أعاليها ومصابِّها، على طول الأودية المنطلقة من إژيفْ والسّنْ مثل وادي الگصور (تجگجه، الحويطات، الرشيد) وروافد الوادي الأبيض الرئيسية اليمنى: من أدروم؛ والوسطى: من انييملان، والجنوبية من التِّشوطن؛ وهو توزيع ظل مُحترما – إلا في حالات نادرة – زمن الإدارة الفرنسية، حيث أن الوضع الحالي تعدٍّ على حقوق سكان المصاب، وسيؤدي إلى جفاف أراضيهم الزراعية المتبقية، وتصحرها، والإضرار بمجاري الأودية وآبارها، وعيونها وأحسائها التي تغذيها سيول إژيفْ. إذن لا بد أن تراجع السلطات العمومية هذا الوضع، وتزيل السدود العشوائية عديمة المردودية، التي أنشئت خلال العقود الأخيرة، في غفلة من الزمن، وأن يُعاد النظر في الارتفاع الزائد لبعض السدود، حتى يُضمن انسياب المياه إلى بقية المَصابِّ. إن العدالة في توزيع المياه تُستمد – كما هو معروف من الشريعة الإسلامية والقوانين العصرية، وحتى من شرائع البابليين والفراعنة، 
-  إعادة النظر في موضوع الملكية العقارية، انطلاقا من مقاصد الشريعة الإسلامية بإحياء الأرض وتعميم نفعها، ومن العرف، الذيْن تضعهما القوانين السارية في الحسبان، وإلا فيُخشى أن تتحول المناطق الزراعية المتبقية إلى أراض بور، ويحْرم الناسُ من كسب رزقهم؛ جرّاء تعطيلها؛ إذ الهدف الوصول إلى تنمية محلية متوازنة، يشارك فيها الجميع، ويحصدون ثمارها بعدل وإنصاف،

3 - التحدي الأول : التعليم

• كان أول ما ركزت عليه السلطات العليا الموريتانية بعد الاستقلال: التعليم، بوصفه المدخل الصحيح لتحقيق الاستقلال الناجز، وتدعيم ركائز الدولة، لحاجتها الماسة للأطر، الذين كانوا يعدون على رؤوس الأصابع، والاستغناء عن الأجانب، الذين كانوا المسيرين الفعليين لدواليب السلطة، لذلك أعطت كل العناية للتعليم، بجميع مراحله، وخاصة الابتدائي والثانوي الذي كان متاحا داخل الوطن، ففتحت مدارس في القرى والبوادي، وخَصّصتْ أموالا طائلة لتجهيزها، وأقامت الكفالات المدرسية، وتحملت مصاريف النقل والسكن لتلاميذ المرحلة الثانوية، فحطت عبئا ثقيلا عن كواهل الأسر، ومنحت الطلاب في الخارج، واكتتب المعلمين وكونتهم بإنشاء مدرستين للمعلمين والأساتذة، وفي الخارج أيضا، كما انتدبت معلمين ومربين وإداريين متخصصين في المجال من الدول العربية، وبعض الدول الصديقة، وأرسلت متدربين إلى البلاد العربية، قبل فتح الباب أمام الطلاب في جامعاتها، وبذلك رسخت في الأذهان وجود الدولة، وشرعيتها؛ وضمن هذا التوجه فُتحت مدرسة متنقلة في حلة أولاد سيدي الوافي السنة الأولى من الاستقلال (1961) وانتقلت إلى وادي الرشيد بعد التقري، سنة 1968؛ وتوجد اليوم في البلدية عشر مدارس ابتدائية، منها اثنتان مكتملتان في الحاضرة، تضمان ستة وثلاثين وثلاثمئة تلميذ (336) ومثلهما في أشاريم، وتضم ثلاثة ومئتا تلميذ (203) والحويطات ... والباقي من المدارس موزع بين رأس الطارف (فصلان)، الساگية (فصلان مجمّعان) آكنانه (فصلان)، تالمست (ثلاثة أقسام، منهما اثنان مجمعان)، انوارْ (واحد) أغنمريت (واحد بدون معلم) وثانوية في الرشيد.
• أما البلدية الثانية التابعة للمركز: التنسيق، فأنشئت المدرسة فيها سنة 1968، وبها اليوم مدرستان مكملتان تضم أربعة وخمسين وأربعمائة تلميذ (454) ومدارس متكاملة في أغلمبيت وإگفان، ومجموعة من الفصول في كل التجمعات والمراكز الصغيرة التابعة للبلدية، وإعداديتان في كل من أغلمبيت وإگفان، وثانوية في مركز البلدية، بها أحدا وعشرين وأربعمائة تلميذ (421). وخلال السنتين الأخيرتين نجح من ثانوية الرشيد ثلاثة تلاميذ فقط، بينما كانت النتيجة في انييملان 18% في العام الماضي.
• تعتبر نسبة التمدرس في البلديتين ضعيفة في مجتمع يشهد تطورا دموغرافيا لافتا، مع نقص في الفصول، يؤدي إلى الاكتظاظ، مع قلة المعدات والتجهيزات؛ أما المشكلة الأكبر، فهي انحطاط مستوى التعليم، الذي بلغ درجة تنذر بالخطر على حاضر الأجيال ومستقبلها. والمقلقُ تواصله سنة بعد سنة، والتعامل معه كأمر مقضي لا راد له، بحجة جاهزة وعلى كل الألسن، من معلمين وإداريين وآباء تلاميذ، ومسؤولين: "هذه حالة التعليم في موريتانيا كلها"!. نعم إنه وضع عام، لكنه لا يُخلي أحدا من مسؤوليته، خاصة في مجتمع منكوب منذ الاحتلال الفرنسي الذي سلط عليه العزل الدائم، انتقاما من مقاومته له، حيث حوّل أبناءه – بعد تدمير حاضرتهم الرئيسية في الرشيد ـ إلى بدو منزوين، مصنّفين في سجلات الإدارة وفي سلوكها، على أنهم غير جديرين بالثقة، وهو ما فشل قادة المجتمع المحلي، وممثلو الدولة الوطنية في تغييره بعد الاستقلال. إن الواجب الأدبي على الأقل، يقتضي تعويض ما فقده سكان هذا المركز من حقوق، وجبْرَ ما تعرضوا له من تمييز إبان الحقبة الاستعمارية وما بعدها. فكيف يتفرج آباء التلاميذ والمجتمع عامة على ضياع أبنائهم الذين هم أجيال الحاضر وأمل المستقبل؟ وكيف يصمت المنتخَبون والمسؤولون الحزبيون والسياسيون ورجال الدين والنشطاء، من نساء وشباب ووجهاء؟ ولما ذا لا تقوم الوزارة المعنية وإداراتها المحلية والسلطة الإدارية الوصيةُ في الولايات على القطاعات الإدارية المحلية، والمدرسون بواجباتهم، والمبادرة بإيجاد حلول على مستواهم، ووضع  السلطات العليا أمام مسؤولياتها؛ إننا أمام تلاعب واضح بمصير أجيال بكاملها، حيث نواجه عملية ممنهجة لتجهيلهم، الذي من تجلياته التنافس بين المدارس لتقديم أكبر عدد من "الناجحين"في الانتقال بين الفصول، ومن الابتدائي إلى الإعدادي، وهكذا دواليك إلى الثانوية؛ ثم الجامعة، رغم التواتر على أن الكثيرين من حملة شهادة الإعدادية ـ فما بالك بخرّيجي الابتدائية ـ غير قادرين على تهجي نص بأية لغة؛ وهم أيضا أُميّون في بيئتهم ومحيطهم الأسري، وأدوات منازلهم، وفي المحيط الطبيعي: نخيل وأشجار ومواش وحيوانات برية وطيور؛ ولا يعرفون أسماء ولايات الوطن وحدودها، أو دول المحيط الجغرافي، رغم أنهم قضوا - على الأقل - عشر سنوات في المدرسة. فما القصد إذن من اختبارات هؤلاء، إذا لم يكن - كما يقال – لـ"تحقيق نسبة نجاح عالية تبرئ الذمة، وتحقق "العدالة"في توزيع نسب النجاح بين مدارس الإدارات الجهوية؟، والعجيب أن خريجي الإعدادية هم النسبة الأغلب ممّن يُكتتبون اليوم – دون تأهيل – للتدريس في المدارس الابتدائية، حتى يُعمّم الجهل، ويستمر حصار التلاميذ في المدرسة طول اليوم لـ "يريحوا أهلهم من شغبهم"، كما يقول أحد المدرسين.
• إن من أسباب هذا الوضع ما هو معروف وجلي للمتابعين وحتى لغيرهم، مثل:
- إصرار السلطات العليا على التمسك بشعارات فارغة، مثل تعميم التعليم، بدل وضع مقاربة تركز على الممكن والأنجع، وإخراج العملية التربوية من المساجلات السياسية المحلية والتدخلات الخارجية السافرة،
- إفراغ المؤسسة التعليمية من كفاءاتها التربوية والإدارية، بسبب التقاعد، أو الانتقال إلى قطاعات أخرى إدارية أكثر ربحا، بفعل التدخل السافر خلال الحملات السياسية، أو التحول إلى التعليم الخاص؛ والأسوأ أن ذلك شمل قطاعي التعليم الابتدائي والثانوي، حيث فُرّغ الكثيرون منه لشؤونهم الخاصة، الأمرُ الذي تفاقم في العقدين الماضيين،
-  تلاشي القواعد التي بنيت عليها المدرسة الحديثة منذ أن أنشأها الاستعمار، وورثتها الدولة الوطنية ولاءمتها مع متطلبات السيادة، وإهمال القوانين والنصوص المسيرة لها،
-  فوضى "الإصلاحات"وتطبيقها بدون إعداد المعلمين، وتهيئة التلاميذ،
- الاكتتاب العشوائي لمعلمين دون مراعاة للضوابط المعروفة وعلى رأسها التأهيل، ومتعاقدين لا ينتمون إلى السلك، ودون دراية بالتعليم، 
- عدم جدية جهات الاختصاص: جهوية أو مركزية في التعاطي مع المشكل،
-  غياب الرقابة والتفتيش، وتجاهل نتائجها إن وقعت،
- التدخل السافر للنافذين في الاكتتاب والتحويلات التي كرست إبقاء معلمين من أبناء القرى والحواضر من غير أصحاب الكفاءات فيها، أو استمرار أمثالهم سنوات طويلة دون تحويل، في خرق سافر للنصوص والتقاليد، ولقواعد الإدارة الرشيدة وسنة التناوب، وتعميق لحمة المجتمع بالتنقل بين أطراف الوطن،
-  غياب مبدإ المكافأة والعقاب، 
-  تجاهل خصوصيات الجنسين، خاصة في المسؤوليات، والتحويل،
• من باب المقارنة فعندما نعود إلى الوراء نجد أن نتيجة المدرسة الأولى - بالنسبة لسكان بلدية الواحات (الرشيد) التي بدأت بفصل واحد ومعلم واحد، وعدد قليل من الأطفال، في ظروف الترحال في البادية - كانت إيجابية، حيث إن خريجيها وخريجي وريثتها في الرشيد - عِقدا من الزمن بعد ذلك - هم من أصبحوا - على قلتهم جميعا – كوادر، وحققوا لأنفسهم وأهليهم مستوى محترما من العيش والمكانة المعنوية، وشكلوا سندا لأبناء مجتمعهم وساهموا في خدمة الوطن بتميز. فالمدرسة كانت وستظل سُلّمًا للرقي والازدهار المادي والمعنوي، ورفع مستوى وعي المجتمع ومعيشته، وهو ما اقتنعت به الأسر الفقيرة، التي تحملت التضحيات بالاستغناء عن أبنائها وإدخالهم التعليم، وهي في أمس الحاجة إليهم في كدّها لتحصيل قوتها اليومي. ومنذ أن بدأ التعليم يتدهور، لم  يلتحق بالإدارة ولا القطاعات الخاصة أو غير المصنفة – من خريجي مدارس الرشيد ومركزه الإداري - إلا أفراد يُعدون على رؤوس الأصابع، بينما ضاع الباقون في صحراء البطالة والتشرد. وقد حل محل التعلم في الارتقاء والكسب "التبِتيب"الذي لا يُكتسب بالتدريس والكد، وإنما بالشطارة والمحاباة، إذا لم نقل بالتلصص، ولا يُراد لأجيال مدرسة اليوم سبيلٌ غيره.
• لا بأس أن نقدم بعض الأفكار، علّها تنشّط الاهتمام بهذا الموضوع الطاغي على كل ما سواه، والموجة قبل كل شيء إلى المعنيين، من سلطات عمومية، ومنتخَبين وقيّمين على المدرسة، وآباء التلاميذ، والفاعلين السياسيين وعلماء الدين والنشطاء، والنساء والشباب والوجهاء، أي القوة الحية في المجتمع، لـ:
-  خلق إطار محلي للتشاور، برئاسة عمد البلديات، يشارك فيه ممثلو الأطراف المذكورة أعلاه،
-  إنشاء صندوق لدعم المدرسة، والعملية التربوية، وتحديد الأطراف المساهمة فيه،
-  التركيز على التعاون بين آباء التلاميذ وإدارات المدارس والمعلمين، للتصدي لتقصير التلاميذ وجبره،
- المتابعة المنزلية اليومية للأطفال، للقيام بواجباتهم المدرسية، حتى ولو كان آباؤهم من غير المتعلمين. ولنا في الأجيال السابقة واللاحقة المثل، حيث معظم الأمهات والآباء أُميون،
- تنظيم دروس خصوصية طوعية من قبل المعلمين وأبناء القرى والتجمعات، تشرف عليها إدارة المدرسة خارج أوقات الدوام، وخلال العطل،
- العناية بالعلوم المدرّسة في المحظرة، من قرءان، نحو، صرف، علوم شرعية للناشئين، سيرة نبوية...
- إحياء سنّة مدارس الكبار (محو الأمية) لمساعدة مَن حرموا من التعليم،
- خلق فضاء متعدد الاختصاصات، تشرف عليه البلديات، يحتضن أنشطة ثقافية كالندوات الدينية والفكرية والشعرية، والمسرح والفن، والأنشطة الرياضية، ويحتضن البعثات الثقافية الزائرة، والباحثين والمنقبين عن الآثار، وحماية البيئة، وإنشاء مكتبة وقاعة للمطالعة،
- دعوة المثقفين وأصحاب الكفاءات العلمية من أبناء مركز الرشيد الإداري، من علماء دين وأساتذة جامعات وشعراء وكوادر وغيرهم من أصدقاء المنطقة لإقامة ندوات في مواسم الگيطنه وفي العطل، وتشجيع أصحاب المكتبات المهاجرين، وخاصة المخطوطات بإعادتها إلى مقارها الأصلية، وبذلك يمكننا أن نستعيد جزءا من الذاكرة الثقافية، لحواضرنا.

 - إقامة محظرة متكاملة لتدريس علوم المحظرة (من عقيدة وفقه ونحو وصرف ولغة وأدب وحضارة إسلامية ..) حتى تتمكن الأجيال الصاعدة من امتلاك ناصية العلوم العربية والفقهية ، كما الحال في جميع أنحاء الوطن.

4محاربة الاتكالية

• إن أخطر ما يهدد مستقبل سكان البلاد كلها والريف ومراكزه خاصة، روح الاتكالية والتعويل على مساعدات المنظمات الوافدة والهيئات الخيرية، سواء مباشرة أو عبر السفارات المقيمة النهج الذي ابتكرته الدول الغربية وقلّدته الدول الأخرى بما فيها العربية، بترحيب من الحكومات الوطنية، التي تتهمها تلك الجهات علنا "بعدم الأمانة كواسطة بين الممولين وشعوبها"!. وبتوجيهات من هذه الجهات أُنشئت منظمات أهلية في العاصمة والمدن، وانتشرت في الحواضر الريفية، إلى درجة أنْ صار لكل أسرة منظمتُها؛ غير أنه لم تسجل في هذا الحيز تمويلات أو هباتٌ ذات نفع يذكر، وإنما يتم الاقتصار على تقديم مواد غذائية قليلة، تعوّد الفقراء على أن نصيبهم منها ما يبقى – أحيانا - عن أسر متنفذة. وبشكل عام، يظل الناس في ترقب توزيع المواد الغذائية، يتنافسون عليها تلقائيا، حتى ولو كانت غير صالحة للاستعمال، أو من نوعيات رديئة، ومنها ما تقدمه الحكومة في خطة أمل، أو إبان مواسم الحملات السياسية والزيارات الرسمية. فالسجلات جاهزة لتضخيم الأسرة، والبرهنة على المسكنة وسوء الحال! إنها درجة متقدمة من فقد قيَم القناعة والنزاهة و"كبر الخيم". ومن الواجب القيام بحملات توعية تشمل شرائح المجتمع كله لمحاربة هذه الروح، والتسول المقنّع، والعودة إلى العمل والاعتماد على النفس، فالإسعاف - حتى عندما كان متوفرا بكميات كبيرة وغير مغشوشة - لم يساعد في تغيير أحوال متلقيه، بل زاد الفقراء فقرا، وسلب إرادتهم ثم كرامتهم.
• إن الظاهرة التي تولدت عن هذه الروح، هي انتشار الزهد في الكسب بالعمل اليدوي المحلي، بل الترفع عنه، وعن المهن المعروفة بحياة الگصور، مثل تلك المرتبطة بالنخيل، كالتأبير (أجَنْكرْ) حتى أنه لا يوجد في وادي الرشيد اليوم – مثلا - سوى ثلاثة أشخاص يزاولونه، وهم من كبار السن، مما أفقد أعدادا من الناس مصادر دخلها، وحرم مُلاّك النخيل من الاستفادة من ثمره، فتناقص إنتاجه. فلجأ البعض إلى بدائل مكلفة، مثل المصاعد المتحركة، كما أوشك حُفّار الآبار المرصوفة بالحجارة (العيون) على الانقراض، إذ لم يعد في الرشيد ممن يقبل العمل فيها إلا ثلاثة أشخاص، كما انقرض العمل في المنازل أيضا؛ وعزف الناس عن مهنة رعاية الماشية، التي انحصرت في مواطني مالي من الطوارق المهاجرين، بعد أن انقرض قبلها غزل الوبر وصناعة خيامه، التي حل القماش محلها، وحلت النعجة البيضاء الملداء محل السوداء ذات الوبر الوافر.
• في السياق ذاته تخلت ربات المنازل عن إعداد الوجبات الغذائية المحلية الصحية، التي لم يبق منها إلا كسكس، لتحل محلها المواد المستوردة كالمكرونة والرز، وإن كانت أقل لذة وقيمة غذائية، وانقرضت أدوات هرش الحبوب وطحنها من مهاريس ورُحي. وتوقفت الصناعة اليدوية المرتبطة بالنخلة، كالحصيرة، بأنواعها المختلفة والطبق أو المتعلقة بشجرة السبط أو بالجلود، كالمخدات والأفرشة (آلواويش) بعد العزوف عن دباغة الجلود، التي تُرمى اليوم في الشارع. إن علينا فتح حوار مع أصحاب هذه المهن من أجل إعادة الاعتبار إليها، وتحسينها، كالعين التي يمكن أن تنافس بئر الإسمنت، إن وُسّع قُطرها وزاد عمقها، وكالحصير، والأدوات المصنوعة محليا. وعلينا دحض مقولة أن كل مستوَرَد أفضل، والدعوة إلى الإقبال على الإنتاج المحلي المتوفر، من حبوب وفواكه، ووجبات طعام محلية، والتزام المجتمع، وفي المقدمة النخبة بإعطاء المثل في استعمال المنتج المحلي، ومنه البناء ومواده من حجارة وسقوف.

5   حماية البيئة

• تتطلب حماية البيئة وعيا بمدى أهميتها لحاضر السكان ومستقبلهم، فالتصحر يتسارع بشكل حثيث، نتيجة عوامل عدة، منها الجفاف، ونزوات الإنسان، مما أدى إلى تلاشي الغابات والغطاء النباتي، وتقليص الرقعة الزراعية في جميع أنحاء المركز الإداري، وقضاء صيادي المدن المتنفذين بما فيهيم العاصمة - بدواعي المتعة والبطر - على كل ما يدب على وجه الأرض من حيوانات برية؛ فبعد الغزلان والحُبارى والأرانب والطيور البرية المستوطِنة من قطا وحمام، أو مهاجرة كإوز وبط، ها هي الدائرة تدور على ابن آوى (الذئب) وكلاب الكدية، وكلها عوامل تسبب حبس الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. والمخجل أن تدمير ما تبقى من حياة في البراري، يجري في غيبة كاملة لسلطان الإدارة ورقابة البلديات، بل بمشاركة منتسبيهم أحيانا، مما ولّد يأسا عاما جعل المواطن غير مكترث بما يجري حوله، وكأنه قدر لا راد له.
•  صحيح أن أكبر مصيبة حلت بموريتانيا بعد استقلالها هي تدمير بيئتها، وهو في مركز الرشيد الإداري اليوم وفي وادي الرشيد بصورة خاصة نكبة على الباقي من شجر الوادي، حيث تقوم قلة من تجار الحطب والفحم، بقطعه وحرقه لبيعه بأسعار خيالية للسكان، دون إذن أو رقابة أو أداء رسوم. وبالطريقة نفسها دُمرتْ دشرة الرشيد القديمة ومسجدها في ستينيات القرن الماضي ببيع أبواب منازلها وسقوفها لسكان تجكجه، وتركها تنهار على مخازن الكتب والعقود، التي كان الصبية يلعبون بأوراقها على أعين الناس دون اكتراث، لندبّج اليوم خطبنا بأن ذلك كان فعل المستعمرين الفرنسيين!. وهل من المقبول أن يظل الأمر على ما هو عليه، حتى ينتهي كل شيء، أمام أعين السلطة الرسمية من ولاة وحكام وموظفين إداريين ودرك وحرس وشرطة وعمد ومستشارين وممثلي وزارة "حماية البيئة"والناطقين باسم الأحزاب السياسية؟.
**


عينات من بعض صور الاعتداء على ما تبقى من شجر في وادي الرشيد، والمستورأعظم











تحت ما بقي من غابة اجويله


تحت: براعم شجر بعد المطر، لو سُيجت لأفادت

التصحر مربوط بتدمير البيئة
والتهديد مستمر حتى للبيوت والطرق


•  إن تعرية الأرض وزحف الرمال تنعكس بشكل جلي على حالة النخيل اليوم في المركز الإداري كله، والذي لم يبق منه إلا شخوصه، مع استثناء حديقة أو اثنتين في هذا الوادي أو ذاك، في جو من الإهمال والصدود، الغير مسبوقين، مما يجعل فرص النهوض والنمو تحتاج إلى طول النفس والعمل الدؤوب. إنه واقع يجب على الجميع أن يعوه، ويتحملوا فيه مسؤولياتهم. إنه وضع لا بد من تلافيه، حيث المُعطيات تبرهن على إمكانية كبح جماح التدهور، بالتكاتف لوضع خطةِ أولويات، تمكّن على المديَيْن القريب والبعيد من إصلاح جزء من الأضرار التي لحقت بأودية النخيل، ومساعدة النخلة على الانبعاث من جديد، على غرار ما وقع في حقب ماضية، واستعادة النسيج البيئي، ومميزات الأودية السياحية، قصد تعميرها وضمان العيش الكريم لساكنيها.

6آفاق مستقبل وادي الرشيد

• إن الوادي بموقعه وخصوصيته الحضارية والجغرافية والبيئية مؤهل لمزيد عمران ونهضة، وأن يكون حاضنة طيبة لسكانه الذين عُرفوا بروح التضامن والجد والعمل، ونبذ الخمول والدّعَة، والسعي لما يُصلح حاضرهم ويضمن مستقبلهم. وأمثلة قريبة على ذلك ما تزال حية، حيث نهض أبناء الوادي بصورة خاصة، بعد استقرارهم النهائي فيه سنة 1968 إلى تحمل مسؤوليتهم، فشكلوا شركة للتموين، ساهمت فيها الأسر الحاضرة والبدوية، وأبناؤهم القاطمون خارج تكانت، وَفّرتْ المواد الضرورية بأسعار ميسرة، في مرحلة زمنية صعبة، بسبب موجة الجفاف الأولى؛ وانخرط الرجال في الوادي وفي أشاريم في فرق للعمل التطوعي لشق الطرق إليهما، اعتمادا على الجهود الذاتية، وفي طليعتهم مسؤولهم الأول، وشقوا طريق الجبل (طْريگ الزرع) حتى تمكنوا من إيصال سيارات الشحن، كما ربطوا أشاريم بالرشيد وبانييملان.
• سيكون الرشيد خلال سنوات قليلة مَعْبرا - ليس فقط بين الشمال الموريتاني وتگانت - بل مع الجنوب والشرق، وأيضا محطةً على طريق دولي، يربط بين أوروبا وإفريقيا الغربية، مما يتطلب وضع تصور لما سيكون عليه الوادي خلال العشر سنوات القادمة، إذ يمكننا دون مجازفة كبيرة أن نتوقع ارتفاع عدد السكان إلى أكثر من عشرة آلاف نسمة (10000) خلال تلك المدة، مُوزَّعين بين الحاضرة الرئيسية وامتداداتها المنتظرة لتوسيع المجال السكني. وهنا لا بد من الحذر من الوقوعَ في ما حل بالحواضر الجديدة على الطرق العمومية، كطريقي الأمل وتگانت، حيث تتزاحم الحوانيت البائسة الفقيرة، ومحطات البنزين وأفران الخبز وشي اللحم، في مشاهد مزرية، طمست معالمها، وتركت الساحة لبائعي بطاقات تموين الهاتف، والمتسولين. فالرشيد قادر على تجنب الكثير من تلك المساوئ، بالتوسع على طول الوادي، دون اللجوء إلى التجمع في المكان الحالي الذي بُني في ظروف اضطرارية ودون تخطيط، مع مراعاة إمكانية قرب المزارعين من حدائقهم، بعد أن طوت الطريق المسافات؛ كذلك الحرص على أن تبقى للوادي معالمه التي هي روحه.
• يحقق هذه الرؤية امتدادُ الحاضرة في اتجاه شمالي الوادي، لاتساعه وتوفر إمكانيات التنمية الرعوية والزراعية والسياحية، ابتداء من الجّويْلة حتى تاوجافت، وستكون بذلك في حماية سلسلة الجبال المحيطة بها من العواصف الرملية مع ضرورة بدء التشجير، وستساعد على مواجهة الحرارة، لأن غالبية الأشجار المتبقية هي هناك، مع قرب المياه، وتوفّر مصادر كلأ للمواشي؛ على أن تُراعى في العمران الجديد المعايير الحديثة، مع الحرص على مطابقته لضرورات البيئة المحلية، ونمط مساكنها، وضمان المساكنة بين مختلف الفئات الاجتماعية، على أن تكون ضمن أولويات المستفيدين من القطع السكنية الأسرُ التي فقدت منازلها أو تضررت بسبب أشغال بناء الطريق، والأسر الكبيرة التي ضاقت بها مساكنها. وهذا التوسع داخل الوادي يوفر أيضا اختيارات كثيرة للسائح، في الوصول إلى أية جهة يريد فيها الاستقرار، حتى يتمتع  بما يفضله من تلال أو جبال أو روافد (اخنوگه).
• وضْع تطلع الكثيرين من مهاجري البلدية إلى العودة إليها في الحسبان، وتفعيل الارتباط بهم، وكذلك بعض سكان القرى والتجمعات الصغيرة في أطراف المركز الإداري التي لا مستقبل لها، مع التعويل على آخرين من مواطني الولايات المجاورة، وحتى المستثمرين على المستوى الوطني.

7خصوصيات محلية

• إن لكل منطقة طبيعتها، ولسكانها مؤهلات لأنشطة معينة، انطلاقا من المعطيات الموضوعية والخبرات المتراكمة والتجارب التاريخية، التي هي رأس مال لا ينبغي التفريط فيه، 
• بالنسبة لمركز الرشيد الإداري، تظل تربية الماشية أهم مصادر دخل السكان، لكنه أيضا يتمتع بمقومات معتبرة في الزراعة، والعمارة، والسياحة، لذلك لا بد من التركيز على هذه المجالات،

يشكل النخيل أساس الزراعة في المركز، ويغطي مساحات كبيرة على طوله وعرضه، وهو وإن لم يعد مصدرا اقتصاديا بالأهمية التي كانت، فلا يزال الناس متعلقين بثماره التي تشكل أحد عناصر الغذاء المحلية المهمة؛ وتتبارى الأودية في اقتناء جياده وثمارها، ويتباهون بخبراتهم وتجاربهم؛ ففي وادي الرشيد مثلا، يعتز الناس بوجود خبرة بشرية متراكمة في النخل وفنون العمارة، توارثتها الأجيال، حيث أن العديد من أجداد العديد من الأسر الرشيدية قد جاءوا للوادي للإسهام في تعميره وغرس نخيله، بفضل الخبرة التي امتلكوها في القصور القديمة: وادان وشنقيطِ وحتى سلفه آبّيْر؛ فانتشرت هذه الخبرة على أيديهم. وكانوا عونا على التوسع في الغرس في تگانت كافة والعصابة، وحتى الحوض الغربي.

**
النخل ومعالجته: من اليمين أشيلال الذي ينقرض لصالح مضخات الطاقة


• لقد تربت أجيال على الاعتماد على النخلة والتعلق بها، واعتبار ملكها قيمة اقتصادية وحتى اجتماعية، ليس فقط بالنسبة للسكان المحليين بل من المناطق الأخرى، ومصدر اعتزاز، يعطي للمالك مكانة محترمة في المجتمع. وهي شجرة مباركة، لها منة كبيرة علينا، بعطائها السخي، وبكونها ملجأً في حر الصيف، نستظل بظلها الوارف، ونطعم من رُطبها، ويقينا تمرُها ذلّ الخصاصة في أزمنة القحط والشدة، فنعوض به ما نفتقده من مواد غذائية، ونستعين به على العمل والكد، حيث هو مصدر للطاقة لا يُضاهى. وتُنبئنا الروايات المتواترة أن أجدادنا كانوا في موسم سقيهم لزراعتهم المروية أيام لفْليكه، لا يتوفرون عليه من زاد يومهم إلا تمرات تُعد على الأصابع؛ وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن بالتمرة أكثر من ستة عشر (16) عنصرا مغذيا، نافعا للإنسان. والتمر بوصفه قابلا للادّخار، ظل مادة للتصدير والمقايضة بالزرع في زمن الميرة، وطعاما جاهزا يكفي وحده لقرى الضيف في الحالات الطارئة (جاع بيتٌ لا تمرَ فيه) إضافة إلى كونه مطلوبا للتداوي في الطب التقليدي. والنخلة أيضا توفر لنا بسعفها: العريش، ومن جذوعها صنعنا سقف البيت، ومن فِدامها فتلنا الرشاء والحبل والقيد ... ومن جريدها صنعنا السرير (التبريت) والحصير الناعم والخشن (آسّار) والطبق والكونتيه (لمواعين أتاي) واللافية (لتغطية الأواني) وبكرنافها استدفأنا وطهيْنا، وتسلى أطفالنا، وبشحمتها (تمنياغت) تفكهنا، بينما يشكل نواها وسعفها وجريدها أفضل علف للماشية؛ وقد أثبتت البحوث الجديدة أن للنخلة من الفوائد ما لا يخطر على بال، مثل نجاعة غبارها المطيّن في علاج الأمراض الجلدية، وهي ملهمة الشعراء والفنانين، لذلك تشكل عنصرا رئيسيا في حياة الإنسان وتاريخه ووجدانه.
• إن لنا في جيراننا في تجگجه المثل البليغ في العناية بالنخل واعتباره الثروة الأم التي لم تغن عنها مصادر الرزق الأخرى، وقبلهم أهل آدرار الذين، كلما انحبست الأمطار وتوالت الشدد، ازدادوا تعلقا بنخيلهم، مع الحذر من الوقوع في خطر استنزاف الثروة المائية. إن النخلة ومنتوجها، والزراعة المطرية التقليدية، والجديدة من خضروات موسمية وبُقول، يجب أن تساهم في سد جزء من حاجتنا الغذائية اليوم، وتكون عماد أطباق الطعام في فترات حصادها، ليس فقط للأصحّاء وإنما لذوي الحاجات الخاصة؛ والتمر غذاء جيد للمسنين، لما فيه من سكريات وألياف، وللذين فقدوا ملكة المضغ، حيث يمكن تناوله بعد تهشيمه أو تنقيعه، حتى لا تنقطع عاداتهم الغذائية، ومِثْلهم الأطفال، إذ هي مادة نافعة لنموهم، وهي مساعدة في الوقاية من بعض الأمراض، وخاصة المتعلقة بالجهاز الهضمي، كما هي علاج جيد للإمساك،
• إن مَن لا يأكل التمر في قصور النخيل، كمن يهجر اللبن في البادية أو الفستق السوداني (گرته) في سنغال، أو الفول في مصر، أو السمك على شواطئ البحور والأنهار. هذه العوامل جعلت أسلافنا يبتكرون الگيطنة للراحة والاستجمام –   قبل ابتكار الأوروبيين لعطلة الصيف  - فهي راحة حقيقية للأذهان والأبدان، وموسمٌ يتنادى إليه الناس من كل حدب وصوب، للتداوي وصلة الرحم وعقد الصداقات والتحالفات والزيجات والصفقات وحل النزاعات وقضاء الديون. وعلى كل فإن الصحة البدنية والنشاط الاقتصادي في الَقصور مبنيان على تنمية النخيل، والأنشطةُ الأخرى فروع عنها، وبتراجع النخيل وإنتاجه، سيتراجع الباقي. وانطلاقا مما تقدم، فإن عناية خاصة لا بد أن تعطى للنخيل، عبر القيام بحملة تعبئة تنويرية عامة تتسم بالجدية والديمومة ووضوح الأهداف، بإشراف السلطات البلدية مثلا، تستهدف إقناع:
-  ملاك النخيل بإعطاء عناية جديدة له، واستخدام أساليب حديثة لزيادة إنتاجه،
-  أهل الحرف في العودة إلى استغلال مُنتَج النخل في إنتاجهم،
-  إشراك الخبرة المحلية، رغم أن أغلبهم من كبار السن وانزوائهم - كغيرهم وانكفائهم على أنفسهم - إلا أنه يمكن التعويل عليهم في حال إعادة الاعتبار إليهم وإلى مهنهم،
-  الشباب، وبالذات الذين ملّوا التسكع في المدن بدون عمل، على أن يُفتح لهم أفق جديد تأمين دخل مجز وشراكة في الإنتاج عبر تمويل محلي، كما سلف،
• أما الشرط الأساسي الذي يؤخذ في الاعتبار، فهو حالة المياه السطحية، والتي ما تزال كافية، حسب المعلومات المتوافرة، لسد حاجات الشرب وللزراعة القروية المعهودة، إذا ما عُقْلِن استعمالها. والوادي الوحيد الذي يعاني هو تجگجه، بسبب كثافة السكان والإسراف في استعمال المياه لتغطية التوسع في الغرس والسقي. وخلال عقود الجفاف استخدم عديدون من ملاك النخيل مضخات البنزين والديزل، رغم محدوديتها خارج تجگجه  – دون معرفة مدى ضرره على مخزون المياه، غير أن التجربة لم تؤت أكلها، لا من حيث نمو النخل ولا إنتاجه، بسبب غيبة المتابعة، وكبدت الملاك – على كل حال - مصاريف لم يعوضوها. وهناك تجربة مشروع الواحات في مركز الرشيد الإداري، التي كانت حسب المعنيين به معدومة النتيجة، ولم تترك أثرا يذكر، خلال العقود التي قضاها، وخاصة في وادي الرشيد، حيث اقتصرت على حفر بئر شرق الدشرة، في أرض جدباء رملية، لا نخل فيها اليوم ولا زرع، وقيل إن المشروع كوّن مرشدا زراعيا من أبناء الوادي، ووزع بعض السنوات بذور الخضار، التي يبدأ الحصاد قبل وصولها أحيانا! والتي لم تعد مجانية، كما الحال في موسمنا الحالي. ومن الجديد في الموضوع، مشروع لاستعمال المياه "الجوفية"  لسقي النخيل، في تجگجه ، وبعض أودية المركز الإداري: الرشيد وأشاريم وأغلمبيت. وفي غيبة معلومات كافية عنه، يطرح الناس العديد من الأسلة، مثل:
-  هل هي عملية خصوصية لأفراد، أو عامة مفتوحة للمجتمع؟
-  وفي كلتا الحالتين، لما ذا لا تبلّغ للجمهور وتشرح أهدافها، لما للأمر من أهمية وتداعيات؟
-  ما هو مدى تأثير المشروع على الحدائق الموجودة، في ضوء شكوى ملاك الحدائق المغذاة من الآبار السطحية في تجگجه وأطار من أصحاب الآبار الارتوازية؟
- أليس المشروع فتحا لباب حفر الآبار الارتوازية دون حسيب أو رقيب؟ 
- هل تم تقييم تأثير استغلال المياه الجوفية الغير متجددة على الأودية المعنية، عبر دراسة يُعتد بها؟ خاصة أن الهدف – كما يُتداول - غرس آلاف النخيل،؟
- أليست المحافظة على المخزون الجوفي للأجيال الحاضرة والقادمة هي الأجدر بالاهتمام ؟
- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يرى بعض المهتمين أن استخدام المياه الجوفية في حالة أودية تكانت، نوع من الهروب إلى الأمام، في وجه العجز عن العناية بالنخيل ومتابعته، ومحاولة "التعويض"بإغراق النخيل بالماء، دون معالجة المعضلة، المتمثلة في غيبة ملاكه عن مباشرة العمل، كما هو واقع في آدرار، وفي البلاد العربية، وكذلك عجزهم عن التأجير عليه. لقد كان هؤلاء – وهم أغلبية الملاك - أغنياء الأمس، لكنهم صاروا فقراء اليوم، لا يستطيعون التكيف مع قفزة من هذا النوع؛ والأجدى أن يساعَدوا - بدلا من ذلك - على حفر الآبار المعتادة، وتوفير الطاقة والسماد والبذور في مواسمها، والتأطير الدائم، وفي الأوقات المناسبة، وتغطية ذلك عن طريق صندوق اقتراض محلي، كما أشرنا إليه من قبل.                             
8  الزراعة المروية



تحت: من آخر تيدوم مكرن التيشوطن التابع لمركز الرشيد الإدار، وزراعة الخضروات تحت النخل 



• على تواضعها اليوم وتقلّص رقعتها، ظلت الزراعة المروية على مدى التاريخ عنصرا مهما في اقتصاد الوادي وداعما للنخلة التي تشترك معها في نبعة واحدة؛ ومن أشهر محاصيلها القمح والشعير والحناء والقهوة والشّم (التبغ) وسانگومه  التي كانت تستعمل لصباغة الجلود. وقد ذاع صيت هذه المحاصيل، وتصدرت وَجباتُها المائدة المحلية (كسكس قمح أشيلال، وكسرته ورغيده، وأبلژ الشعير، وبلغمانه (السويق) والهبيد ، لما لها من خصائص غذائية نافعة ومذاق شهي؛ وقد ظلت هذه الحبوب تزرع في الأرباط (أم الطبول والتاشوط وأدروم التابع لتجگجه  حتى اليوم) وفي الَگْرائرْ مثل الخط، قبل شح المياه وحالة الكسل الجديدة، وبالاستطاعة العودة إلى زراعتها، مع توافر الإمكانيات والتقنيات الجديدة؛ والعودة كذلك إلى منتجات أخرى ترفّعنا عنها، مثل الهبيد وحب المحيص (أيزن)، وآژْ، حيث أثبتت التجارب نجاعتها في الغذاء، وتفوقها على الرز والحبوب المستوردة، والملوثة – في غالبيتها - بمواد حافظة، أو مجهولة المصدر أو منتهية الصلاحية.

9العمارة

• لا تقلُّ العمارة أهمية عن الزراعة، ولنا فيها خبرات متوارثة، كانت محل اهتمام الدارسين. وقد أفادت كثيرا من الفن المعماري في قصور الشمال (وادان وشنقيطي) وفي قصور تگانت الأقدم (تشيت وتجگجه وگصر البركة)، بل أضافت. ويمتلك الوادي اليوم عددا من البنائين المهرة - كما سلف - قادرين على تلبية احتياجات السكان في أنماط البناء، من غرف استقبال وحُجرات سكن، ومحامل ومصاطب وأفنية حجرية، وأعرشة جريد أو قصب قِدٍّ، وأخصاص (تيكّاتن) ومرافق صحية، ومرابض للماشية (آكوادير)، سواء بالمواد المحلية، من حجارة، ومنتجات نخيل وسبط وثمام (أم ركبه) المسايرة للبيئة، أو مواد جديدة كالإسمنت والرخام والحديد والزنگ؛ ولبنّائي الرشيد في بقية نواحي تگانت وفي الولايات المجاورة كالعصابة سمعة طيبة. إن الواجب يقتضي تشجيع هؤلاء المعماريين والتشبث بمواد البناء التقليدية من حجارة وجذوع نخل، لأنها أيضا قيمة اقتصادية وجمالية وتراثية، من الخطأ الفادح ضياعها.

           10 الصناعة التقليدية

• تُعد الصناعة التقليدية أبرز خصوصيات تكانت بشكل عام ومركز الرشيد الإداري بشكل خاص، حيث ينحدر غالبية الصناع التقليديين منه، والعديد منهم ما يزال مقيما فيه، موزعين بين مداشره وقراه أو في تجگجه، وإن كان آخرون هاجروا إلى العاصمة والمدن الكبرى. ورغم ظاهرة العزوف عن الأنشطة الموروثة في بعض الشرائح الاجتماعية، إلا أن الوضع قابل للتدارك، بشرط العناية والتوجيه حتى يُضمن للصانع دخل مجز، وتُلبي حاجة المستهلك، وخاصة في مجالات مثل أثاث المنازل، من أسرّة وحصائر، ووسائد وأبواب وستائر، إضافة إلى المشغولات اليدوية المعهودة، من قدائم (گواديم) وسكاكين ومواس، وتلك المخصصة عادة للسياح، مع العناية بالأسعار حتى يمكن التنافس.

11السياحة

• تُشكل السمعة الغالية التي يتمتع بها الرشيد في الذاكرة الجمعية في أرجاء موريتانيا وأرض البيظان - وخاصة لدى أهل الثقافة والفنون الجميلة، وكونه أيضا فضاءً آمنا لله الحمد - مكاسب مهمة تغني عن الكثير من الترويج، وينبغي التشبث بها والسعي لترسيخها، قصد نيل فوائدها المعنوية والمادية الجمّة؛ ومن حسن الحظ أن الكثير من المعطيات التي أسست لهذه الشهرة ما تزال قائمة، مثل واحات نخيل الوادي، كأم الأرجام، إريجي، الدخلة، التيميريرت، البور، رأس الطارف، الساگية، الگطيطيرة، آگنانه؛ أو برك ماء، كتلمدينْ وتنژلاط وتاوجافت وانتسكه وگلتة الجمل، وانتاورطه، وواحات ذات طابع متميز، كالحويطات، وتالمست بنخلها المتلوي وأحسائها، وانييملان، وواحات الوادي الأبيض (العوينات، الكريسي، النبط، أغلمبيت، الزويرة، عين الخشبة، الدندان، أغوديت) أو تلك الواقعة على الطرف الثاني من الطريق، كمنحدر إفرشاي الجبلي، البيجوج، أغريگت انتاورطه، أكرج؛ أو مواقع أثرية كالدشرة القديمة في الرشيد، وأوابد مثل الأرجام، وآثار گنگاره (ديار أهل الأولين) ومعالم جبلية كلَكْليبْ الأحمر، گلب مَري، گلب الشنينيفة، أگنتور الظلمة، أگنتور بحان؛ وخوابي الحفرة، وسدود: كأم الطبول، انييملان، الحرج، الحفرة، الميرْ، ونقوش الدشرة القديمة الحجرية، ورسوم گلب انتموتاگت وتنژلاط وأگرج. ورغم أن الرشيد والحويطات وانييملان وصاله وإگفان، كانت ممرا للسباقات الصحراوية "الراليات"المختلفة حتى توقفها، لم يُجن منها أي شيء، نظرا لضعف الاستعداد الذهني وانعدام الخبرة، وهيمنة الفرق المصاحبة، المتحكمة في محطات التوقف وفي التموين، وهذا ما ينبغي تلافيه في المستقل؟ وما يُحتاج إليه اليوم هو وضع ترتيبات للاستفادة من السياحة بشكل أفضل، بدءا من توعية الجمهور وإشراك أهل الخبرة المحلية، وحتى الذين لهم في سياحة الگصور يد طولى من خارج المركز الإداري.
• إن السياحة مجال حساس يحتاج إلى ثقافة وكياسةٍ وذوق، وهو عامل تقارب وصداقة بين الشعوب وتبادل للمنافع، عبر ربط علاقات إنسانية، أساسها الاحترام المتبادل، وشعارُها إكرام الضيف، والصدقُ في التعامل، بمراعاة قيم البلد، وعلى رأسها الدين والثقافة المحلية، واحترام الآثار، كالقدور والصّفا المحفورة والمقادح (التميش) وفؤوس الحجارة، بل الرّوُمد بشكل عام، بذلك نحمي المجتمع والآثار، ونكسب ثقة السائح، ونوفر له ما قطع آلاف الكيلومترات – أحيانا - بحثا عنه، وهو السعادة، ونربح معنويا وماديا.


من معالم الرشيد


                                         الدشرة القديمة وكلب الشنينيفة والبطحاء
**

تحت: مناظر من بقايا مسجد الدشرة القديمة، إلى اليمينالمحراب الداخلي وإلى اليسار المحراب الخارجي ليالي الصيف 


      
     بعض أسطوانات المسجد وجانب من دار محمد المختار بن الحامد

جانب من بهو دار محمد المختار بن الحامد وحيطانها الداخلية

تحت، نقوش غزلية شبابية في القرن 19


 

تحت: صورتان الأولى للكْليبْ الأحمر، قبل عبث شركة الطريق به والثانية بعد ذلك 

 


  **

كارت كلب مري



**

حضارات قديمة قبل القرن 18

**


    تحت، طريق تنزلاط وكلتتها وبطحاؤها وبعض نقوشها الأثرية غربي وادي الرشيد، وهي آخر منعة لمحمد المختار بن الحامد بعد احتلال المستعمرين للرشيد في أغشت 1908 








      تحت، كلتت تاوجافت


تحت: أكنتور بحّان في انتاورطه


    

12 إجراءات لها الأولوية

- إعادة الاعتبار للعادات الفلاحية المعروفة، والتي تكاد تختفي، وذلك بإحياء العمل في النخلة من حيث سقيها وطلوعها وتشذيبها وتوبيرها، لتأقلم أبناؤنا من  الأجيال الجديدة مع المحيط ويشاركوا في الحملات الزراعة، والمرابَطَةُ في المزارع وفي الحدائق أيام حصادها، وفرز المُنتج وإعداده للاستهلاك أو البيع أو التخزين، مما يجعلهم يتشبعون بثقافتنا العريقة،
- إدخال أساليب جديدة في الزراعة وتوفير أدوات فلاحية حديثة، بعد التوقف عن استخدام الأدوات القديمة المعتمدة على الجهد العضلي، وعزوف الفلاحين عنها، حتى صارت النتيجة - مع عوامل أخرى – تدنِّ كبير في إنتاج المزارع المطرية، وانقراضٍ شبه كامل لبعض المزروعات، كالذرة التي كانت المحصول الأساسي، وكذلك القمح والشعير، واستبدالها بالأسهل إنتاجا: اللوبيا البيضاء (آدلكان)،
-  المحافظة على الثروة المائية لبوادي وأودية مركز الرشيد الإداري، بترشيد استعمال المياه، حتى لا يتكرر ما يحل بتجگجه وأودية آدرار، حيث يُجمِع الخبراء على أن مستقبلهما القريب مهدد، بسبب الإسراف في استعمال المياه، حتى أشرف المخزون السطحي على النضوب، بعد استنزافه بوسائل الضخ الحديثة، ويتبعه الآن المخزون "الجوفي"بعد أن تمكن بعض المتنفذين وأصحاب الأموال من استعماله لري النخيل والأغراض الخاصة، كما ذكر من قبل،
- وضع خطة لحماية أودية مركز الرشيد الإداري من زحف الرمال، تبدأ بإقامة مشروع لصدها في الرشيد كمثال: في انيزرگ، وعلى الطرف الشرقي للجبل، مقابل دْخيلة أهل امّيده، وفي مناطق تجمع الرمال قبل رأس الطّارف وبعده،
- حماية المتبقي من شجر المركز الإداري بشكل عام، والرشيد بشكل خاص لأنه  الأكثر تضررا من السيبة الحالية حيث يوجد في الناحية الشمالية في طرف الصحراء ذات الأمطار النادرة، وفي البدء وضع زرائب على بقايا الغابات، في وادي الرشيد مثلا: المبروك اجّويْله، امْليهيه، زاروقه، حْسي الخشبة حْسي التيشطايه، وحماية مراعي حمى أودية المركز، بمنع حفر الآبار في المناطق الرعوية المفتوحة (الشمسات) كتلك الواقعة بين وادييْ الرشيد وأشاريم، واستعمال مياه الأودية الكافية، وهو ما اتبعته الإدارة الفرنسية حتى الاستقلال؛ ومنع التقري العشوائي، والتركيز على السكن ضمن الحواضر القائمة في الأودية،
- وقف تآكل اجْوالي، من خلال البدء بمجهود تعبوي واسع يُعنى به الجميع، بحيث يستحضر الكلُّ وفي طليعتهم ملاك الحدائق مسؤوليتهم في ذلك،
- وضع عوائق (آشكاريف) على طول المناطق المتآكلة والمهددة بالانجراف جراء السيول، خاصة في الرشيد والحويطات وأشاريم وانييملان وكافة واحات بلدية التنسيق (انييملان)، خاصة الوادي الأبيض، ومثل ذلك غير جديد، فقد عُرف سكان الرشيد باستخدام هذه العوائق، وتاريخيا أشرف الفرنسيون بعد سنة 1917 (تاريخ سيل الأرواح الثاني) على حملة تعبوية دامت لسنوات، لوضعها في مختلف جالات وادي الرشيد، مما أعاد لها الكثير من ما فقدته آنذاك،
- تزريب مناطق النخيل ذات الكثافة، وخاصة منها المشتركة بين ملاك متفرقين، أو المنقطعة، ومنها في الرشيد: انخيل گانيه، أم الأرجام، إريجي، تاوجافت،
-  إلزام شركة تعبيد مقطع تجگجه – الخط، من طريق تجكجه – أطار: "الموريتانية للأشغال الكبرى"بـ:
أ - تصريف مخلفات عملها من الحجارة وغيرها، ومحاولة الاستفادة من بعضها بنقله إلى اجوالي لتكون ضمن مجهود العوائق المنوه عنه، وذلك لكونها تركت مخلفات كبيرة من الحجارة والحَصَى (أرارش) وغيرها في البطحاء، فشوهتها،
ب - إصلاح الأضرار المباشرة التي ألحقتها ببعض حدائق النخيل، وأخطرها إحاطتها بكومات هائلة من الحجارة، حجزت عنها مياه الأمطار التي كانت تنساب إليها من الجبل، وشوهت المناظر الطبيعية؛ ومع استحالة إعادتها إلى ما كانت عليه في مستقبل منظور، فيجب القيام بتعويض كافٍ، لحفر آبار في هذه الحدائق وتزويدها بالطاقة، حتى يعوَّض النخيل النافق ولو على مدى طويل،
ج - إصلاح سد جالة البور (خنگ أهل الطالب خيري) الذي مرت منه الطريق، وجرفته، فتحول المجرى، وتضرر الموقع، والمساعدة في إقامة السدود الصغيرة التي تمر بها الطريق وصيانة الأخرى، إسهاما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية،   
د - ردم الحفر الكبيرة داخل الوادي وفي جنباته التي استُخدمت كمقالع للحجارة والحصى، وترميم المعالم المتضررة، لعل أبرزها رأس الطارف والَگليْبْ الأحمر الذي تعرض لتجريف فظيع، وهو آبدة فريدة، في الوادي، كانت تاريخيا ميقاتا لمسافة القصر بين الوادي وتجگجة،
**
تحت، جالة النخل الطويل قبل حاجز حجر شركة الطريق وبععه عندما سد ماء المطر عن النحل



13خاتمة

بتقديم هذه الأفكار، أردنا إلقاء حجر في الماء الراكد، وتذكير المجتمع بمستوياته كافة - وفي المقدمة نخبته، من سياسيين ومثقفين وتجار وحرفيين وأصحاب مبادرات وأعيان، وممثلي شريحتي النساء والشباب ذوي الطاقات الخلاقة، والطموح في التغيير والتجديد - بمكامن قوة مجتمعنا ونقاط ضعفه، ودعوتهم إلى التأمل جديا في الحالة المُعاشة، من غياب سياسي وفراغ ثقافي وكسل فكري وخمول نفسي، التي هي نتاج ثالوث التخلف: الجهل والفقر والمرض. ولا بد من التخلي عن المفاهيم والمسلكيات المعيقة، كالتقوقع حول الذات والدائرة الضيقة، والعمل على ترميم ما تآكل من قيَم المجتمع الدينية: الطهر والنقاء والصدق والأمانة والتراحم والتكافل، والتي كانت من عوامل حيويته وتضامنه؛ فلا يمكن لمجتمع مثلنا، أن يعيش التفرد والقطيعة بين الإخوة والأصدقاء والزملاء والجيران، الذين شكلوا على مدى التاريخ أسرة واحدة. فالمصلحة المشتركة تتطلب التشاور  والتكاتف، مثلما تتطلب احترام القوالب التي تضعها السلطة العمومية الممثّلة للدولة، وهي لب المصلحة العامة، التي يجب المحافظة عليها، وعلى رأسها الأمن، والتعليم والطب، والممتلكات العامة والخاصة، من مدارس ومشافٍ وكهرباء ومياه وطرق، وهوائيات... ومنها احترام قوانين الدولة السارية، كتجريم الرق، وتحريم سرقة المال العام، والرشوة، وخيانة الأمانة، وتحريم الصيد البري وقطع الأشجار وتلويث البيئة؛ ألا نخشى أن يكون ما يتربص بنا من القحط وانتزاع البركة، وكساد اقتصادي وقلة معاش، بسبب ما نقترفه من جرائم في حق الله وفي حق عباده ومخلوقاته على أرضه، حية وجامدة: {ظهر الفسادُ في البر والبحر بما كسبتْ أيدِي الناسِ ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلّهم يرجعون}.    
• يجب التذكير بأن الشأن العام المحلي من مسؤوليات العمد والمجالس البلدية، قبل غيرهم، وهم من تقع عليهم المسؤولية الأولى في توعية الجمهور بأهميته، وإعطاء المثل بالاستقامة والتضحية والبذل، والسعي لاكتشاف مواطن قوة الجمهور لإقناعه بالانخراط في معركة التنمية، ضمن خطة سنوية، تعدها المجالس البلدية، وتهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية، والصحية والثقافية؛ لكن، كيف نطمح إلى ذلك دون القضاء على العقلية الجديدة الهدامة بالترفع عن العمل الشريف، وترك المهن المتوارثة، التي مارسها الأنبياء والأجداد، ونختار بطالة مقنعة عبر تزيين ملابس مخاطة، في مجال لا صلة لنا به كخياطة الدراريع والملاحف لننافس أهل دبّانگو في الخياطة والصباغة! ونترك إبداعاتنا من مواد النخلة كالحصير والشنط مثلا؟ وهل سنستمر في معاشنا اليومي في تقليد الآخرين في الملبس والمشرب والمأكل؟ ونصرف القليل الموجود في غير محله حتى نتماهى معهم في التبذير والإسراف، المخالف للدين ورشاد الدنيا، ونتمادى في تدمير أنفسنا بتعاطي مواد فتاكة للبدن والجيب، مثل التدخين والإسراف في شرب أتاي، وفي استعمال ملح الطعام بنهم، وندمر أجسادنا بالدهون المبيضة للبشرة، وكلها اليوم آفات العصر في مجتمعنا، بما تجره من أمراض فتاكة (سرطان، جلطات قلبية، شلل، سكري ...)
• وكما ركزنا عليه فيما سلف، فإن من أسباب انتشار هذه الظواهر المعيقة هو غيبة إرشاد الناس وتوجيههم وتنويرهم، الذي يجب أن نعطيه العناية عبر حوارات منتظمة، وفي اللقاءات الأسرية والخاصة والمهنية والمناسبات الاجتماعية والدينية والثقافية، والسياسية، وفي ندوات تعقد خصيصا لذلك، وتخرج بخلاصات مكتوبة، تشكل خارطة طريق. ولما ذا لا يقوم بعض النشطاء في المجتمع المحلي بالسعي إلى إقامة إذاعة خاصة في الرشيد مثلا، كما في حواضر أخرى، توّسع من دائرة الحوار وتنور المجتمع حول مشاكله، من تعليم وتربية ورعاية أطفال وتدبير منزلي وطهي وصحة ونظافة وحالة الطقس، ومواكبة المزارعين في المواسم الزراعية، وبحث عن فرص عمل؛ في الوقت الذي تقدم للناس فنونهم الشعبية، وتوسع دائرة معرفتهم الدينية والتاريخية، والثقافية بشكل عام، وتربطهم بالشتات، وتعرّفهم بوطنهم وشعبهم.
• إن هذه الأفكار موجهة أيضا إلى أبناء مركز الرشيد الإداري المقيمين خارجه، سواء داخل الوطن أو في المهجر، من رجال دين وسياسيين ومثقفين وأعيان وأصحاب مهن حرة، نساء ورجالا، للانضمام إلى مسيرة مجتمعهم، إلى جانب أولائك الذين بقوا مرابطين يتولون أعباء النضال اليومي في معركة الحياة، والخروج من حالة التخلف المزمنة التي يعيشونها، ليعيشوا مطمئني البال في موطنهم الذي حباه الله باعتدال الطقس ووفرة المياه، وقابلية تربته للحرث، في مجتمع طينته الصبر والمثابرة، لا ينشد إلا من ينير طريقه ويؤازره. ومن الرشاد لهم ولمجتمعهم أن يلتحقوا بالقافلة اليوم قبل غد، ويرتبطوا عضويا بأرضهم التي أصبحت قابلة للسكن مع بداية فك عزلتها، وتوفرها على خدمات مقبولة في ظروف اليوم، من ماء وكهرباء واتصالات؛ وأن يبدؤوا بقضاء عطلهم فيها، واقتناء أراض للسكن، يعمرونها حسب ما يلائمهم؛ ولما ذا لا يشكلون رابطة للتنمية والنهوض بحواضرهم، وتشجيع العودة إليها؟.
• إن تردي الأمن في العالم، وتنكر الغرب خاصة، لمبادئ حقوق الإنسان، ومطاردة الغريب، المغاير في الثقافة واللون، تدعو إلى مراجعة أمر الإقامة الدائمة فيه؛ فلا بد من ربط الصلة - لمن لم يفعل بعد - بالوطن وبمسقط الرأس بالذات، والتواصل معه، للتحضير للعودة، واستثمار الخبرة والمال فيه، حيث ما يزال الداخل يحافظ في أغلبه على الفطرة النقية، وما يرتبط بها من أمن وطمأنينة. صحيح أن الوضع العام والمناخ الاستثماري والأزمة الاقتصادية تخيف كثيرين ممن هم في خارج الوطن، وأيضا مَن هم في العاصمة والمدن الكبرى التي تعقّدت أحوالها في ظل الهجرة المستمرة إليها، والتي ساهمت في تفش غير مسبوق للجريمة، والتعثر في حل مشاكل السكن والخدمات الأساسية والصرف الصحي والنظافة، والقضاء على البعوض؛ مع ذلك، فلا بديل عن الوطن، ولا مستقبل إلا فيه، وهو ما أدركه الكثيرون الذين عادوا أو استثمروا، ولو القليل في المناطق الداخلية، ومن ثم، وفروا بدائل؛ ومن واجب السلطات العمومية تشجيع الناس في هذا المنحى. 

**
صور من طريق الرشيد تجكجه
من اليمين وصول الطريق  إلى الرشيد حيث تشكل غورا فصل بين طرفي حاضرة الرشيد، وخلق مشكلة عويصة للسكان في التواصل إلا بالتسلق، حيث ينتظرون من الشركة الحل




بداية زحف الرمال حتى قبل انتهاء الطريق






تحت من اليمين طريق الرشيد قبل الخط وفي الوسط غراب يصطاد قنفوذا فيقتلهما سائق، ومن اليسار بداية طريق الخط - العين الصفرة التي انتهت قبل سنة






**



كلب أغشكوكيت شرقي أغلمبيت
ضاحية الكُريسي في النبط






































































                        




































ا






وفاة الشيخ بيلّه بن عابدين

$
0
0

أُعلن في نهاية الأسبوع الماضي عن وفاة الشيخ بيلّه بن عابدين بن سيدي حيب الله بن الشيخ سيدي المختار الكنتي، في الحرمين الشريفين.
لقد عرفت الفقيد في نهاية سبعينيات القرن الماضي عندما جمعتنا الغربة في ليبيا ثم استمر الاتصال كلما أتيحت فرصة زيارة الحرمين الشريفين، في التسعينيات. كان الرجل شديد التواضع قواما لليل صواما للنهار، مكرما للضيف، عالي الهمة، من بقية أفذاذ جيل من الرجال ورثوا مجدا تالدا بوّأهم الصدارة في مجتمعهم، وحيث ما حلوا وارتحلوا.
فقد كان موئلا للضعفاء والغرباء، يُطمع الجائع ويكسي العريان، يحمل هموم الناس ويسعى في قضاء حوائجهم، ففتح الله على يده أبواب الخير، حيث تنقل من موطنه في أزواد الذي كان يواجه إحدى أقسى فترات تاريخه، بعد انتشار الجفاف وغياب سلطة وطنية ترعى الناس وتُغيثهم، كما فعلت دول مجاورة، ليصل إلى ليبيا، فتظهر كرامته بإقبال الناس عليه وخاصة أبناء وطنه، من عرب وطوارق وكَور، وكأنه مكلف بشؤونهم، فتراهم يلتفون حوله في إقامته وخلال تنقله، لقضاء حوائجهم وخاصة منهم العمال واللاجئين الفارين من صحرائهم، حتى يحصلوا على أوراق ثبوتية لدى السفارات المهتمة، والدوائر الحكومية، مما يمكنهم من ضمان حقوقهم والعيش بكرامة وأمن، وهم الذين جاءوا لإغاثة أهلهم في صحرائهم المنكوبة؛ وتارة تراه مصلحا بين الناس كلما وقع أبناء منطقته في ورطة، سواء بينهم أو مع آخرين، أو مع مُستخدِميهم من أفراد وشركات. وقد سهل الله على يديه تحقيق أحلام الكثيرين بالانتقال إلى الحرمين الشريفين،  لأداء الحج والعمرة وحتى الإقامة؛ ثم تنقل هو ايضا ليقيم بمكة المكرمة، ليجاور بيت الله الحرام، فكانت داره محط الرحال، حيث استمر في عطائه وإحسانه، حتى انتهاء الأجل المحتوم، ويتحقق له ما يتمناه كل مسلم، ألا وهو الدفن في رحاب أحد الحرمين الشريفين.
رحم الله الفقيد وتغمده برحمته وأدخله فسيح جنانه، إنه على ذلك قدير، وجعل البركة في خلفه وأرزقهم الصبر وحسن العزاء، إنا لله وإنا إليه راجعون.

Article 0

$
0
0

تجربة سفير

محاضرة أمام السفراء الجدد

 

 

محمد محمود ودادي

8 ذي الحجة 1441/  29 يوليه 2020

 

 

 

 


 

 

المحتويات

2  مدخل: من الإذاعة إلى السفارة

4  متابعة النشاط الدبلوماسي الموريتاني

9  إلى ليبيا ومباشرة العمل

علاقات إيجابية في ظل إرهاصات الثورة

14 اللقاء الأول مع الرئيس الأسد:

تعاون ثقافي متميز وتفاهم سياسي متجدد

18 النشاط الإعلامي والثقافي

20 إلى نيجيريا

22 إشعاع موريتانيا الديني والثقافي

25 العلاقات مع الجاليات الموريتانية

26 التعامل مع بعض المفاجئات

28 الحياة الدبلوماسية

30 العلاقات الرسمية والاجتماعية

33 متفرقات

34 خاتمة

 

**


بسم الله الرحمن الرحيم

 

من الإذاعة إلى السفارة

مدخل

  كان أول اتصال مباشر لي مع دبلوماسيين أجانب، في حفلات السفارات التي فُتحت في نواكشوط مباشرة بعد الاستقلال سنة 1961، بعد السفارة الفرنسية، وهي الإسبانية والأمريكية، والصينية الوطنية (تايوان)، قبل أن تَلحق بها ألمانيا الاتحادية ثم مصر سنة 1965. وكان الرئيس وأعضاء الحكومة يحضرون هذه الحفلات حتى سنة 1970.

   ومن حسن الحظ أن بعض هؤلاء الأجانب كان يتحدث العربية، مثل داوود تينك سفيرِ الصين الوطنية، والقائم بالأعمال الأمريكي القادم من قنصلية عدن، مثل خلفه الذي يتحدث العربية أيضا، السفير فيما بعد أڭيلتون.

ثم مكنتني دورة تدريبه في الإعلام في تونس سنة 1962 من معرفة الكثير عن العالم الخارجي والعربي من بوابة تلك الدولة الشقيقة، التي فتحت لنا ذراعيها؛ ثم توالت الفرص للاتصال بالعالم الخارجي، ولقاء السفراء والوزراء والرؤساء،  فكنت عضوا في الوفد الموريتاني الذي زار مصر سنة 1963 والتقي جمال عبد الناصر، كما رافقتُ الرئيس المختار في أول زيارة له السنة الموالية لمصر أيضا، ولحضور القمة الثانية لمنظمة الوحدة الإفريقية.

 وفي أغشت سنة 1963، رافقت كمراسل للإذاعة الوفد الموريتاني إلى أول مؤتمر لوزراء خارجية منظمة الوحدة الإفريقية في دكار بعد إنشاء المنظمة، وحضره الرئيس أحمد بن بلّه، الذي كان يقوم بأول جولة له في القارة بعد الاستقلال، يرافقه وزير الشباب والرياضة، عبد العزيز بوتفليقة حيث كان وزير الخارجية لخميستي، على فراش الموت.

وقد أتاحت لي هذه الرحلة فرصة اتصالات كثيرة مع الوفود والصحفيين، من ذلك أنني سجلت مقابلات مع وزراء خارجية الدول العربية الإفريقية، مثل نائب وزير الخارجية المصري، ووزير خارجية السودان، ورئيس الوفد التونسي.

وقد حدث لي أشكال مع الإذاعة السنغالية عند مغادرة الرئيس بن بلّه، حيث كنت وزميلا صحفيا أوروبيا الوحيدين الحاضريْن في المطار، فسجلت تصريحات الرئيس  بن بله، في غيبة الصحفيين السنغاليين، الذين طلبوا مني أن أعطيهم نسخة من التصريح، فوافقت، ولكن بعد إذاعته من إذاعة موريتانيا الساعة الثانية عشرة والنصف، فاستاءوا، مما حمل وزير الخارجية السنغالي دودو شام على أن يأتيني ويكرر نفس الطلب، فرددت عليه بنفس الجواب السابق، وعلى كل فقد وفيت بما تعهدتُ به، وانحلتْ المشكلة.

  أما القضية التي لها علاقة بالعمل الدبلوماسي في هذه الرحلة، فكانت دعوتي لمراسليْ وكالة أنباء الصين الجديدة (شين خْوا) المقيميْن في بماكُو لزيارة نواكشوط، حيث كنا في حركة الشباب مناصرين للصين الشعبية، ونتحرش ودّيا بسفير تايوان؛ ولم أبلّغ وزير الخارجية سيدي محمد الديين ولا أحدا من أعضاء الوفد. وعندما عدت إلى نواكشوط، أرسلتني الإذاعة لحضور ندوة صحفية للرئيس المختار بن داداه، كانت عن العلاقات الموريتانية المغربية؛ فتحدث عن اعتقال شخص، اتُّهم بأنه تابع للأمن المغربي، ويقوم بمهمة مرتبطة بعودة الزعماء الذين كانوا لاجئين في المغرب أربعة أشهر قبل ذلك.

وعند انتهاء اللقاء دعاني الرئيس وزميلي فّال بابا إلى مكتبه، وقال: أريد أن أطلعكم دون الآخرين، على موقفنا من الاستعمار الإسباني في الصحراء الغربية، التي هي جزء من موريتانيا، وعدم مطالبتنا بالخروج الفوري له، ذلك أننا نخشى أن تكون بيننا مع المغرب حدود مباشرة في ظروفنا الحالية. وعند الخروج تركت زميلي وعدت إلى الرئيس، وأبلغته قصة دعوتي للمراسليْن الصينيْن، فابتسم، وقال لي خيرا إن شاء الله.

  بعدها بأسبوع استدعاني الأمين العام للدفاع محمد بن الشيخ بن أحمد محمود، وقال لي ادع أصحابك لحضور الاحتفالات بعيد الاستقلال، وهو ما فعلت عبر رسالة بريدية؛ فاستقبلتهما بعد إذن الإذاعة، وأقاما في فندق مرحبا، ومباشرة سلماني ظرفا مغلقا، قالا إنه رسالة من الحكومة الصينية إلى الحكومة الموريتانية، فسلمته لمحمد بن الشيخ بن أحمد محمود، الذي طلب مني أن أعود إليه يوما قبل مغادرتهم، ليسلمني ظرفا مغلقا أعطيته إياهم؛ وقد أكرمناهم وقابلناهم مع صحفيين وأعضاء من حركة الشباب.

  وانقطعت عني الأخبار إلى أن تم الاعترافبالصين وأقيمت العلاقات الديبلوماسية سنة 1965، فكان المراسل هو نفسه الذي فتح مكتب الوكالة في نواكشوط؛ وفهمت أن هذه كانت إحدى قنوات الاتصال بين البلدين.

وكنائب في الجمعية الوطنية زرت مصر سنة 1969، كما كنت في دكار في أول زيارة رسمية للرئيس المختار بن داداه إلى سنغال، سنة 1972، وزرت باريس وفينّا ويوغوسلافيا والهند ضمن وفود برلمانية حظينا فيها بلقاء عدد من الرؤساء. وكمدير للإذاعة زرت أبو ظبي والدوحة وجدة والرياض سنتي 1973، 1975.


متابعة النشاط الدبلوماسي الموريتاني


كنا منذ إعلان الاستقلال نتابع بلهفة خطوات موريتانيا الدبلوماسية الأولى، من يوم توجه رئيس الجمهورية وزير الخارجية، إلى نيويورك لطلب عضوية المنظمة الدولية، فوقع ما تعرفون، قبل أن ندخل المنتظم الدولي في أكتوبر من السنة الموالية.

وتتردد دوما في الإذاعة أسماء:  سليمان بن الشيخ سيديّ في الأمم المتحدة  وواشنطن، وممدُ توري في باريس وأروبا الغربية، وبكار بن أحمدُ في تونس، وصال عبد العزيز في  مكتب دكار والقنصلية العامة.

  وقد سمعنا بأول أزمة في العلاقات مع باريس، دون أن ندرك أبعادها آنذاك، وهي أن وزارة الخارجية الفرنسية أصرت على أن يقدم السفير توري أوراق اعتماده إلى رئيس الحكومة "ميشل دبرى"كما اتُّبع مع سفراء المجموعة الفرنسية، بينما طلبت موريتانيا أن تعامَل على قدم المساواة مع الدول الأخرى بتقديم أوراق الاعتماد إلى رئيس الجمهورية؛ وهكذا أمرت نواكشوط السفير بالتوجه إلى بون، ليقدم أوراق اعتماده لرئيس الجمهورية الاتحادية الألمانيةسفيرا غير مقيم، وبعد عودته إلى باريس غيرت الحكومة الفرنسية موقفها، فقدم أوراق اعتماده للجنرال دكول.  

   وكعضو في الجمعية الوطنية كنت أتابع منذ سنة 1965 النشاط الدبلوماسي لبلادنا، لاسيما من خلال الميزانية السنوية التي يقدمها الوزير مصحوبا بأعوانه.

وقد شاركت في نقاش الأزمات التي طُرحت في الكتلة البرلمانية حول العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن سنة 1967، وتابعت حيثيات قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقبلها مع المملكة المتحدة سنة 1965 بسبب قضية رودوزيا.

أما من ناحية الاطلاع على المشاكل العربية والإفريقية وأدوار الأمم المتحدة، فكنت أتابعها عن كثب بحكم عملي الصحفي، مثل حرب التحرير في الجزائر، والعدوان الفرنسي على مدينة بنزرت سنة 1961، والقضية الفلسطينية، وبدايات حروب التحرير في القارة التي توسعت في منتصف الستينيات، وحرب فيتنام والإنزال الأمريكي في خليج الخنازير إبريل سنة 1960وأزمة الصواريخ في كوبا في شتمبر 1962، والسباق على غزو الفضاء.

...

لم تكن لي تطلعات إلى العمل في الخارج، ولم أسْع إليه، واستقبلته بسرور وكونه ثقة، ومسؤولية لا بد أن أتحملها، وذلك ديدني، فلم أتولّ مهمة إلا تحمست لها. إلا أنني كنت متوجسا من جهلي بالعمل الدبلوماسي، فلم أتكوّن له، ولم أمارسه كموظف في الخارجية على الأقل؛ ولم يُزِل هذا التوجسَ كون عدد من السفراء - ناهيك عن الدبلوماسيين الآخرين - كانوا أيضا في وضعي، وربما أقل معرفة بالعالم الخارجي، لذلك خصصت منذ الوهلة الأولى وقتا لقراءة المعاهدات التي تحكم هذا المجال إضافة إلى مجموعة من الكتب تعالج قضايا السياسة الخارجية، والعلاقات الدولية، وكنت أصطحب معي الكتب الخاصة بالتاريخ والأدب في موريتانيا وعلى رأسها الوسيط في التعريف بأدباء شنقيط، لأحمد بن الامين الشنقيطي وبعض المؤلفات باللغة الفرنسية عن موريتانيا. وإذا كان لي أن أقترح كتبا على الدبلوماسيين الموريتانيين فسيكون أولها مذكرات المختار بن داداه: موريتانيا على درب التحديات، وكتب ثلاثة من وزراء الخارجية، هم: أحمدُ بن عبد الله، ومحمد الحسن بن لبات، وكتاب الأمل الضائع لمحمد السالك بن محمد الامين الذي يعتبر أحد الدبلوماسيين المهنيين، ويتحدث أساسا عن تجربته كوزير خارجية، والكتاب الرابع لأحمد بن سيدي بابا: الأنسان المعولم  (واقعه) والكتاب الخامس لمحمذن بن باباه: مدخل إلى تاريخ موريتانيا، وفي المكتبات اليوم كثير من الكتب المفيدة كثيرا في مجالاتها.

 وكنت دائما أستفيد من تجارب السفراء الأقدم مني من ذوي الخبرة؛ وبعبارة أشمل، فإني شغوف بزيادة المعرفة واكتساب الخبرة، واضعا أمامي القول المأثور، اطلب العلم من المهد إلى اللحد.    

 وكانت خلفيتي في معرفة الدولة التي سأقيم فيها، متوسطة، قبل أن تَشُدَّ الثورة الليبية الأنظار عند قيامها سنة 1969، حيث اعترفت بها موريتانيا فورا، ويزورها الرئيس المختار سنة 1970 ثم العقيد القذافي موريتانيا سنة 1972،  وتوالت الزيارات المتبادلة ومنها وفد من شباب حزب الشعب كنت أرأسه سنة 1972 لحضور أول مؤتمر للشباب العربي - الأوربي - الإفريقي، وانتُخبت مقررا له، وقضيت بتلك الصفة ساعات مع العقيد القذافي، في حوار مفتوح مع الشباب والصحفيين في غابة جودْ دايمْ التي تناولنا فيها الغداء تحت الشجر، وكنت إلى جانبه، يستفسر مني في العديد من القضايا المطروحة. وعند زيارته لموريتانيا أُسندت إليّ مهمة تقديم المنشئات التي زارها في العاصمة.

تصادف تعييني في شهر فبراير 1976، سفيرا في ليبيا مع الاعتماد في تشاد والنيجر، مع بلوغ القضية الصحراوية أوج تصعيدها، بإعلان الجمهورية الصحراوية؛ وعندما استقبلني وزير الخارجية السيد حمدي بن مكناس، شرح لي مهمتي، وأطلعني على مستجدات القضية سياسيا ودبلوماسيا، وعلى الخصوص مضامين اللقاءات التي تعددت مع الجانب الليبي على مستويات عالية، وزودني بتعليماته.

 ثم استقبلني رئيس الجمهورية، فذكّر بالروابط بين موريتانيا وليبيا كبلدين يشتركان في الفضاء العربي الإسلامي الإفريقي، وعن علاقاته بمعمر القذافي، الذي يُحسب له اعترافه بموريتانيا بعد وصوله إلى السلطة مباشرة، ثم دعاه إلى زيارة طرابلس، فتمت إقامة العلاقات الدبلوماسية، وبدأت عجَلةُ التعاون في التحرك. وركز على العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، والسعي لزيادة عدد الطلبة في الجامعات والمعاهد الليبية، في الوقت الذي بادرت طرابلس إلى فتح مركزين ثقافيين في نواكشوط وأطار، والعناية بالعمالة الموريتانية واستفادتها من مزايا الاتفاقيات الثنائية بين البلدين، في مجال العمالة والإقامة.

   ثم ركز الرئيس على موقف طرابلس من قضية الصحراء، متمنيا أن يفي الليبيون بوعودهم بإعادة النظر في موقفهم وعلى الخصوص الامتناع عن الاعتراف، ووقف تزويد الصحراويين بالسلاح.

  كما أوصى بمتابعة الخلاف الليبي التونسي الذي اندلع بعد تراجع تونس عن اتفاقية الوحدة بين البلدين، وكذلك الخلاف الليبي تشادي على منطقة آوزو، وهما القضيتان اللتان كان الرئيس قد توسط فيهما، طالبا مني تزويده بمستجداتهما.

ثم تطرق إلى العلاقات الليبية مع إفريقيا جنوب الصحراء، وحثِّ الليبيين على الاهتمام بالقارة والاستثمار فيها؛ شارحا الموقف الموريتاني من هذه الملفات جميعا، وأهميةَ استمرار الحوار والزيارات البينية، حتى ولو كان هناك تباين في وجهات النظر، ثم ختم اللقاء كعادته لمبعوثِيه، بالاستشهاد ببيت طرفة بن العبد:

إِذا كُنتَ في حاجَةٍ مُرسِلاً    فَأَرسِل حَكيماً وَلا تُصيِهِ


إلى ليبيا


 كل ما شغل تفكيري منذ التعيين، الأدوات التي تمكنني من تحقيق مهمتي، من إمكانيات بشرية، علينا استغلال طاقتها بالقدوة والتكوين والثقة، ومادية، علينا ترشيدها؛ مع كسب ثقة الوزارة ومؤازرتها.

  ومن حسن الحظ أن المكاتب والمنزل غير مؤجرين، بل مقدمان مجانا من الحكومة الليبية، عندما فتح السفارة السفير سليمان بن الشيخ سيديّ، لكنهما - كغيرهما - من الممتلكات الإيطالية التي استولت عليها حكومة الثورة كانت بلا وثائق ملكية.

وقد أعارتنا الحكومة الليبية بعد وصولي مكاتب ومنزلا في سبها، عندما أنشأنا قنصلية فيها.

   بالنسبة للموظفين والعمال، فهم: ملحق مكلف بالشؤون القنصلية، انتقل فيما بعد إلى سبها، ومحاسب، وكاتبتان محليتان، وسائق، وقبل سنة من مغادرتي وصل مستشار أول، هو شرنو علي بارو، الذي عين سفيرا في طهران. وظل النقص في موظفي السفارات التي عرفت، أكثر ما عانينا منه سواء في العدد أو التأهيل.

  وكنت أوصي الدبلوماسيين باحترام البلاد التي تستضيفنا، وأن يصادقوا مواطنيها، ويتفهموا مواقف حكوماتها، وألا يبحثوا عن النواقص والأخطاء، وألا يدخلوا في جوقة التشهير التي يمارسها بعض الديبلوماسيين ضد بلاد الاعتماد.

أما السيارات فكانت اثنتان، أضيفت لهما ثالثة.

**

    لم أفاجأ كثيرا بحجم الميزانية، لإدراكي وضع البلاد المالي، وحالة الحرب. لذلك التزمت بترشيد صارم لها، وحفظ الممتلكات، طيلة مهمتي سفيرا في ليبيا وسوريا عشر سنوات بينهما، ونيجيريا سنتين، خاصة أن حجم ميزانيات السفارات هو الذي تعرفون، وفي بعثات تحتل المرتبة الثالثة في سلم غلاء المعيشة، إلا نيجيريا. ولهذا لم يتأخر قضاء فاتورة ماء ولا كهرباء ولا هاتف، طيلة خدمتي. وكنا نحمّل السائق مسؤولية السيارة وصيانتها، لا يلمسها غيره، ويضع مفاتيحها بعد الدوام لدى الحارس، ونتكلف بنقل الدبلوماسيين أو أسرهم؛ وبفضل ذلك، لم تُتلف لنا خلال اثنتي عشرة سنة إلا سيارة واحدة في ليبيا كانت مؤمنة.

  وحتى كمتعاقد، مع الجامعة العربية، رئيسا لبعثتها مدة 15 في أديس أبابا، واظبت على النهج نفسه مع ميزانيتها حتى انخفضت تكاليف التسيير - دون الرواتب طبعا - بحوالي النصف.

   وفي الوقت نفسه لم أطلب يوما تكملة للميزانية، ولم أشكُ من نقصها، لأنني قانع بما نحن فيه، وأحمد الله عليه؛ ومن القواعد التي جئت بها من عملي السابق، أنني لا أقبل تجاوز أوقية واحدة في الصرف، لكنني لا أعيد أي مبلغ لم يُصرف إن أمكنني ذلك، فأشتري به النواقص من أثاث السفارة وأدواتها، ليُسجل في دفتر إضافي مَخْرُوز مع دفتر محاسبةِ المقتنيات. 

  وعلى مستوى السكرتارية الشخصية، كنت أكتب التقارير بخط اليد، قبل أن أتعلم الطباعة، لأنني لا أأتمن أحدا عليها، ثم جاء الحاسوب وحُلت مشكلتي.

  كان بريدنا يُرسل مرتين على الأقل في الأسبوع، عبر الخطوط الجوية الفرنسية (Air Franceو TAU)، ونبعث المعلومات الخاصة بالشفرة قبل إلغائها، أما الهاتف فلا نستعمله إلا في حالات نادرة.

لم أكن أخاطب - خلال مأموريتي - إلا وزير الخارجية، أو الأمين العام: فيما يتعلق بتسيير السفارة، وعلى الخصوص الشؤون الإدارية والمالية، وإلى الجهات الأخرى عبر الوزارة؛ وأرُدّ على من يكتب لي من الوزارات مباشرة، مع نسخة للخارجية؛ وطيلة انتدابي لم أكتب لرئاسة الجمهورية، ولم أتصل بها، إلا إن كانت هي المبادرة، وأنقل المضمون لوزارة الخارجية، وهو ما وقع – فيما أتذكر – مرتين، بعد سنة 1978، كما كنت أكتفي بعطلي الرسمية ولا أطلب غيرها، وأغتنمها فرصة لألتقي وزير الخارجية والوزراء ثم الرئيس، وأحل المشاكل العالقة.


علاقات إيجابية في ظل إرهاصات الثورة


   ليبيا كما تعرفون بلد عربي إفريقي، غني، يقوده نظام ثوري،  يقبل عليه الناس من كل جهة، طمعا في ماله، وتجنبا - أحيانا – لضرره، بسبب تعاونه مع العديد من المنظمات المعارضة، ومنها المسلحة عبر العالم.

وعند وصولي كانت البلاد مزدهرة، تتوفر فيها البضاعة بشتى أنواعها وخاصة منها السمعيات البصرية، فيأتي الناس لاقتنائها من الدول المجاورة؛ وفي الوقت نفسه، كانت الدولة تعيش مرحلة مخاض صعبة، عندما أصدر العقيد القذافي الكتاب الأخضر، وبدأ تطبيق مقولاته الاشتراكية، التي أثرت على حياة الناس، فتحولت ليبيا من جنة للتبضع إلى دولة اشتراكية، من نمط شعبي مستحدث غير مصنّف في الاشتراكيات المعروفة.

وكان أكثر ما يُقلق البعثات الدبلوماسية وأصحاب المصالح الاستثمارية من شركات ومكاتب تجارية وعمالة، هو الفوضى التي حلت بإدارة الدولة، من وزارات وخدمات ومشاريع. فما أن دخلت سنة 1977 حتى سيطرت اللجان الشعبية على الوزارات والقطاعات كافة ومنها الخارجية، لتأتي اللجان الثورية المعهودُ إليها بتثوير العمل والسلوك.

  وبعد ما وصلتُ ليبيا في بداية المسلسل التثويري، قمت بزيارة القائم بمهام وزير الخارجية وسلمته نسخة من أوراق الاعتماد، فأذن لي بالاتصال مع كل الجهات الرسمية التي أرغب في لقائها، فتم ذلك قبل أن أقدم أوراق اعتمادي أربعة أشهر من وصولي للرائد عبد السلام جلود (لأن العقيد القذافي أعلن أنه قائد ثورة وليس رئيسا). وحين أُبلغتُ بالموعد، لم أعثر على الأوراق بسرعة، حتى أني فكرتُ باتباع تقليد جار في ظرف كهذا، وهو الاتفاق مع المراسم على تسليم ظرف مغلق، حتى تصل أوراق اعتماد جديدة؛ ولا أدري كيف فعل زميل لي ذهب إلى إحدى دول الخليج في تلك الفترة، عندما شُحنت أوراق اعتماده في صندوقِ أمْتعته في الباخرة.

ومن المفارقات أن أول اتصال للخارجية الليبية بي كان لتوفير معلومات عن حقيقة مقتل قائد الثورة الصحراوية في موريتانيا، لأن القذافي ينتظرها بتلهف ـ كما قالوا ـ وقد أكدت لهم الخبر، انطلاقا مما سمعته في إذاعة موريتانيا.

   لقد تكيّفنا فورا مع أوضاع البلد الجديدة، لا نُعير أي اهتمام للمظاهر الدبلوماسية المعهودة، باستثناء علم السفارة والسيارة في حالة الزيارات، أما الألقاب، والاستقبال عند مداخل المكاتب المزُورة، وحتى الدخولُ على الوزراء، فكان يجري - في بعض الأحيان - عفويا وبدون تقديم، وضمن المراجعين من المواطنين أحيانا أخرى.

وكنا نتدخل مباشرة في بعض الحالات لإصلاح خطأ يمس رموز دولتنا أو مكانتها، ومن ذلك أنني قمت برفع العلم الموريتاني على صاريته، في الساحة الخضراء كأعلام الدول الممثلة، أمام حضور جماهيري ضخم، والوفود المدعوة، ومنها الوزير عبد الله بن بيه.

وظل قرار موريتانيا بألا تغيب عن أي مؤتمر أو لقاء في طرابلس، التي كانت قبلة عالمية آنذاك قاعدة، حتى لا نترك للآخرين الانفراد بالعقيد القذافي، كما أوصى به الدكتور عبد السلام التريكي، وزيرَ الخارجية حمدي بعد اندلاع مشكلة الصحراء، فكنا حاضرين في كل اللقاءات العربية والإفريقية، سياسيةً كانت أو اقتصادية أو ثقافية أو رياضية أو نقابية، ممثَّلين دوْما في الاحتفالات التي تقام في المناسبات الوطنية الليبية.

وظل العقيد القذافي حريصا شخصيا على لقاء هذه الوفود، يدير معهم نقاشات متنوعة، تتطور إلى جدل أحيانا، ومنهم وزراء، ورجال دين وأدب، نذكر منهم  الشيخين الجليلين ابّه بن انّه ومحمد سالم بن عدود؛ حيث ما أزال أتذكر ثلاثة أبيات من قصيدة له ألقاها بحضور القذافي:

أيا ثورة الشعب العزيز تقبلي       تحايا مُحبٍّ عذبُهن زلال

ولا تسمعي فينا الكلام فإنّنا         مُصِمُّون عمّ الآن فيكِ يقال

ولا تخذلينا في النضال فإنما      حياتُكِ فينا نُصرة ونضال

لقد كان القائد الليبي منبهرا بالثقافة العربية الموريتانية عندما زار البلاد، خاصة محطة بوتليميت، التي سمع فيها - ربما - أجمل ما قيل فيه من منظوم، وبعد عودته، طلب من الليبيين ألا يبعثوا أبناءهم لتعلم العربية في الجامعات العربية، وأن يتجهوا إلى موريتانيا، لذلك ركزتْ الحكومة على هذا الوتر الحساس، فكانت النتائج جيدة.

وعندما هوجمت نواكشوط سنة 1977، واستُولي على أسلحة وذخائر مصدرُها ليبيا، ارتفعت الأصوات بقطع العلاقات، حتى أثير الأمر في اجتماع المكتب السياسي والحكومة، الذين طلبوا رأيي، فاقترحتُ إرسال مبعوث خاص، مع صورِ السلاح والعتاد، وهذا ما تم، مع الوزير عبد الله بن بيّه، الذي قدم الملف إلى العقيد القذافي.

  وقد أبلغني أحد مساعدي القائد الليبي المقربين أنه بعد ذلك بأيام عقد ندوة لجميع اللجان الثورية في ليبيا، وخاطبهم عبر شبكة تلفزيونية مغلقة، عن عدة قضايا، منها العلاقات مع الدول العربية؛ حيث تطرق للسودان، وقال إن جعفر النميري يحاول بكل السبل إيذاء ليبيا، كإطلاقه حملة تبرعات يساهم فيها كل سوداني بدولار أمريكي، لقضاء الديون الليبية، مع أننا – يقول القذافي - أنقذناه من الموت، باعتقالنا قائد الانقلاب العقيد هاشم العطاء بتوقيفه في المطار قادما من لندن، لنسلمه للنميري فيقتله؛ بينما أمسكت موريتانيا عن التشهير بنا، بعد أن استولت على أسلحة كنا قدمناها للثوار الصحراويين، مكتفية بالاحتجاج وتسليمصور عنها.

  وبعد تدخل الطائرات الفرنسية ضد القوات المهاجمة داخل الأراضي الموريتانية، استدعى العقيد القذافي، سفراء الجزائر والمغرب، وموريتانيا واجتمع بكل واحد منا على حدة. وقد طلب مني أن أنقل للرئيس استنكاره للاستعانة بالقوات الفرنسية في صراع عربي – عربي، بعد أن كان أخرجها من الباب الواسع، ملحًّا على ضرورة وقف هذا التدخل فورا، وأن على الدول المتصارعة أن تحل المشكلة بينها، وأنه مستعد للمساعدة في ذلك.

وقد استقبلني الرئيس في نواكشوط، وقدمت له التقرير، فلم يزد على أن قال لي بيت الحلاج:

ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له  إياك إياك أن تبتلّ بالماء

ولم يزدني بكلمة، سوى سؤالي هل سأزور الرشيد؟.

وعند ما استقبلني القذافي في العودة، كان مصغيا لسماع رد الرئيس، فما زدته عن حكاية البيت؛ فقال بصوت مرتفع: لستُ مَن بلّله، وإنما الحسن الثاني، وجيسكار وصينكور وهوفويت بوانيى، وانتهى اللقاء.

كما أشرت إليه سابقا، أوصاني الرئيس على العناية بالعلاقات الليبية الإفريقية، وإطلاعه على ما تحقق فيها، وفي إحدى زياراتي لنواكشوط قدمتُ له عرضا عن مستجداتها، متطرقا إلى إعلان إسلام رئيس بنين الذي تسمى بأحمد صلاح الدين كريكو، فقال لي ضاحكا: لقد اتصل بي الرئيس التوﮜولي أياداما ليشكو لي القذافي، قائلا: لقد تجرأ على أن يطلب مني تغيير ديني لأصبح مسلما، مثل كيركو، ولولا أنك أوصيتني عليه لصفعته.

**

 في الحقيقة لم تؤثر قضية الصحراء بشكل جوهري على العلاقات بين البلدين؛ فاستمر التعاون الذي كان متعدد الأوجه ولو بوتيرة أقل. ومن ثمرته شركتا الصيد والزراعة؛ وإنارة مدينة شنقيطِ، وبناء الثانوية العربية، والمشاركة في تمويل تعبيد طريق الأمل. وظلت اللجنة المشتركة للتعاون قائمة حتى سنة 1978، وتزايد باضطراد سنوي عدد الطلبة، إضافة إلى التشاور والتنسيق أحيانا في القضايا المرتبطة بالتعاون العربي الإفريقي.

وقد فشلت محاولات قمنا بها لتصدير الماشية إلى ليبيا خاصة الأغنام، عبر البحر أو مطار النعمة الجديد، لأن جهات رسمية ليبية عرقلت الموضوع، بحجة عدم خضوع المواشي الموريتانية للرقابة الصحية المطلوبة، فاختاروا الأرجنتين، التي سببت لهم انتشار أمراض كادت تقضي على ثروة الماشية في المنطقة الغربية.

ويبقى محفورا في الذاكرة في هذا البلد الشقيق طيبةُ أهله وكرمُهم، وحبهم للموريتانيين، الذين يشتركون معهم في الكثير، ومنه الصراحة والبساطة والحضور القبلي،  لا سيما بعد الثورة التي كان أكثرية أعضاء مجلس قيادتها ينتمون للبادية، مثل رئيسها؛ مما جعل سكان المدن ينفضون الغبار عن الأرشيف ليُحيوا انتماءاتهم القبلية، وذلك نقيض البلاد العربية الأخرى، باستثناء دول الخليج، والعراق في عهد الرئيس صدام حسين، الذي أشرك القبائل في الحكم، وأعاد لها بعض المكانة التي فقدتها. وكنت أنبه الطلبة على عدم الاندفاع في التفاخر بأصولهم البدوية، بسبب نظرة سكان المدن العربية الدونية للبدو عامة.

وخلال عشر سنوات من العلاقات بين البلدين بلغ حجم التمويلات الليبية والوديعة في البنك المركزي وغيرها حوالي ستين مليون دولار، أضعاف ما استثمرته فرنسا في بلادنا خلال 60 سنة من الاستعمار.


الانتقال إلى سوريا


كان الاستقبال يتبع الروتين نفسه، وكذلك التعامل، إلا أن الخارجية هنا أكثر فعالية؛ فبعد يومين من وصولي استقبلني عبد الحليم خدام، وزير الخارجية، ثم توالت الزيارات للوزراء الذين أُعنى بهم أكثر.

كنا نعرف الفرق بين ليبيا وسوريا، فلكل منهما ميزته وخصوصيته، فالأخيرةدولة مركزية لها ثقل وتأثير في الساحة العربية، وخاصة المشرقية. وتختلفان سواء في طبيعة البلد ومناخه، أو أهله الذين يعتبرون أكثر شعوب المنطقة انفتاحا لكونهم ظلوا على مدى التاريخ ملتقى الحضارات، ومع العراق منشأِ أعرق حضارة وهي حضارة ما بين النهرين، ففيها بدأت الكتابة ودُجن الحيوان، والحبوب الزراعية، والغزل والنسيج، وعاصمتها دمشق أقدم مركز حضري لم يَخل من السكان في العالم، ونظامُه مركزي قوي، وعند وصولي كان في السلطة منذ  سبع وعشرين سنة.

كانت علاقتنا مع سوريا مركزة على إيفاد الطلبة إلى الجامعات والمعاهد العليا السورية، التي تخرج منها حتى اليوم - حسب تحرياتنا الأخيرة - حوالي ألف طالب. وكان التعاون قائما في المجال الثقافي عموما، ومنه فتح مركز ثقافي لسوريا في نواكشوط.

ويختلف وضع السفارة فيها عن ما هو عليه في طرابلس - إلا في عدد الموظفين - فالمكاتب والمنزل ملكية لموريتانيا التي اشترتهما عند فتح السفارة، ويقعان في أرقى الأحياء؛ فالمنزل يحتل طابقا أرضيا من فيلّا خالد العظم رئيس وزراء سابق، كانت الأشهر في العاصمة حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، والسيارات ثلاث، إلا أنها قديمة جدا، وصيانتها مكلفة؛ لذلك باشرنا السعي في تجديدها.

   واغتنمنا فرصة تلقي مبلغ لشراء سيارة لرئيس البعثة، وكذلك الحصول على إذن ببيع السيارات المتهالكة، فتحملتُ المسؤولية وقررت شراء ثلاث سيارات جديدة بالمبلغ المخصص أصلا لشراء سيارة رئيس البعثة، لأن قيمة الدولار كانت مرتفعة فوق الحد المعهود، فاشترينا مرسيدس 200، بدل مرسيدس 280، وسيارتين أخريتين، وبثمن السيارتين المتهالكتين اقتنينا سيارة رابعة لنقل المسافرين والقادمين إلى  المطار وعفشهم.  وقد سألني نائب وزير الخارجية عندما زار دمشق، لما ذا لم أشتر سيارة مرسيدس 280؟ فقلت له - مداعبا - كيف أتجرّأ على ركوبها، وسفير الصين لا يستعمل إلا مرسيدس 200.

كانت المشكلة المزمنة في السفارة تأخر منح الطلاب، الذي عانينا منه في بعض الأشهر، وأدى إلى محاولة احتلال المكاتب، ثم الاعتصام أمامها، ولكنه توقف عندما تلقينا - بالخطأ - مبلغا كان موجها إلى سفارة أخرى، وقبلت إدارة الميزانية تركه، فغطى مِنح سنتين متتاليتين.


اللقاء الأول مع الرئيس الأسد

تعاون ثقافي متميز وتفاهم سياسي متجدد


  قدمت أوراق اعتمادي للرئيس حافظ الأسد بعد شهر من وصولي. وقد شاب الجلسة القصيرة المعهودة بيننا بعضُ التوتر، حيث كان على علم بأني عائد توا من عمان بعد حضور قمة عربية انسحبتْ منها سوريا مع دول الصمود والتصدي، فسألني عن ردود الفعل على التطورات الأخيرة، في إشارة إلى الوضع بين الأردن وسوريا نتيجة الحشود السورية على الحدود، فقلت له إن الناس يتمنون لو وُجهت الأسلحة العربية إلى إسرائيل، فرد بتجهم "نحن جاهزون لقطع يد كل خائن".   غير ذلك، استعرضنا بسرعة العلاقات بين البلدين، وقضية الصحراء، والوضع العربي عامة، فذكّر بمواقف سوريا من الحرب العراقية الإيرانية، متمنيا أن يُدرك العرب خطورة الأمر.

خلال الهنيهات التي ساد فيها التوتر مع الرئيس الأسد، جالت بخاطري قصة سفير تونسي سابق في بغداد، هو محمد بدره، الذي يقول "كنت مقيما في القاهرة ولكنني معتمد أيضا في بغداد، حيث دعيت لحضور حفل إفطار على مائدة رئيس الوزراء اللواء الركن عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة (كان الاسم والألقاب تتلى كاملة عند ذكره) فقدموا أشكالا من أنواع التمور العراقية، فقلت لوزير مجاور: إن في تونس تمورا أجود منها، فالتقط الحاضرون الكلمة، ونظروا إلي بغضب، وتوقفوا عن الحديث. فتأكدت أنها سقطة دبلوماسية كبيرة، فاستأنفت قائلا: لقد كنت أمازح، لأن العراق موطن التمر في العالم، في الجودة والكثرة، وما بتونس مجرد بقايا علف خيول الجيوش العراقية التي كانت تتصدر الفتح الإسلامي للمغرب العربي والأندلس والتي مرت بتونس، ومنه نبتت النخلة المعروفة بدﯕلة النور، نسبة إلى نهر دجلة العظيم؛ فغاب التكشير قليلا، فواصلت قائلا: في نهاية المطاف، ليس هناك ما يمكنه أن يسبب غيرة، لأن العراق مذكر وتونس مؤنثة"[1].

وقد اتضح لي خلال اتصالاتي بأن هناك عتبا على موريتانيا لموقفها من هذه الحرب، وهو ما أثاره معي وزير الإعلام أحمد إسكندر، الذي كان أكثر الوزراء نفوذا قبل موته المبكر؛ عند ما زرته، إذ خاطبني قائلا: لما ذا تقفون مع عدوان العراق على إيران؟ مرددا المقولات السورية المعهودة في هذا المجال، فقلت له: السيد الوزير، عليكم أن تفهمونا، نحن شعب نتعلق بالعروبة والإسلام - ربما أكثر منكم - لأنكم في الوسط ونحن في طرف قصي، لذلك عندما تُعلن دولة عربية أنها ظُلمت فنحن معها، وهذا ما فعلناه سنة 1967 حين أذعتم  - مع المصريين - أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي عطلت دفاعاتكم الجوية أمام الطيران الإسرائيلي، باستخدام الباخرة ليبرتي، المجهّزة لذلك، فقطعنا العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.

فرد قائلا: الآن فَهمناكم، فأهلا بكم، وسوريا بلدُكم، وأهلُها أهلُكم.

  ثم جاء الموقف الموريتاني من الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، وعقدَ اتفاق الإذعان – كما سمي – الذي يضع البلد تحت وصاية غير معلنة لإسرائيل، فتحركت سوريا في حملة دبلوماسية وإعلامية شملت الدول العربية ومعظم دول العالم، لإسقاط الاتفاق، فكان الوضع صعبا أمامها، لأن الحكومة اللبنانية تحت الحراب الإسرائيلية، والطوائفُ اللبنانية منقسمة على أمرها، وموقف سوريا من الحرب العراقية الإيرانية، يجعلها إلى حد ما معزولة عربيا. وكانت موريتانيا الدولة الوحيدة – كما قال لي الشرع - التي أيدت موقف دمشق عندما استقبل رئيسُ الوزراء معاوية بن الطايع وفدَه، في غيبة رئيس الدولة محمد خونه بن هيداله.

  ومباشرة بعد عودة الوزير استدعاني، ليعرب لي عن امتنان الرئيس حافظ الأسد والحكومة لهذا الموقف، الذي لن ينساه الشعبان السوري واللبناني.

ومع أن العلاقات ظلت حسنة وتطبعها المودة، إذ كان الرئيس - طيلة مأموريتي - يستقبل كل المبعوثين والوزراء المشاركين في المؤتمرات، مُظهرا الأخوة والاحترام - إلا أنها ازدادت متانة، مما تجلى في العديد من اللفتات ذات المغزى، وعلى رأسها زيادة المنح، والحصص في الكليات المرغوبة، كالطب والصيدلة والزراعة والهندسة، ولاحقا الكلية العسكرية.

من ناحية أخرى امتنّ المسؤولون للسفير لتجاهله تصرفًا  صدر من بعض شبيبات الحزب في يوم عيد الشباب، هو كشف طرف ملحفتي حرمي وقريبتها الزائرة، عن رأسيهما في سيارة للبعثة.

وكان أول من أبلغني بالأمر سفير المملكة العربية السعودية نقلا عن حرمه، التي تعرضت للشيء نفسه؛ وعندما اتصلت بحرمي هوّنت مما جرى، وأنه عامٌّ على كل المارة.

وعند ما طلبتْ المراسم موعدا لأحد مسؤولي الوزارة للاعتذار، طمأنتهم على أن الأمر لا يتطلب ذلك، لأنه عامٌّ ولا تُقصد به الإساءة، وأن دمشق وطنُنا الثاني ولا حساسية بيننا. وقد أبلغتني مصادر عدة تقدير المسؤولين في أعلى المستويات لهذا الموقف، الذي تردّد بين مجموعة السفراء العرب.

وينبغي أن أشير إلى أن حرمي كانت قد زارت حرم الرئيس الأسد عند وصولنا، زيارةَ مجاملةٍ وكان سابقة بالنسبة لها كما علمنا، كما أن الرئيس الأسد ظل في المناسبات التي يحضرها الدبلوماسيون يبادلني الحديث، ومن ذلك أنني تحدثت مع بعض الزملاء العرب عن القدرة الخطابية للرئيس وسلامة لغته، فقلت له مرة إن من يُصغي إلى خطبك، يتوسم أنك قد قرأت القرءان الكريم، فأجابني: لقد أنهيته وعمري تسع سنوات، وهو ما أكدتْه لي شخصيات سورية.

وفي لقاء معه بحضور زائر موريتاني أسهب في الحديث عن اغتصاب إسرائيل لفلسطين دون حق أو سند تاريخي، فعلقت قائلا إن ما تقولونه يتقاطع مع ما ورد في كتاب "التوراة جاءت من الجزيرة العربية"للدكتور صليبا أستاذ الجامعة اللبنانية، الصادر حديثا، فتبين أنه لم يطلع عليه.

  كان الأسد شغوفا بإثراء لقاءاته، فهو محاور جيد، حريص على الدعابة والتودد، على خطى عبد الناصر الذي التقيته مرتين ضمن وفود.

    وقد استقبلني للتوديع، فكنت الوحيد من ضمن أربعة سفراء مغادرين، هم الإيراني محتشمي، واليمني عبد الله بركات، المعيّنان وزراء مثلي، وسفير الكويت عبد الرزاق الكندري، ورابع لا أتذكره؛ وتجاوز لقائي معه الوقت الذي حددتْه المراسم، بإشارة منه.

**

في الأردن ولبنان، ومع منظمة التحرير الفلسطينية، قدمت أوراق اعتمادي لكل من ولي عهد الأردن الأمير الحسن سنة 1981 في غيبة الملك في الخارج، وللرئيس إلياس ساركيس رئيس الجمهورية اللبنانية في مارس 1982، ولياسر عرفات في إبريل 1982، في فندق شيراتون بدمشق، دون إعلان بذلك، نظرا لحساسية وضعه؛ وكانت بيننا معرفة سابقة، بدايتُها في طرابلس لتزويده بجوازات سفر موريتانية، تنفيذا للتعليمات.


النشاط الإعلامي والثقافي


كان الإعلامبوابتي إلى العمل الدبلوماسي، ومصدر العلاقات التي ربطتها في ليبيا وسوريا، وأفادتني كثيرا، مثل علاقاتي بمديرين سابقين للإذاعة والتلفزيون الليبيين، تولى وزارة الإعلام، ثم العدل، والثاني الإعلام قبل مغادرتي طرابلس ثم أصبح وزير الخارجية، قبل أن يُتوفى في حادث سير؛ كما كانت لي معرفة بمديري إذاعات معظم الدول العربية، بحكم  أننا عضو مؤسس لاتحاد الإذاعات والتليفزيون العربية، ومثلها اتحاد التلفزيونات الإسلامية، فكنت على اتصال مع من أعرفه منهم عند الحاجة.

  وأفادتني علاقاتي مع  مراسلي وكالات الأنباء، والصحف والإذاعات الأجنبية؛ في العاصمتين، حيث نتبادل الأخبار، ويزودونني ببعضها قبل نشره في بعض الأحيان، وخاصة الأخبار الداخلية، ويُمرّرون لي بعض ما أريد إبلاغه دون إقحامي كمصدر.

وقد زرت رؤساء الصحف الثلاث الرسمية في سوريا الذين يُعتبرون ركائز في سياسة سوريا، ومصدر معْرفةِ توجهاتها في العلاقات العربية والدولية.

 والمصدرُ الأساسي لأخبار الدول التي خدمتُ فيها، كغيرها، هو الصحف المحلية، لأنها مرْآت الأوضاع الداخلية والخارجية، ومصدرٌ لا يضاهى، في تتبع الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، حتى ولو كانت في نظر البعض مجرد أبواقِ دعايةٍ فقط.

وكنا في طرابلس نُعد نشرة من أقوال الصحف المحلية، تبقى مرجعا مهما نعتمد عليه في متابعة سياسة البلاد وأوضاعها المختلفة وعلاقاتها الدولية، ونرسله حسب الأهمية إلى الوزارة.

أما إنتاج السفارة الإعلامي، فكان وثيقة دائمة تحتوي تقديما شاملا ومتنوعا لموريتانيا من الشكل الذي يحتاجه المهتمون ببلادنا، من زوار وخاصة إعلاميين. وكان نشاطنا أكثر مع تلفزيونات ليبيا ثم سوريا، لاسيما عن ذكرى الاستقلال، حيث كنت أسجل كلمة عن الحدث، مصحوبة بصور وشريط وثائقي وأغنية مصوّرة، مما تحتويه مكتبتي الشخصية، إذ لم تكن التلفزيون قد انطلقت لدينا كما هو معروف.

وكنا نصدر نشرة دورية تتضمن بيانات عن العلاقات الموريتانية الليبية، والشيء نفسه في دمشق عن علاقاتنا مع سوريا، وكذلك أنشطة رئيسنا ووزرائه التي لها علاقة بالخارج، وقد حسّن خلفي هذه النشرة وصارت مطبوعة.

لكننا أحجمنا عن توزيع البيانات التي كانت تردنا عن موضوع الحرب قبل توقفها، لما فيه من إحراج للدولة المضيفة، وحتى لا نعمق الجرح الغائر في العلاقات المغاربية، لأن الدبلوماسية، تطفئ الحرائق، ولا تصب الزيت على النار.

وفي المجال الثقافي والديني، كنت على صلة بوزراء التعليم العالي والإعلام والثقافة والأوقاف والشؤون؛ الذي كان يزورني أحيانا في البيت، حيث ذكرت له قصة جارنا سفير تركيا، الذي قال لي مرة إنه لا يصلي في المسجد المجاور بسبب صوة المؤذن، الذي لا يعجبه، فما كان منه إلا أن أمر بعزله وتغييره بآخر أجمل صوتا، فعلمتْ جماعة المسجد بالأمر وزاروني في البيت، للتدخل حتى يعود الوزير عن قراره، لأن المؤذن رجل فاضل، لا يبخل بمساعدة المسجد، حيث يملك وكالة تأجير سيارات، ثم إن السفير التركي لم يغير سلوكه، ففعلت وأعيد المؤذن.

وقد طلب مني الوزير مرة أن أعطي تأشيرة لرجل من مدينة حلب، أعتقد أنه يزاول الأعمال، لزيارة ضريح الشيخ محمد فاضل، في دار السلام، بالحوض الشرقي، حيث رتبت له ظروف الزيارة، وعند عودته أتحفني بكيس من تراب الضريح.

وقد حاضرت في بعض التجمعات والنوادي كنادي العروبة في دمشق، بمشاركةٍ أحيانا من بعض طلبتنا، وحضور مثقفين، وكانت فرصا لحوار وسع دائرة التعريف بالوجه الثقافي لبلادنا.

والتقيت شخصياتٍ دينةً مثل مفتي الجمهورية وبجمعيات دينية، خاصة متصوفة، منها من أخذ سنده في الحجاز عن شناقطة،  كما كانت لنا صلات ببعض الأدباء والكتاب والفنانين، منهم الممثل الشهير دريد لحام، الذي زرته مع سيداتي بن آبه الذي كان في زيارة لدمشق، وعندما جاءت زوجه تحمل أقداح القهوة قدمها لنا بقوله: هذه أمّي، فضحكنا.

 وكان نادي الشرق أكبر قاعة عرض في العاصمة في فترتنا، يستضيف كبار الفنانين مثل صباح فخري، ومياده الحناوي، وفيروز ووديع الصافي وجوزيف صقر، حيث حضر بعضنا حفلاته، وقد سقط فوق حلبته بسكتة قلبية نصري شمس الدين، في الليلة التي استقبلْنا فيها وزير العدل.


الانتقال إلى نيجيريا


نيجيريا كما تعرفون هي أكبر دولة في القارة الإفريقية من حيث عدد السكان وهي القوة الاقتصادية الأولى فيها، وأكثرها نفوذا خاصة في الغرب الإفريقي، وعاصمتها مقر الجامعة الاقتصادية لغرب إفريقيا. ومع إقامتي فيها كنتمعتمدا في بنين والتوﮜو التي ترفض تسلم أوراق السفراء المقيمين في نيجيريا، مع قبول الاعتماد، وإعطائهم بعض التسهيلات.

وما فاجأني أن وزارة الخارجية في نيجيريا تضع موريتانيا في دائرة شمال إفريقيا وليس في غربها، وهو ما كانت تتبعه وزارة الخارجية الأمريكية حتى تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تضعها في دائرة غرب إفريقيا.

لم تكن هناك مشكلة بالنسبة للمكاتب والمنزل، ولا في موقعَيْهما، كما أنني وجدت دبلوماسييْن ومحاسب، كانوا يتولون تغطية الدول الثلاث، وحضور المؤتمرات التي كان أكثرها للمنظمتين الإقليميتين: الجامعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وجامعة غرب إفريقيا الاقتصادية، وبعض ملفات التعاون بين البلدين الذي كان منحصرا في الشراكة بين خصوصيين من البلدين في الصيد، الذي كان المستوردُ منه مرغوبا في لاكوص،  وكذلك لحل مشاكل الجالية في الدول الثلاث؛ التي كان يساعد فيها كثيرا القنصل الفخري، الطالب الحبيب.

   فَتح السفارة في نيجيريا السفير أحمد بن اﭽـه، سنة 1967  مزامنة مع قيام حرب انفصال ابيافرا؛ تعبيرا من موريتانيا عن دعمها للحكومة النيجيرية، رغم موقف بعض الدول، ككوت ديفوار، والغابون وفرنسا الجنرال دكول، المؤيدة للانفصال.

  وقد ساهم هذا الموقف في ربط البلدين بعلاقات سياسية كانت مفيدة في مواجهة الكثير من القضايا في الإقليم وفي القارة، وخاصة في النضال لإكمال تحرير القارة من الاستعمار والتفرقة العنصرية.

وبعد انتهاء الحرب كان الكثيرون في الدول الإفريقية التي وقفتْ ضد انفصال ابيافرا ينتظرون مساعدات من هذه الدولة النفطية، إلا أن الجنرال يعقوبُ ﮜون، خيّب تلك الآمال، بإعلانه أن حكومته ليست في وارد مساعدة الغير، لأنها خارجة من حرب أهلية وتحتاج إلى كل مواردها. وقد قيل إن موريتانيا، لذلك السبب، قررت إغلاق السفارة، التي كانت مكاتبُها من أحسن مثيلاتها، لتصبح للجزائر.

 وكانت مصر والجزائر إلى جانب حكومة لاكوص أيضا، وساعدتاها عسكريا بالطائرات والطيارين. وقد استغربتُ أن السفير الجزائري ميهوب ميهوبي في لاكوص، لم يكن على علم بتصريح شهير لرئيس وزراء إقليم نيجيريا الشمالي محمدُّ بلُّ، الذي قتله انقلابيو الجنرال إيرونتسي.

فقد قال بلُّ بعد تفجير فرنسا لقنبلتها الذرية في رﯖـان بالصحراء الجزائرية سنة 1960: لو كانت الأمة الإسلامية بخير لأعلنا الجهاد لإخراج فرنسا من أرض المسلمين.

وخلال فترتي، اندلع النزاع الموريتاني السنغالي، الذي تعاملت معه الحكومات التي كنت معتمدا لديها، بمسؤولية وتوازن، وبلفتة نيجيريا وتوغو بالمساهمة المالية في أعباء التكلفة الإنسانية للنزاع، وبحسن معاملتهم لجاليتنا.

وقد تعاملتُ إعلاميا مع الأزمة بنفس الطريقة التي اتبعتُ في ليبيا حول النزاع الصحراوي، حيث اعتبرت أن دور السفير إطفاءُ الحريق وليس صب الزيت عليه. إذ أحجمت عن توزيع البيانات الواردة من الخارجية والصادرة في أغلبها عن وسائل إعلامنا، إلا فيما يتعلق بأمور جوهرية مثل ادعاء السيادة على نهر السنغال، والوصاية على سكانه، ولكني أشرح الحالة بشكل دوري مباشرة للمسؤولين في البلاد المعتمد لديها، وللزملاء الدبلوماسيين، وأرفض المقابلات التلفزيونية والصحفية، حول الموضوع، بينما قمت بها حول سياسة موريتانيا عامة وفي إفريقيا، لا سيما دورها في مجموعة غرب إفريقيا التي كانت من المؤسسين لها، وعن  التعاون العربي الإفريقي. وقد أبلغتُ بذلك وزير الخارجية عندما زارنا.

   ومن حسن الحظ، أن السفير ﭽـاتا سفير السنغال قد قرر التصرف بنفس الطريقة، كما أبلغني في حفل بالسفارة السعودية، فلم ندخل في حرب إعلامية، كما كانت الصحافة النيجرية تريد.


إشعاع موريتانيا الديني والثقافي


يظل أهم رأس مال لنا في العالم العربي وإفريقيا: الدينُ الإسلامي واللغة العربية، ودور علمائنا ومواطنينا بشكل عام كحمَلة لهذه الرسالة.

لذلك كنت دوما أعطي هذا الأمر ما يستحقه من اهتمام، وأشجع كل جهد ينصب في ترسيخه وتجديده.

ففي ليبيا التي كانت تمر بها طريق ركب الحج من ودان وشنقيطِ وتشيت وولاته، وغيرها من المناطق، وجدنا العديد من آثار الدعاة الشناقطة.

فقد طالعت مخطوطات في أحد مساجد العاصمة من العهد التركي، تضم أشاء عن موريتانيا، لكنها نقلت أو ضاعت عند توسيع الساحة الخضراء، من بينها رحلة الطالب أحمد بن طْوير الجّنة، ولم يسمح لي الوقت بالبحث، الذي إن قيم به لوُجد العديد من تلك الآثار، خاصة الفتاوى ورسائل الحجاج، الذين كان لهم مريدون وتلامذة، شرَح أحدهم بعض كتب سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم.

ومن أشهر الشيوخ في العصر الحديث الذين تركوا أثرا بليبيا، الشيخ محمد الأمين بن زيني القلقمي الشاذلي، الذي خلف مريدين وتلامذة، في مدينة أباري بالجنوب الليبي، كان منهم سفيران في الخارجية من عائلة الحُضيري، وسنعود إلى ذلك لاحقا.

  وفي ليبيا قررتْ وزارة التعليم سنة 1976 أن كل من يحفَظ القرءان الكريم يعامَل كحائز على شهادة جامعية، فاستفاد عدد من الموريتانيين، الذين كانوا عمالا يدويين أو حراسا.

   ومرة كلمني بالهاتف ضابطُ شرطة في مطار طرابلس الدولي، ليسألني عن شخص قال إنه موريتاني، فقلت له هل يحمل جوازا؟ فرد بالإيجاب، فقلت ما الإشكال؟ قال إن الجواز مكتوب عليه باللغة الأجنبية، ثم أننا عندما سألناه، هل يحفظ القرءان، قال لا، وذلك مصدر شكنا في هويته. هذه هي النظرة التي ظلت سائدة في الكثير من الدول العربية وفي إفريقيا عن الموريتانيين.

وسمعت الرئيس الأسد مرة – في تعليق على من يشكك في هوية موريتانيا ويربطها ببعض دول شرق إفريقيا، المنضمة إلى الجامعة العربية – سمعته يقول: إن من يزعم ذلك جاهل بالشناقطة ودورهم العلمي.

  وفي الأردن، عندما زرت مدير ديوان الملك حسين الدكتور أحمد اللوزي، قال لي: سعادة السفير، ذكّر جلالة الملك أن الشناقطة هم من أدخلوا الإسلام إلى الأردن.

 فقلت: أنتم الأسبق، ومهد الفتح. وذكرى شهداءِ مؤتة من الصحابة عليهم رضوان الله، محفورة  في ذاكرة كل مسلم.

   وأردف اللوزي قائلا: عند وصول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (يعني محمد الأمين بن زيني الذي تحدثنا عنه سابقا) في خضم معارك الحرب العالمية الأولى، كان البدو الأردنيون يضعون الصلبان على خيامهم. ولعقود الزواج، وترأس حفلات العقائق، يبعثون الفرسان بحثا عمن يحفظ فاتحة الكتاب، للقيام بهذه الشعائر. وكانت القبائل تتصارع بينها، فأوقفها الشيخ، حيث استقبل أبناء المتحاربين يخفُرهم في حضرته، ضمانا لاستمرار السلام؛ وقد أقبل الناس عليه لتعليم أولادهم، وكنت أول من كتب عنه.

ويشكل تلاميذ الشيخ محمد الأمين المجموعة الشنقيطية الأولى التي توطنت الأردن وأضَنَه في تركيا، بينما كانت المجموعة الثانية هي التي جاءت مع الأمير عبد الله بن الحسين، من الحجاز؛ وأبرز رجالها الشيخ محمد الخضر بن مايابى.

 وكل هؤلاء موجودون في الأردن ولهم صلاة مع أهلهم في موريتانيا، وأضنه في تركيا.

**

في نيجيريا، يلعب المسلمون دورا قياديا، بتصدرهم المشهد السياسي داخل الأحزاب السياسية الرئيسية، في الجيش، والأعمال، يعلنون على الملأ الاعتزاز بدينهم، والاعتداد بأنفسهم، لذلك كان من الطبيعي أن أوليهم الاهتمام، وأربط صلات بهم، وبمشايخ الطرق الصوفية القادرية والتجانية، إضافة إلى أمير سوكتو، الذي تطرقت معه إلى الحديث عن الطرق الصوفية ودورها في تعزيز العلاقات بين الشعوب، ومن ثم الدول، ومنه الطريقة القادرية الكنتية التي كان يتبعها أجداده، من آل فودِيَّ.

 وكما هو معلوم، فإن عددا من ولايات نيجيريا تطبق الشريعة حتى في الحدود، وتنتشر في الولايات حتى ذات الأغلبية غير المسلمة المعاهد الإسلامية مثل آبيووكوتا في الغرب حيث معهد زليخه الذي أقامه رجل الأعمال والسياسي الثري أبيولا، والذي حدثني سلفي الشيخ سيدي أحمد بن بابا مين أنه يضم ألفي طالب؛ وفي لاﮜوص كانت هناك مدارس إسلامية أهلية لتعليم القرءان الكريم والفقه للناشئة، من أشهرها مدرسة الشيخ سعد زغلول، الذي يشكل احتفالُها السنوي بتخريج تلامذتها مناسبة مؤثّرة، أحرِص على حضورها مع السفراء المسلمين.

وقد أبلغني سلفي أيضا أن وزير النفط الشهير، رِلْوانُ لقمان، حفظ القرءان على يد الشيخ بابا أحمد الموريتاني، المعروف بنشره التعليم العربي الإسلامي. وخلال فترتي كان وزير النفط  يحفظ القرءان أيضا ويصلي التراويح في جامع مدينته المختلطة بين المسلمين وغيرهم، في ولاية باوشي.   


العلاقات مع الجاليات الموريتانية


كانت الجالية الموريتانية في طرابلس تتشكل من الطلبة والعمال فقط، الذين كنا على صلات مستمرة بهم، لحل مشاكلهم الكثيرة، وبالذات مع شركات الإنشاء، بسبب رخص إقامتهم وتحويل أموالهم، وهو ما سوّته اتفاقية العمل والعلاقات القنصلية بين موريتانيا وليبيا، والتي تجسدت في بطاقة قنصلية اعترفتْ بها السلطات الليبية، تُعفي حاملها من الجواز، ومن ثمّ فتح حساب في البنك وسحب العملة الصعبة.

وفي سوريا لا يوجد غير الطلبة، وعلاقاتنا بهم طبيعية باستثناء الاحتجاج على تأخير المنح، وهو أمر متوقع وروتيني.

وفي الأردن، لم يكن هناك إلا الشناقطة الذين تحدثنا عنهم، وهم مواطنون أردنيون، إلا أن ذلك لم يتعارض مع تعلقهم ببلدهم الأصلي، ممّا يعبرون عنه بالصِّلات التي يربطونها مع السفارة ومسؤوليها.


التعامل مع بعض المفاجئات


الأولى، كانت سنة 1979 عندما اتصل بي باكرا القائم بالأعمال الأمريكي "وليام إيـﯖلتون"ـ الذي عمل في الستينات بسفارة أمريكا بنواكشوط - ولمّح إلى أنه يفكر في الالتجاء إلى السفارة الموريتانية، في حالة وصلت المظاهرات المنادية بالموت لأمريكا إلى سفارته، فرحبت بذلك، وأبلغت حراس السفارة. لكنه في النهاية خرج من الأبواب الخلفية لسفارته دون أن يلحق به أذى.

وقد منعتني زحمة المرور من أن أتصل بوزير الخارجية أحمدُ بن عبد الله، عضو الوفد المرافق لرئيس الوزراء محمد خونا بن هيداله الذي يقوم بزيارة ليبيا، ولم ألحق بالوفد إلا وهو عند باب مكتب القائد الليبي.

 وقبل بدء المقابلة، كان الجو متوترا في الجانب الليبي، بسب المظاهرات تلك، وكنت أشعر بالخوف، لأنني شاهدت طرفا منها. فاغتنمت الفرصة، وقلت للعقيد القذافي "الأخ القائد إن المتظاهرين قريبون من السفارة الأمريكية، وهذا أمر خطير، لأن هذه السفارة تحت حمايتكم، والعاملون فيها ضيوفُكم". فرد قائلا بنبرة استغراب، لكنها ودية "وما دخل موريتانيا في ذلك؟"قلت له محاولا تلطيف الجو "إنكم وضعتم سفارتنا بين السفارتين الأمريكية والروسية، ولا أعتقد أن ذلك مجردَ صدفة". وفي الحال، وجه حديثه إلى أمين الاتصال (سكرتيره) عبد المجيد القعود، ورئيس مرافقيه العسكريين، وقال لهما بحزم "أوقفوا هذه المظاهرات عند حدها، ولا يمسن أحد أرواح أو ممتلكات الأمريكيين بسوء."

وجرى هذا كله بحضور رئيس الوزراء وأعضاء الوفدين، دون أن يتدخل أحد منهم.

   الثانية، كانت سنة 1980، عندما احتمى حوالي أربعين سنغاليا بمكاتب السفارة في طرابلس، هربا من أحد مواطنيهم الذي غرر بهم عندما استجلبهم للعمل، كما يقولون، ثم اكتشفوا أنه يسعى لتجنيدهم. وقد قضينا يومين من المفاوضات مع أمين الخارجية، عبد السلام التريكي، لتحمل تسفيرهم إلى بلادهم، وهو ما فعلوه بقطع تذاكر لهم عبر باريس، بينما أعطيناهم تصريح مرور جماعي من السفارة يضم أسماءهم وجنسيتهم السنغالية، وعليه تأشيرة السفارة الفرنسية؛ وكان القرار النهائي بأمر من العقيد القذافي، بعد ما اتصلنا بالوزير المكلف بإدارة مكتبه.

وقد أخبرني السفير التقي بن سيدي أن رئيس الحكومة عبدُ جوف استدعاه ليُبلغ الرئيس الموريتاني بالامتنان لهذا الموقف، بينما لم أتلقّ ردّ فعلٍ من وزارة الخارجية.

الثالثة، سنة 1982، وهي لجوء حوالي ستين مقاتلا من أزواد بقيادة إياد آػ غالي إلى السفارة في دمشق بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حيث كانوا ضمن مجموعة أرسلتها ليبيا إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، لمواجهة الجيش الإسرائيلي، فاستُشهد بعضهم وأُسر الآخر، وأعلن الباقون العصيان، فنقلتهم الجبهة إلى دمشق، ثم تسللوا إلى السفارة طلبا للحماية.

وقد زار السفارة مبعوث من زعيم الجبهة أحمد جبريل يطلب إعادتهم، فرفضنا. وقد تمكنا من ترتيب سفرهم إلى الجزائر بالخطوط الجوية الجزائرية، بعد أن وافق السفير الليبي على دفع كلفة التذاكر، وزودناهم بوثيقة مرور جماعية مكتوب عليها أنها صالحة إلى الجزائر والعودة إلى أهلهم، كما فعلنا بالسنغاليين في طرابلس؛ وهنا أيضا لم نتلق رد فعل من الوزارة.

كنت في مواجهة أحداث طارئة كهذه أتصرف كمسؤول كامل السلطة، وأسعى إلى حل المشكلة في مهدها، ثم أبعث تقريرا بما جرى، وإن استعصت، أُبلغ الوزارة، مع اقتراح الخيارات  المتاحة.    

ولم أكن أرى من الضروري إبلاغ الوزارة باحتجاجات الطلبة مثلا، إلا عندما صار الأمر حدَثا، تبثه الإذاعات الدولية ك RFI، لكنني لم أتسبب في قطع منحة طالب خلال فترة انتدابي.


الحياة الدبلوماسية


يشكل أعضاء البعثات الدبلوماسية مجتمعا داخل بلد الاعتماد، له حياته المتميزة، وأسلوبه الخاص في التعامل بين أعضائه ومع محيطه، يرتبطون بعلاقات الزمالة، ويحرصون على تبادل الآراء والمعلومات، رغم التنافس في الاستئثار بها؛ ومع ذلك، فلن يبخل أحد منهم على زميله بتزويده بالمعلومة حسب الظروف، وفي الوقت المناسب له، والذي هو عادة بعد أن يكون قد أبلغها إلى دولته.

وكما هو معروف، فتوجد في كل مجموعة دبلوماسية فرق تمثل القارات، كالمجموعة العربية، والإفريقية والغربية والاشتراكية أيام الحرب الباردة، وهو ما انتهى مع انهيار المنظومة الاشتراكية؛ ثم أضيفت المجموعة الإسلامية بالنسبة للأمم المتحدة ومنظماتها، مع الإشارة إلا أن في اليونسكو مجموعة عربية إفريقية واحدة، ولكل مجموعة عميدها؛ وفي طرابلس ودمشق لم نشكل فريقا عربيا بشكل رسمي، لأنه قد لا يُستساغ في بلدين يَعتبران نفسيهما موطن العرب كلهم.

  وعلى كل، فسفراء الدول الكبرى هم الأكثر اطلاعا على شؤون البلد المعتمدين فيه، مع استثناءات، ترتبط بمكانة العلاقة بين بعثة مّا، ودولة المقر، والتي قد تكون سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو هي مجتمعة كما بين سوريا وإيران؛ وعلى كل، فشخصية الدبلوماسي هي المحدد النهائي لمكانته في بلد المقر وبين زملائه.

ويكون للمجموعة الدبلوماسية دائما مرجع، تلجأ إليه في الكثير من الأمور الخاصة بحياتها، هو العميد، الذي يسعى دوما أن يكون في خدمة زملائه، واضعا تحت تصرفهم تجربته ومقدما آراءه في الشؤون التي يوكلونها إليه.

  في طرابلس، كان العميد سفير مملكة بلجيكا، الذي قدم لي عرضا عن ليبيا وسياستها الخارجية، وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وشرحا مفصلا لحالة الإدارة، وبصورة خاصة وزارة الخارجية، وما يراه من أسلوب يمكّن من فهم الليبيين والتعامل معهم. كما قدم عرضا عن المجموعة الدبلوماسية، والمكانة التي تحتلها والحدود التي تقف عندها في علاقاتها وحتى في تحركها، ليخلص إلى أن حالة الغليان الثوري، لا تتلاءم مع إقامة الأندية وتنظيم الحفلات، وحتى التزاور بين العائلات، عكس ما هو الحال في عاصمة الأمويين بمجتمعها المتعدد والمنفتح.

  وقد شرح لي صعوبة الحصول على الفنيين والعمالة المنزلية، مع الحاجة إليهم بسبب سوء الخدمات المتمثلة في الانقطاع المستمر للكهرباء والماء، وأعطاني صندوق عدّةٍ، يحتوي على المفاتيح الضرورية لإصلاح الأعطال الكهربائية، وإصلاح مفاتيح الأبواب، باختصار: صندوق كهربائي وسمكري متكامل، قائلا إذا لم تكن تعرف فلتتعلم.

رغم أن لا شيء مُعدا للحماية الأمنية، فكنت يقظا بهذا الشأن، فأتنقّل داخل المدن بيقظة، وأراقب الناس عندما أكون في الحفلات الدبلوماسية، خشية هجوم إرهابي، لأن بعض العواصم العربية تعرضت لذلك، ناهيك عن العواصم الأجنبية، التي شهدت هجمات ضد إسرائيل وأمريكا، وغيرهما، كما حدث لسفيرنا في باريس.

   وكنت لا أرتدي إلا اللبسة المدنية، ولا أستعمل لبسنا الوطني إلا في مناسبة حفل عيد الاستقلال. وفي الحفلات الدبلوماسية - التي يُحتمل أن يستهدفها مهاجمون -  أرتدي عادة داكنة، وقميصا أبيضَ نصف كم،  ورُبطةً سوداء، للتخلص من السّترة الخالية الجيوب، وأتحول إلى نادل، بيده صينية وأكواب. كما لا أقف ولا أجلس داخل بيت إلا مقابل مدخله.

في دمشقكان العميد ممثلَ بابا الكنيسة الكاثوليكية بروما، وكان شديد الاطلاع على أحوال البلد؛ وانْصب حديثه على سوريا ولبنان، وخاصة الوجود السوري فيه، وذهب أبعد في حديثه عن الرئيس الأسد، فقال "إن البلاد خارجة من تمرد خطير قام به الإخوان المسلمون، وأن من أسباب الانتصار عليهم قرار الرئيس بالتخلي عن ممتلكاته وإهدائِها للدولة، وهو الوتر الذي كانت تلعب عليه المعارضة المسلحة.

بعدها هدأت الأمور وعاد الرئيس إلى تقمص شخصيات القادة التاريخيين المحبوبين بين العرب، كجمال عبد الناصر الذي كانت نقطة قوته خَطابته وعفة يده، وبساطة حياته، في المأكل والملبس".

**


العلاقات الرسمية والاجتماعية


   مما وضعناه نصب أعيننا في العلاقات مع البلاد التي اعتُمدنا فيها، إعطاء عناية لربط الصلة مباشرة مع رؤساء الدول، ومع الوزراء وأصحاب النفوذ، ولم نقبل التنازل عن المكانة التي يحتلها مبعوثو رؤساء الدول لدى نظرائهم، ولا عن المساواة في التعامل مع بقية المبعوثين الدبلوماسيين، كما تكفل المعاهدات والتقاليد الدبلوماسية؛ فلم نرض يوما باستقبال مبعوثي رؤسائنا من غير نظرائهم، أو تسليم الرسائل لغير الموجهة إليهم، إلا في الحالات القاهرة، ولم نغب يوما عن الدعوات الرسمية لأي مناسبة كانت، مع الحرص على تحية الرئيس والوزراء، وربط الصلة بهم.   

 وفي الوقت نفسه كنا نعتني بالعلاقات مع قادة المجتمع ورموزه؛ وكما هو معروف فإن جزءا أساسيا من العلاقات الاجتماعية لا يمكن أن يقوم به إلا النساء، لذلك يأتي دورهن مركزيا في خلق الصداقات وتنميتها، وفرصة للتثقيف والتعلم، والانفتاح على تقاليد وعادات العالم، التي تَبرع النساء في إيصالها.

  وما أن وصلنا دمشق حتى انخرطت زوجتي في نسج علاقات، صارت متميزة مع زوجات كبار المسؤولين، كعبد الحليم خدام وزير الخارجية، وخليفتهِ فاروق الشرع، وعدنان الدباغ وزير الداخلية، ثم خليفته بعد موته ناصر الدين ناصر، ووزير التموين، وأستاذات في الجامعة، وزوجات مراسلين صحفيين وتجار، وأصبحت عضوا نشطا في المجموعة التي تترأسها زوجة خدام.  

   وقد انضمت إلى هذه المجموعة زوجات عدد من السفراء، نذكر من هن، السعودية والكويتية والقطرية والليبية، والسودانية، والفينزويلية والتشيلية والإيندنوسية والهندية، والألمانية والرومانية؛ وزوجة الزعيم الفلسطيني المغتال أبو إياد، وزوجات عدد من قادة المجتمع؛ وليس هناك أثر لجهل اللغة الأجنبية في ربط العلاقات، لأن معظم السيدات الأجنبيات يصطحبن مترجمات.

 ولم تكن الدول الإفريقية في جنوب الصحراء ممثلة في دمشق.

  يحتل العمل الخيري الجزء الأكبر من عمل المجموعة، حيث لبعض عضواتها جمعيات خيرية، تُنفق على دور الأيتام والمحتاجين بشكل خاص، عبر التبرعات وريع البازارات.

  وقد توسع هذا النشاط في أديس أبابا عندما انتقلنا إليها، وكانت تشارك فيه جميع السفارات المقيمة؛ ومما تغير في ما كان قائما قبل وصولنا إلى الحبشة - حول توزيع الأموال المحصلة من البازارات السنوية والتبرعات - أن زوجات السفراء المسلمين فرضن إعطاء نسبة إلى الفقراء المسلمين الذين كانوا محرومين من قبل، فصُرفت في الكفالات المدرسية للأيتام ومساعدة المعوزين.

وكانت عيشه تعطي عناية خاصة لتعلّم فن الطبخ والتدبير المنزلي، الذي تتفنن عائلات الدبلوماسيين فيه، وفي الوقت نفسه تهتم بالتعريف بالأطباق الموريتانية ضمن الأطباق الإفريقية، فنَشرت مع زميلاتها كتيبات عنها باللغات المتداولة، كما اهتمت بفن ترتيب المآدب. إذ السيدات في عالم اليوم، لا يكِلن على أحد طعامهن، ولا تدبير منازلهن؛ إضافة إلى ذلك كانت زوجات الدبلوماسيين يعطين اهتماما لتعلم اللغات.

   وقد ذكر لي محمد أحمد المقرحي  أول سفير ليبي في نواكشوط أنه كان يشفق على زوجته من كثرة ما تقوم به من عمل في البيت، فجاءها بطباخة سنغالية، فغضبت وقالت: إذن أنا فشلت في القيام بدوري، وشرعت في ترتيب أغراضها لتعود إلى ليبيا.

**

 وبالنسبة للهدايا، فهي مطلوبة، وأنفس ما قدمتُ منها مصحفا بخط اليد لأحد الرؤساء، ولم تحظ سفاراتنا بالتوزيع الذي كان يجري على السفارات في الغرب لمنتجات الصناعات التقليدية كالزرابي، لتقديمه هدايا.

والمناسبات الأكثر شهرة لتقديم الهدايا أعياد رأس السنة الميلادية؛ وبما أننا لا نتعامل مع المشروبات الروحية، فكنا نوزع الأقلام والعطور، والقمصان وربطات العنق ...  على مسؤولي وموظفي الجهات التي نتعامل معها كالخارجية والتعليم العالي، والمطار والجمارك، والبنوك، وعلى الصحفيين المحلين والمراسلين.

وكانت السيدة نجاح العطار وزيرة الثقافة محبة للشوكولا السويسرية.

  أما الولائم، فنحضّرها دوما في المنزل، خاصة في دمشق وأديس أبابا ولا تكلف أكثر من ثلاثين ألف أوقية للوليمة بقيمتها آنذاك، لأن اللحوم  لا تمثل فيها إلا نسبة ضئيلة لغلائها، عكس عاداتنا، بينما نعطي أهمية لوجباتنا الوطنية ككسكس بدهن الحيوان المرغوب جدا لدى المغاربة عامة والجزيرة والخليج، وڇيبُ نار لضيوف الغرب الإفريقي، ويتألف مدعوو الوليمة الصغيرة عادة من عشرة أشخاص إلى اثني عشر، ويحبَّذ أن يكون ضمنهم وزير أو نائبه  وسفير، وموظف دولي، وأستاذ جامعي وصحفي، مع زوجاتهم إن أمكن، حيث يحضَّر كل شيء في المنزل، وفي حالات خاصة نقيم الوليمة في المطعم.

وقد تعودنا على إقامة حفلة شاي شهرية في أغلب الأحيان، لا تُقدّم فيها إلا الفطائر والمكسرات والشاي والقهوة والعصائر، يحضُرها مجموعة قد لا تتجاوز اثني عشر شخصا، يُختارون من فئات المجتمع الذين تحدثنا عنهم سابقا، ولم تكن تكلف مثل هذه الدعوة أكثر من عشرة آلاف أوقية في ذلك الوقت.


**


متفرقات


ومما لم أستفد منه خلال مهمتي في الخارج الانتماء إلى النوادي الرياضية، وإتقان لعبة كالتنس، فلم أكن أعرف إلا السباحة؛ بينما كان اثنان من أسلافي في لاﯕوص من اللاعبين المتميزين:

الأول: أحمد بن اﭽـه، الذي حدثني عن أنها كانت مدخله إلى تنفيذ قرار الإفراج عن أحد رجال الأعمال الموريتانيين البارزين، وذلك من خلال معرفته في ملعب التنس لضابط نافذ في نيجيريا: هو حسن كاتسينا.

 الثانيالشيخ سيدي أحمد بن بابا مين، الذي من المؤكد أنها مهدت له في نجاحاته في العواصم الرئيسية في إفريقيا والعالم العربي وآسيا: لاﯖوص، والجزائر، وأبوظبي؛ وبَجِينـػ، التي فَتحتْ فيها لعبةٌ كرة الطاولة الباب أمام العلاقات الأمريكية الصينية، فما بالك بكرة السلة الصفراء الملساء، ومضرِبِها المنمق بخيوط تتفوق في متانتها وزهْوها أوتارَ التيدينيت، ثم لعبة الـﮜولف التي تفرض على أي خصم التنازل، من شدة تعب المشي والبحث عن الكرات الضائعة.

**

  أما تجربتي في إثيوبيا، فكانت من نوع آخر هي العلاقات متعددة الأطراف، لوجود منظمة الوحدة الإفريقية واللجنة الاقتصادية لإفريقيا، وغيرها من المنظمات الجهوية، لكنني ألتمس العذر في عدم الحديث عنها رغم طول المدة فيها:  خمسة عشر عاما، حيث لا يسعنا الوقت. 

**

خاتمة

حبى الله موريتانيا بميزات إيجابية، تؤهلها للدور الذي تلعبه في الإقليم وبين الأمم، فتركيبتها السكانية تجعلها نموذجا مصغرا لإفريقيا، تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي، وبعلاقات تاريخية: ثقافية واجتماعية مع محيطها الجنوبي والشمالي وصيتٍ حسن في المشرق العربي؛ أرضُها تختزن ثروات طبيعة مرغوبة، وتنتشر فيها ثروة حيوانية مهمة، وعلى شواطئ نهرها وفي كل ولاياتها مسطحاتٌ زراعية، قابلة للتمدد، ترتبط بعلاقات دبلوماسية وتجارية وثقافية مع أهم دول العالم ومجموعاته المختلفة، مما أوجد مصالح حيوية تُشكل صيانتُها وتنميتُها أولوية رئيسية.  

   وقد أبلت سياستنا الخارجية الوليدة بلاء حسنا، في استغلال هذه الميزات، رغم شح الكوادر والموارد، لكن الحاجة كانت ماسة منذ نهاية القرن الماضي إلى تطوير السياسة الخارجية حتى تلائم المرحلة، فتوسِّع دائرةَ التحرك ليغطي المجالات الحيوية في العلاقات الدولية: الثقافة، والتعليم، والتكوين، والصناعة والتجارة، وتكونَ السفاراتُ المحرك الرئيسي لهذا القطار، بعد أن تغيرت جذريا مهمتها، إذ لم تعد الواسطة الحتمية للعلاقات بين الرؤساء والوزراء، المرتبطين اليوم بينهم عبر وسائل الاتصال الحديث؛ وإنما جهازا، القائمون عليه خبراء في جلب المنافع، بتسويق ثقافتنا وإمكاناتنا الاقتصادية، ومشاريع الحكومة في جذب الاستثمار وتشجيعه.

**

 أخيرا،أنقل إلى السيدات السفيرات والسادة السفراء، حكاية سمعتها في ليبيا، وهي أن العقيد القذافي اجتمع مع عدد من الوزراء الجدد، كان بعضهم سفراء، فسألهم أي المنصبين أفضل، فأجابوا: الوزارة، إلا احدهم: عبد المجيد الزنتاني، الذي قال: هل تريد الصراحة الأخ القايد؟ فقال نعم.

   فقال الزنتاني: لا وجه للمقارنة، فالسفير أمة وحده، لا يخضع للرقابة اليومية، يمثل رئيس الدولة، وسيارتُه فارهة، يرفرف عليها علم، يركب في المقاعد الخلفية، ويَفتح له السائقُ الباب، ولا يُدعى إلا بصاحب السعادة.

   أما الوزير، فهو تحت الرقابة الدائمة، لا يعرف متى يُستدعى إلى القصر، وهل لتسريحه؟ وسيارتُه من نوع الحمامة (ابّيجو) كغيره من موظفي الدولة، ويجلس جنب السائق، ويخاطبه الناس بالأخ.

**

قبل الفراق،أدعو الله العلي القدير أن يرحمنا ويرحم والدينا وكلّ من ذكرناهم في هذه الورقات من المسلمين، وأن يوفقنا جميعا إلى ما فيه خير شعبنا وبلدنا.

 

 



[1]جرى هذا الحديث بمنزل السفير المصري بتونس محمود التهامي سنة 1970، حيث دعاني للعشاء مع السفير في تونس سيدي بونا بن سيدي، أما الضيف الآخر فهو صاحب الحكاية الذي كان في القاعد، وكان التهامي أول سفير لبلاده في نواكشوط حيث ارتبطنا بصداقة.

 


حلقة نقاشية عن كتاب الوزير

$
0
0

حلقة نقاشية عن كتاب الوزير 

تجربة وزير مدني في حكم عسكري

لمحمد محمود ودادي



نظم المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية حلقة نقاشية بفندق الخيمة، يوم الجمعة 28 جمادى الأولى 1431 /7 ميه 2010

وقد ترأس الحلقة د. ديدي بن السالك، يعاضده كل من الأستاذ سيد أحمد بن الدي وزير سابق وسفير سابق، د. محمد محمود بن محمد المختار، والأستاذ عبد الله بن محمدُّو، الذين قدموا عروضا عن الكتاب، تناولت القضايا التي طرحها، محللين المرحلة التي صدر عنها الكتاب.
وقد كانت فرصة للفيف من الأساتذة الجامعيين والسياسيين والصحفيين، والدبلوماسيين والكوادر من رجال ونساء، بإبداء رأيهم في الكتاب، وفي الأنظمة المتعاقبة التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال.
  ونذكر من المتحدثين على التوالي: الأساتذة آنفي الذكر الذين أداروا الجلسة، وكلا من: د. محمد بن بوعليبة، صدّافة بن الشيخ الحسن قيادي في حزب التكتل، حمّه بن آدبه أستاذ، محمد فال بن عُمير مدير صحيفة "لاتريبين"محمد عبد الله بن بليل كاتب صحفي، جميل بن منصور رئيس حزب تواصل، محمذن بابا بن أشفغه مدير مكتب الجزيرة، سيدي بن الأمجاد كاتب صحفي، أ. محمدن بن إشدُّ محام، د. عبد السلام بن حرمة قائد سياسي، أحمد بن أحمد عبد وزير سابق، الإمام بن محمدُّ قيادي في التكتل، أ. محمد بن سيد أحمد رئيس منتدى بن خلدون، الددّه بن سيدي عالي رجل أعمال، إسلمُ بن محمد وزير سابق، أ. محمد عالي بن البشير أستاذ، أحمد بن سيدي بابا وزير سابق.
  وكان من بين الحاضرين أيضا العديد من الشخصيات الثقافية والسياسية والإعلامية، منهم: دحان بن أحمد محمود وزير سابق ومرشح سابق للرئاسة، صالح بن حننه مرشح سابق للرئاسة ورئيس حزب حاتم، محمد بن شيخنا مرشح سابق للرئاسة، أعمر بن رابح رئيس حزب الديمقراطية المباشرة، أ. محمذن بن باباه نائب رئيس التكتل وزير سابق، الشيخ سيد أحمد بن بابا أمين وزير سابق وسفير سابق، د.المحجوب بن بيه وزير سابق وسفير سابق، خدي بنت شيخنا وزيرة سابقة، محمد فال بن الشيخ وزير سابق، محمد سعيد بن همدي سفير سابق، محمد محمود بن المجتبى سفير سابق، أحمد بابا بن أحمد مسكه سفير سابق، سيدي بونا بن سيدي سفير سابق، منينه بنت عبد الله سفيرة سابقة، سيد أحمد بن مبارك قنصل عام، بله بن الشيباني قنصل عام سابق، أحمدو بن بوعليبة رجل أعمال، د. مصطفى سيدات ممثل منظمة الصحة العالمية السابق في مالي وتوغو، أحمد بن الوافي محام، حماه الله بن الرﮔاد محام، إبراهيم بن أبتي محام، محمد سالم بن الصوفي مراسل الجزيرة، باباه بن عبده رجل أعمال.
ونقدم لكم نص مداخلتي أستاذين ممن أداروا الجلسة وهما سيد أحمد بن الدّي وعبد الله بن محمدو.




بحث عن وزير في حكم عسكري
سيد أحمد بن الدّي

قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. صدق الله العظيم
تقديم كتاب: (الوزير، تجربة وزير مدني في حكم عسكري)
للأستاذ: محمد محمود ولد ودادي 

  طبع هذا الكتاب سنة 2008 من قبل الدار العربية للموسوعات ببيروت ويقع في 304 صفحات من الحجم المتوسط منها 202 من الصفحات هي صلب الكتاب و102 عبارة عن ملحقات وفهارس، ويتضمن:
-تصديرا للدكتور السيد ولد ابّاه 
-تمهيدا للمؤلف هو بمثابة مقدمة موجزة
-15 فصلا 
-9 ملاحق 
-فهرسا للأعلام البشرية
-فهرسا للأعلام الجغرافية ثم مجموعة من الصور 
وقد تناولت الفصول الخمسة عشر بالعرض المستفيض ما وصفه المؤلف بتجربته وزيرا للثقافة والإعلام والمواصلات، خلال سنة ونصف من ممارسة العمل في هذا القطاع.
وبالرغم من أن هذه الفصول ظهرت بعد إحدى وعشرين سنة من مغادرة المنصب الحكومي فإنها اقتصرت على الحديث عن هذه الفترة ولم تتطرق إلى ما بعدها، حتى ليخيل إلى القارئ أنها حررت يومئذ وبقيت مخزونة حتى تاريخ خروجها، ربما مصانعة أو تقية.
يبدأ الفصل الأول بدخول المؤلف في الحكومة دون إشعار مسبق، وكان في عطلة دبلوماسية داخل البلاد، حيث يصف المؤلف كيف علم بالأمر وكيف دخل على الرئيس، وما هي انطباعاته عن الجو الذي ساد اللقاء الأول، دون أن ينسى الحديث عن المكتب وأثاثه. كل هذا بطريقة سردية لاتخلو من تشويق.
ثم تناول المؤلف في الفصل الثاني مجلس الوزراء، كيف كان ينعقد وكيف كانت تتم مناقشة الأمور فيه، وكيف كان الوزراء يتصرفون، وكيف كانوا درجات في المراسم وفي الأهمية باعتبار انتمائهم للجيش أو للسلك المدني.
وفي الفصل الثالث يتحدث المؤلف عن الوزير، والهالة التقديرية التي تحيطه الناس بها، مع كونه لا يكاد يملك من الأمر شيئا، ويذكر عن نفسه أنه كان أكثر نفوذا وحرية في التصرف يوم كان مديرا عاما للإذاعة، منه بعد أن أصبح وزيرا للإعلام، محللا شخصية الوزير في أبعادها السياسية والإدارية وملامحها النفسية.
ويأتي الفصل الرابع المتعلق بظروف العمل والنشاط اليومي تكملة للفصل السابق.

ويستعرض المؤلف في الفصل الخامس حالة قطاع الثقافة والإعلام والمواصلات، شخّص فيه سوء أوضاعها ودركات انحطاطها، مما يؤسس للجهود الإصلاحية التي حاول القيام بها أثناء فترة التوزير.
ثم ركّز في الفصل السادس على الإعلام باعتباره واجهة الدولة ووسيلتها التواصلية بالآخرين، سواء في الداخل أو في الخارج، مما يتطلب جهودا مضنية وأفكارا خلاّقة بغية تلميع صورة البلاد، خاصة في المشرق العربي الذي لم يكن على تواصل كاف مع بلادنا.
ويواصل في الفصل السابع بعنوان "نحن والإصلاح"تحليلاته لأهمية التعامل مع مجتمع حديث العهد بالبداوة وما يستدعيه التحديث من جهود مع ضرورة المحافظة على الأصالة والقيم السامية.
ونعود مع المؤلف في الفصل الثامن إلى شؤون الوزارة وشجون الوزير في معاناته مع الديوان الرئاسي وكيف كانت تسير الأمور في هذا المرفق الحساس، مركزا على منهجية العمل أو على الأصح لامنهجيته، وكيف كان مدير الديوان يتصرف مع الرئيس من جهة ومع الوزراء من جهة أخرى.
وخلال الفصول الموالية (9 و 10 و 11) يحلل المؤلف سمات مجتمع نواكشوط وكيف بدأ نقيا بسيطا نظيفا في عقد الستينيات وما طرأ عليه من ظواهر سلبية خلال إحدى عشرة سنة (74 – 85) كان المؤلف خلالها سفيرا في ليبيا ثم في سوريا، مخصصا أحد هذه الفصول لمدرسة التملق التي كانت تُخرّجُ فئات المنافقين وجماعات الضغط، معرجا على القبلية والرأي العام المصبوغ بسيئات الفترة وبدع المدينة.
أما الفصل الثاني عشر فموضوعه يشبه تقارير عن مهمات قام بها المؤلف في الخارج كانت خاتمتها زيارة رسمية للملكة العربية السعودية أثارت بعض التعليقات لدى مستويات مختلفة من دوائر السلطة والرأي العام، وقد جرت بأيام قليلة قبل مغادرة الوزير للحكومة، وكانت هذه المغادرة موضوع الفصل الثالث عشر، حيث يسرد المؤلف قصة إشعار الرئيس إياه بخروجه من الحكومة وتعيينه مستشارا في الرئاسة، وكيف كانت هذه الوظيفة الجديدة عبارة عن بطالة مقنعة إذ لم يستشر إلا مرة واحدة، وعندما قدم تقريرا عن رأيه وجد أن القرار قد اتخذ عكسا لما كان قد اقترحه.
أما مشكلة الحكم والبدائل المتاحة فقد كانت موضوع الفصل الرابع عشر، حيث يحلل سياسيا وتاريخيا نظام الحكم منذ الاستقلال ثم خلال تسع سنوات من حكم الجيش، مبرزا غياب الثقافة المؤسسية والنزوع الجامح إلى الاستبداد.
وفي الأخير يخصص المؤلف الفصل الخامس عشر للعقيد معاوية ولد الطايع، حيث يتناول حياته ويحلل شخصيته بملامحها العقلية والنفسية، ويستعرض علاقته به منذ بداية الستينيات، وطريقته في الحكم بعد أن أصبح رئيسا للدولة، وتأتي هذه التحليلات مبطنة بالنقد رغم أن الرئيس ـ حسب تعبير المؤلف ـ ما زال يومئذ في شهر عسله مع الموريتانيين، وهو شهر استمر ثلاث سنوات تندرج فيها الفترة المتحدث عنها.
أما الملاحق الثمانية فهي من نتائج العمل الوزاري، تشمل دراسات وتقارير وتعليمات من صميم العمل الجاري، فهي إذن واجهة لحصيلة هذه الفترة.
كما تضمنت قوائم بالرؤساء والوزراء الأوائل منذ الاستقلال حتى 1990 وكذلك الوزراء في العهد المدني (1958 – 1978) وعددهم 79 ووزراء الحقبة العسكرية حتى 1990 وعددهم 82 خلال 12 سنة، وذلك قبل أن ينتهي الكتاب بفهرس للأعلام البشرية ومجموعة من الصور التذكارية مع بعض مشاهير العصر.
هذا تقديم موجز جدا لمحتوى الكتاب، وهو لا يغني في شيء عن قراءته. وسأحاول بعد القراءة السريعة التي قمت بها ـ نظرا لأنني لم أطلع على الكتاب إلا منذ أيام معدودة ـ أن أقدم بعض الملاحظات الأولية: 
الملاحظة الأولي
  قد يتساءل القارئ عن تصنيف هذا الكتاب، وأين يضعه في التصنيفات المعروفة. أفي خانة السيرة الذاتية، أم في ميدان التاريخ، أم في حقل التقارير الصحفية، أم هو عمل قصصي تتخلله تحليلات اجتماعية وسياسية اقتضتها ضرورة الفن؟
أعتقد أنه ليس متمحضا لشيء من هذا، بل هو مزيح من كل ذلك، فهو قصة وزير مدني في حكم عسكري، بما في المقابلة أو على الأصح المفارقة من إيحاءات. فصفة المدنية تقتضي الانفتاح والتحضر والمثالية والطموح إلى التحديث، مع الحفاظ على الأصالة، بينما يوحي مدلول العسكرية بالأوامر السلطوية الجافة، والإيقاع الرتيب، وقِصر النظر والخشونة والقلق والتوجس من كل ما هو جديد، والانفراد بالسلطة والاستبداد بسياسة كل القطاعات، خاصة في مجال الإعلام الذي تضاهي أهمية المسؤولين فيه قيادات الجيش الوطني، حسب ما يرويه المؤلف عن الرئيس.
ولعل هذا التعارض في التعامل والممارسة بين طرفي هذه الثنائية هو ما أعطى الكتاب شحنة من التشويق، عضدها النفس السردي والروح الساخرة وأكسباها نكهة لذيذة.
الملاحظة الثانية
يبرز في هذا الكتاب ثلاثة أشخاص هم أبطال القصة، إن جاز لنا أن نصفها كهذا وهم:
1.المؤلف وهو الشخص المحوري في جميع مفاصل الكتاب، سواء في عرض التجربة التي خاضها أثناء سنة ونصف من العمل الحكومي، أو في استطرادات تتعلق بذكريات سابقة على هذه الفترة، أو بتجارب أخرى عندما كان في الإذاعة والبرلمان والسلك الدبلوماسي. ولا تخلوا هذه المحورية من مبررات معقولة، إذ أن موضوع الكتاب هو الوزير أي المؤلف.
2.الرئيس معاوية ولد الطايع
  وهو يستمد دوره بل أهميته من أنه رئيس النظام العسكري، والشريك الأعلى في ثنائية التعامل مع الوزير، وكانت خيوط صورته مبعثرة في ثنايا فصول الكتاب، وقد اجتهد المؤلف في تجميع أجزاء هذه الصورة بجميع أبعادها وفي تعامل صاحبها مع الوزراء وغيرهم من الناس.
 وقد لخص السيد ولد ابّاه، مقدم الكتاب هذه الملامح التي استجمعها من محتويات الكتاب بقوله في المقدمة: لقد أصبح الضابط رئيسا مخوفا استمرأ تدريجيا لعبة الزعامة وأوهام السلطة، واتخذ على عادة الحكام البطانة والحاشية، وتعود لغة التقديس والتمجيد، واحتفظ في يده بكل خيوط القرار وتفصيلات الحياة السياسية والإدارية (ص8) ويكمّل المؤلف ـ في معرض الحديث عن اختلال النظام في الديوان الرئاسي قائلا: "فمن البيّن أن التنظيم القائم لا يمكّن رئيس الدولة من الاستغلال الأمثل لوقته ومعالجة المشاكل اليومية، إن كان يرغب في ذلك، كما لا يعطيه حتى قسطا من الراحة البدنية والذهنية الضرورية، رغم كسله، حيث لا يأتي لمكتبه في وقت محدد، بسبب السهر الذي يدمن عليه ويصبح جزءا من حياته، وهو في ذلك يشبه بعض قادة العالم الثالث الذين لا ينامون إلا عند انبلاج الصباح، خوفا من الانقلابات العسكرية" (ص95) كما يلخص طريقة التعامل مع الرئيس بقوله: "وأكثر ما يقلق المراقب الطبيعة العسكرية لأوامر الرئيس التي لا مجال لنقاشها، كما يقول زملاؤه الذين يذكّرون بنزوعه المبكر للاستفراد بالسلطة (ص 200).
هذا ولا يكاد القارئ يعثر على أية جوانب إيجابية لدى هذا الرئيس الذي هو كغيره لا يخلو من النصف المملوء للكأس.
3.رئيس الديوان: ويظهر في الكتاب بعباءة الحاجب الأعظم الذي يحجب الناس والمعلومات والتقارير عن الرئيس ويغربل كل ما يقدم إليه حتى لا يُظهره على ما لا يروقه.
فالرئيس دائما يرى أن كل شيء يسير على أحسن ما يرام، بفضل مدير الديوان، إضافة إلى خصلة التكتم التي كان يتحلى بها، مما أثار إعجاب الرئيس به وأكسبه ثقته الكاملة. وكان مدير الديوان يتظاهر في البداية بالتواضع، والبساطة والحياد في تقديم الآراء، لكنه بعد أن تمكن بسط نفوذه على الوزراء، حتى إنه أصبح يصدر الأوامر مباشرة إلى معاونيهم دون علم منهم. ولعل هذه الظاهرة تجسدت في الإعلام أكثر من القطاعات الأخرى. وللمؤلف مآخذ كثيرة على سير العمل في الديوان من حيث سوء النظام، والارتجال والإهمال والأخطاء البروتوكولية الفاحشة إلى غير ذلك.
وباستثناء الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه الذين كان غالبا ما يذكره المؤلف على سبيل المقارنة وتبيين الأشياء بضدها، فإن الأشخاص الآخرين المذكورين جاؤوا بصفة عرضية على طريقة الكومبارس في الأفلام السينمائية.
الملاحظة الثالثة:
لا شك أن المعلومات الواردة في الكتاب صحيحة وذات مصداقية إلا أن فيها تعميما لبعض الأحكام أحيانا.
مثال ذلك قول المؤلف في ص 38 "والأغلبية الساحقة من الوزراء من عهد الاستقلال إلى اليوم عُينوا دون معرفتهم ودون أن يخطر الأمر على بال بعضهم". 
  فأرى أنه لا بد من الاستدراك واستثناء الحكم المدني الأول فلم يكن الرئيس المختار رحمه الله يعين وزراءه عشوائيا، ولم يتول أحدهم منصبا وزاريا دون أن يُستشار ويقبل، ولم يغادر الحكومة دون أن يستدعيه الرئيس، ويشكره على جهوده طبقا لشريعة المجاملات والأخلاق النبيلة 
الملاحظة الرابعة
حول لغة المؤلف وأسلوبه:
لعل من مميزات هذا الكتاب، إضافة إلى محتواه الشيق، لغته السليمة الأنيقة الدقيقة في تعبيرها، الخالية من التصنع والتقعر.
أما الأسلوب وإن أراده المؤلف أدبيا، فقد غلبت عليه الصبغة الصحفية، إلا أن لغته تفوق مستوى الصحافة، بتجنبها المزالق التركيبية والأخطاء الشائعة، مع القدرة الفائقة على تطويع الكلمة لأداء المعني المقصود.
  هذا وتقل المآخذ على سلامة اللغة، فهي قليلة جدا، مقارنة بحجم الكتاب، وهي أقل في الاستعمالات غير الموفقة لكلمة أو عبارة ما، وأكثر ما يوجد من أخطاء لغوية، يعود إلى الطباعة وعدم الاستقصاء في التصحيح.
  وبعد، فإن هذا الكتاب يمثل شهادة قيمة من داخل النظام، ومقاربة جادة لتشخيص الحكم في نظرة فاحصة شاملة، قد تمتزج بشيء من الذاتية وعدم الرضى عن الوضع، بل وخيبة الأمل أحيانا، ولكن ذلك لا يقلل من أهميتها وطرافتها وندرة موضوعها.
  وإذا ما كانت هذه الندوة مخصصة للتعريف بهذا المؤلَّف القيم، لأن المؤلِّف لا يحتاج إلى التعريف، فإن الحديث عن الفترة الزمنية القصيرة التي كانت إطارا لهذه التجربة قد يفضي إلى محاكمة فترة بكاملها. وعليه فإنني أرى أنه من السابق لأوانه استصدار أحكام نهائية في الموضوع، نظرا إلى قرب هذه الفترة منا، ونظرا إلى أن الحديث الذي تم في الكتاب عن سنة ونصف فقط، إنما جاء مقدمة لثماني عشرة سنة مشابهة تلتها، وخمس سنوات عقبت ذلك، هي في الحقيقة استمرار لذلك النهج، لأن مَن تعاقبوا على السلطة ممن كانوا يحكمون فعلا هم بطانة الرئيس معاوية وتلامذته، فقواعد المسرح ثابتة وإن اختلف الممثلون.
  ولنقل للتاريخ وللحقيقة والإنصاف إنه رغم المآخذ الكثير على حكم الرئيس معاوية، فإنه لم يخل من إيجابيات، فليس مجرد كومة من المساوئ كما يريد البعض أن يصمه، سيرا على طريقة "كلما دخلت أمة لعنت أختها".
  فمن خصاله الشخصية وطنيته الصادقة وغيرته على سيادة البلد، وإيمانه المبالغ فيه بذكاء الموريتانيين وقدراتهم وزهده في جمع المال، وتعلقه بثوابت الهوية الموريتانية الأصيلة.
  وفي حصيلة منجزاته يسجَّل له إعطاء جرعة من الديمقراطية وإن كانت غير كافية، ومنح هامش معتبر لحرية الصحافة (غير الحكومية) وإن كانت هذه الحرية تتعرض أحيانا لبعض الهزات، ولم يسجن في عهده صفحي ولا حوكم حسب علمنا.
  كما تم إنجاز بنى أساسية لا بأس بها، وقد كان بإمكانها أن تكون أكثر وأوسع نطاقا لو كان الرئيس أكثر صرامة في محاربة الفساد وفي ترشيد تسيير الأموال التي تدفقت في عهده على البلاد.
  ثم إن نياته كانت سليمة وطموحه مشروعا فيما يتعلق بمحو الأمية وإشاعة الكتاب، وإن لم يصل فيهما إلى نتائج تذكر.
  وهو ككل رئيس له جوانب إيجابية وأخرى سلبية، تجذرت السلبية منها بفعل جو التملق والنفاق السائد لدى كثير من الموريتانيين، الذين يخلقون أصنامهم بأيديهم، فيعبدونها ثم يدمرونها بعد أن تدور عليها الدوائر، ثم يأخذون في بناء هياكل جديدة ليملئوها مُكاءً وتصدية. ++
وفي الختام أهنئ المكتبة الموريتانية على ازديانها بهذا الأثر القيم، الذي يطرح سياقُه سؤالا كبيرا لا يستطيع الإجابة عليه إلا التاريخ، ألا وهو: هل يمكن التعايش بين المدني والعسكري في نظام حكم منسجم؟ وبالتوسع في الفكرة هل يستطيع نظام بعقلية عسكرية أن يعيش في مجتمع مدني؟ وبصفة معكوسة للسؤال هل يستطيع مجتمع مدني أن يتحرر وينمو في ظل حكم بعقلية وممارسات عسكرية؟




قراءة في: الوزير لعبد الله بن محمدُّ صحفي مدير إذاعة سابق

لقد قرأت كتاب الوزير مرتين، المرة الأولى حين تكرم المؤلف الأستاذ محمد محمود ولد ودادي بإهدائه إلي ... ويبدو أنني في هذه القراءة ، لم أتمكن من سبر كل أغوار الكتاب وأصارحكم بأني لم أعجب - للوهلة الأولي- بالعنوان وتصميم الغلاف وبعض التفاصيل وبما اعتبرته حضورا زائدا للمؤلف في النص ... لكني بسرعة، تذكرت أن الكتاب هو في واقع الحال، مذكرات وشهادة على حقبة من حياة الكاتب وتاريخ بلاده.
هكذا بدأت اكتشف وأستعذب الأسلوب والمضمون وطريقة رصد الأحداث والوقائع واللقطات التي سجلها الكاتب بفطنة ودقة ورشاقة مثل الفنان الذي يرسم بريشته، لوحة مخضبة بألوان كثيرة لكنها متناغمة ومعبرة ـ في تنوعها ومفرداتها والأخيلة المحيلة إليها ـ عن عمل متكامل تربط بين أجزائه خيوط رفيعة ، تقوي تماسك بنيانه وتعمق معانيه .
واستعذبت أيضا في القراءة الأولي ، تحين الرجل كل سانحة ، لإتحاف القارئ بوارد وشارد المعاني وتليد وطريف المعارف والمآثر، في المتن وفي الحواشي.. فهو فيما يبدو شديد الحرص، على أن يسخو للأجيال بفيض ثقافته بل وحتى بكل صبابة أو شذرة تفيد، إن لم يفرضها السياق، اقتضاها كمال العمل والجود في العطاء
الكتاب ظهر لي من خلال القراءة الأولى وكأنه على نحو ما، مجازفة فهو ـ رغم دماثة وحياء ـ يقدم بشجاعة، وقائع حساسة ويتحدث عن أسرة الكاتب وزوجه على نحو غير معتاد في مجتمعنا التقليدي وعن أشخاص ما يزالون أحياء يرزقون ويصف مواقف وأفكارا وتيارات، بلغة لا تخلو أحيانا من مشاكسة ولهجة مستنبطنة عدم الرضا بل والنقد الصريح أحيانا أخرى
الكتاب ليس كتاب وزير فحسب بل هو أيضا كتاب إداري وسفير ورجل وإنسان عصامي بصير بما يكتب، شديد اليقظة والإحساس بما يحيط به.. هو أيضا كتاب صحافي سابق لزمانه .. وبشأن هذه الحيثية الأخيرة التي أشطار الكاتب بعضا من همومها وشجونها وإن كنت إزاءه فيها، ابن لبون (لا ضرع يحلب ولا ظهر يركب) فإني تفاجأت بتقدم وحادثة مفاهيمه ومقارباته فهو يقدم أفكارا ومعالجات حديثة ومتطورة في مجالات الإعلام والاتصال والحرية.
القراءة الثانية، هي هذه التي دعاني إليها المركز المغاربي للدارسات الإستراتيجية ممثلا في رئيسه د/ ديدي ولد السالك وبتوصية لطيفة ومقدرة من المؤلف. وقد مكنتني من استكناه بعد جوهري في هذا الكتاب، هو عبارة عن توصيف تاريخي لكيفية تشكل أو تكون الفساد الذي سيصبح صناعة أو تكنولوجيا أسستها إدارة، لا تجيد سوى الطاعة العمياء للحاكم المتغلب ونهب غنائم الاقتصاد الريعي الذي أقامته
أهمية هذا التوصيف أن المؤلف وهو رجل مخضرم تحمل المسؤولية أيام كان في الإدارة بعض الخير والحياء وتحملها حين بدأ الفساد يتسلل إلى العقول وتحملها بعد أن حاك في النفوس واستحكم في الممارسات والمسلكيات .. فهو بذلك شاهد عيان شديد الأهمية خاصة أن كل تلك المراحل ـ ولا أزكي على          الله أحدا ـ لم تنل منه ولم يقبل أثناءها، التورط والتردي في وحل المغريات ولم يلجأ للتذلل والتسفل وتسقط فتات موائد الحكام رغم أنه كان محسوبا على "المؤسسة أو النظام "ومنسوبا للفئة البرزواجية وسنكتشف أنه لا يجد غضاضة في التصريح بأنه لجأ إلى بيع أثاث بيته لسد خلة أسرته وقضاء بعض الأمور الملحة. أليست نظافة اليد لشخص مثله وفي ظروف كالتي عاشها، استثناء وميزة، تذكر فتشكر؟ 
    لقد قدم لنا هذا الكتاب لقطات وصورا معبرة، تغني كل واحدة منها عن كتاب وتختزل وضعا بكامله
إحدى هذه الصور: وصف مكتب مدير الديوان الرئاسي الذي كان بمثابة الرجل الثاني في النظام من حيث النفوذ والأهمية كانت الملفات مكدسة على المكتب والأوراق متناثرة مع وجود بيوت العناكب في الزوايا وفوق الرؤوس، كما سبق وأن شاهدت قبل ذلك بأيام، في مكاتب والي النعمة ومقرات إدارته
صورة ثانية: قصة توقفه للتزود بالوقود في ألاك ليلا وإعراضه عن تقديم رشوة لبائع البنزين وشعوره بالذنب واستهجانه لظاهرة "التبيب"التي هي ظاهرة جديدة عليه وهي كلمة دخيلة أيضا على اللهجة الحسانية وأصلها، كما أفادنا المؤلف، ولفي ومعناها المقايضة.. ونكتشف من القصة تردد الرجل واضطرابه ووجله وهو يكتشف ربما لأول مرة، أن الرشوة، أصبحت بكل بساطة معاملة من المعاملات تمارس في كل الأوقات وعلى كل المستويات وربما اقتضى الحال وضع فقه خاص بها أو قانون ينظمها.. 
ويمضي الكتاب فيضيء لنا الكثير من الجوانب المظلمة في حياة الدولة وانعدام الجدية وشدة الاستخفاف والاستهتار بكل شيء حتى بالتعيينات الوزارية واجتماعات مجلس الوزراء وسيطرة الروتين الإداري وهامشية دور الوزير وتركز السلطة على مستوى رئيس الجمهورية ويبين لنا أن إصدار قانون واحد مع نصوصه التطبيقية، قد يتطلب من الوزير ما بين 6 أشهر إلى سنة وهذه المدة هي متوسط التوزر في حكوماتنا المترحلة، أي أن أفضل الوزارء يستطيع بالكاد في عمره الوزاري ، إصدار قانون واحد
مجلس الوزراء كما يستشف من وصفه في الكتاب، يشبه في اجتماعاته فصلا من فصول المدرسة الابتدائية يجلس أمامه معلم متسلط لا يهتم بالتفوق وإنما يحرص على الهدوء والنظام والطاعة. ويعقد المجلس اجتماعات شكلية فالقرارات المهمة لا تصدر عنه وهو لا يدرس أصلا القضايا الإستراتيجية والملفات المعمقة ويكتفي بتسيير اللحظة والتباري في إعلان الولاء والمساهمة في تضليل وتدجين المجتمع .
يقدم الكتاب تعريفا ظريفا للوزير قد يجعل القارئ يشفق عليه فهو شخص يتقلد وظيفة سامية مرغوبة لذاتها لكنها وظيفة تقيده وتختزله وترتب عليه واجبات ومسوؤليات كثيرة ، لا حول له فيها ولا قوة.
 يروي لنا الكتاب جوانب من الأساليب التي استخدمتها الأنظمة للتحكم في الناس وترسيخ الأحادية وبث الرعب والخوف من الشخص الوحيد الذي ينفع ويضر ، يرفه ويضع أ لا وهو الرئيس، فالوزارة لا تخضع لمعايير الكفاءة والاقتدار وحسن الأخلاق بل هي مثل الأرجوحة ترفع من لا يستحق وتهبط بمن تشاء ثم تدوس على الجميع بعد أن يكونوا قد تورطوا في الطاعة والفساد فيصير الجميع، سواسية كأسنان المشط، لا أحد يفضل أحدا . الفضل فقط لولي النعمة، مصدر العطاء المتصرف في ملكه ، السيد الرئيس
ثم يعرفنا الكتاب عن الإدارة الموريتانية التي تقودها حكومة ذلك جزء من مواصفاتها.. مثل تلك الإدارة لا يصلح إلا كجهاز للوشاية وممارسة للحيف والسيطرة بالاستبداد، جهاز يتحكم فيه ويتنافس من خلاله، الشطار "آفكاريش"متقنو التزلف وإفساد عقليات المجتمع ونشر فاحشة النهب التي ستجعلنا     نترحم على السرقة والاختلاس حيث سيتبين لاحقا، أنهما ظاهرتان لطيفتان         بالمقارنة معه.
الوزير وغير الوزير الناهب والسارق والمرتشي وغير هؤلاء وأولئك .. الكل - إلا من رحم ربي- تنازل عن مسؤولياته وواجباته وطبل الإعلام الحكومي وزمر شعراء التكسب وخريجو مدارس التملق حتى وقع في عقول البسطاء أن الفساد والشطارة والاستقالة والفشل، جزء مقدور من تسيير الدولة وأمر مقبول أو مطلوب، فصار الكل إلى التنافس والتلاعب بالإدارة وبالنخب وبالعلم والعلماء وأسس الدولة ومؤهلاتها، وكانت النتيجة، إفساد الذمم وتزوير الحقائق
هذا هو الانقلاب الحقيقي الكبير الذي وقع في الصميم وليس الانقلابات العسكرية التي عرفناها على كثرتها. ولقد أماط كتابنا هذا، اللثام عن كيفية وقوع ذلك الانقلاب وكيفية تأثير أهل الحل والعقد الجدد على المجتمع ونجاحهم في إعادة تشكيل عقوله وعاداته ومسلكياته وتمخض ذلك عن سيطرة القيم المادية وطرد القيم المعنوية وإقصاء المتمسكين بها
أعتقد أنه يستحيل تقديم خلاصة واحدة لهذا الكتاب، فكل سطر منه يتحفك بمعلومة جديدة أو اكثر، ولذالك فإني فقط  أحيي شجاعة الكاتب في نشر الحقائق والوقائع كما أحيي وفاءه لثقافته ولغته العربية وللرجال الذين اخلص لهم واخلصوا له وتمثله القيم والمثل التي نص عليها في مؤلفه وابتعاده عن هتك أعراض الناس والتعريض والوشاية بهم والتنكر للماضي
كما أني سعيد بأن أكتشف من خلال الكتاب، محمد محمود، الرجل الديمقراطي الذي يرفض الانقلابات والإصلاحي الذي يحارب الفساد والإداري الملم بمختلف جوانب الحياة في البلد والدبلوماسي الناجح اللبق، بعد أن كنت عرفته صحافيا واسع الإطلاع شغوفا بالثقافة والعلم
نعم لا أخفي إعجابي بالكاتب وبهذا الكتاب وخاصة فصله التاسع الذي عنوانه: مجتمع انواكشوط وبيئته  ولكني بعد قراءته أشعر بأني أشفق على هذا البلد وأتحسر على أن الحكام والسياسيين ـ فيما يبدو ـ لا يقرءون ولا يعتبرون ولا يستخلصون الدروس من الماضي ومن أسلافهم "الميامين"وينسون بسرعة أسباب وجودهم ووجود من كان قبلهم

ولا حول ولا قوة إلا بالله




عرض لكتاب: الوزير: "تجربة وزير مدني في حكم عسكري 
إعداد الحافظ ولد الغابد
(نشر هذا العرض قبل الجلسة )

صدرت الطبعة الأولى من كتاب: الوزير: "تجربة وزير مدني في حكم عسكري"لمؤلفه الباحث ووزير الإعلام محمد محمود ولد ودادي ويعرض ولد ودادي تجربته كسفير لموريتانيا في عدة عواصم عربية لمدة اثني عشر سنة والمستشار بالرئاسة المؤتمن على العديد من ملفات الأمن القومي الموريتاني في العهدين المدني والعسكري وأحد الساسة والمثقفين الموريتانيين البارزين في المشهد الثقافي والفكري، الموريتاني وقد زود المكتبة الموريتانية بترجمته لعدة مؤلفات للباحث الفرنسي بول مارتي الذي ألف العديد من الكتب التي رصدت جوانب من تاريخ الحياة الثقافية والاجتماعية والعلائق السياسية ما بين القبائل الموريتانية خصوصا في المناطق الشرقية .
  ويقدم ولد ودادي هذه المرة للمكتبة الموريتانية كتابا غنيا عن تجربته كوزير في حكومة العهد السكري محللا بعمق البنية الإدارية للسلطة السياسية وكاشفا النقاب عن خفايا وخبايا البلاط الرئاسي الذي عرف تحولات عميقة خلال الحكم العسكري في السنوات الأولى من حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع تختلف عما كان عليه الحال خلال الحكم المدني (1960-1978.
وتقتصر الفترة التي يقدمها "الوزير"ولد ودادي في كتابه على سنوات 1985-1986-1987) ) ويحلل الكاتب الوزير، في فصل تمهيدي قصير دواعي الكتابة في هذا المجال، معتبرا أن الكتاب ليس مذكرات سياسية ولكنه "وصف مختصر لما شاهدتُه وتعاملت معه خلال الفترة المعنية، ونقلٌ لبعض أحداثها باستثناء قضايا حساسة تتصل بجوهر مصلحة موريتانيا ومستقبلها وعلاقاتها الإقليمية ارتأيت أن الوقت لم يحن بعد للتعرض لها".
  والكتابة في الموضوع من ناحية أخرى "تعبير عن الهموم التي أحملها وبعض الآراء التي عبرت عنها جملة أو تفصيلا في المناسبات الرسمية وفي مجلس الوزراء، راجيا أن تكون إسهاما في توضيح الرؤية عن فترة من تاريخ موريتانيا الحديثة، ودعوة لرجال سبقونا وتحملوا مسئوليات أكبر منا ولفترات أطول ولغيرهم من مثقفينا خاصة من جيل الاستقلال، لكتابة مذكراتهم السياسية .. على غرار ما سبق إليه مؤسس الدولة الرئيس المختار ولد داداه من تدوينِ ملخّصِ تجربته الثرية في كتابه المميز "موريتانيا على درب التحديات".
فصول الكتاب
يقدم المؤلف في هذا الكتاب خمسة عشر فصلا دون أن يعتمد مصطلح الفصل قبل عنوان الفصل أو القسم تبدأ بعنوان: 1- دخول الحكومة وتنتهي بالعقيد معاوية ابن الطايع وجاءت العناوين الأخرى على النحو التالي: 2- دخول الحكومة 3- الوزير 4- ظروف العمل والنشاط اليومي 5- وضع قطاعات الثقافة والإعلام والمواصلات 6-الإعلام واجهة الدولة 7- نحن والإصلاح 8- العلاقة مع الديوان الرئاسي 9- مجتمع نواكشوط وبيئته 10- مدرسة التملق 11- القبيلة وجماعات الضغط والرأي العام 12-  المهمات الخارجية 13- الخروج من الحكومة 14- مشكلة نظام الحكم والبدائل المتاحة 15- العقيد معاوية بن الطايع.
واحتوى الكتاب ملاحق ووثائق هامة احتلت ثلث صفحات الكتاب (مئة من ثلاث مئة صفحة) من أهمها قائمة بأسماء الوزراء في العهدين المدني والعسكري وقد بلغ عدد وزراء العهد المدني حوالي 80وزير بينما وصل وزراء العهد العسكري حوالي 82 وزير كما احتوت الملاحق وثائق حول السياسة الإعلامية ورسائل وجهها الوزير ولد ودادي للرئيس وتقارير وتعليمات صادرة لعلاج مشكلات أو توضيح سياسات وإجراءات وتدابير اقتضتها سياسة الوزير. 


صعوبات العمل الوزاري
يقدم المؤلف صعوبات العمل الوزاري التي عايشها في ثنايا الكتاب متناثرة هنا وهناك ويشرح ظروف العمل والنشاط اليومي قائلا: إن الظروف التي يعمل فيها الوزراء تعد بالغة الصعوبة مقارنة بالسفراء والمديرين العامين فإمكانياتهم منعدمة والمنتظر منهم كثير وقد طلب إلي أحد الزملاء يوما أن أقارن بين وضع الوزير والسفير فأجبته ما زحا: "السفير يمثل رئيس الدولة وسيارته تحمل باستمرار علما ويجلس خلف السائق الذي يفتح له الباب ويدعى صاحب السعادة وهو في الخارج بعيدا عن جو نواكشوط الموبوء بالكيد والنميمة أما الوزير فهو خادم للجميع سيارته بالية ويجلس بجنب السائق ويدعى الزميل CAMARADE ".
  ويصف حالة الآليات والموجودات بالوزارة قائلا: "وفي المكتب لا توجد وسائل معقولة للعمل فالسكرتارية منعدمة في أغلب الأحيان حتى أنني في وزارة الإعلام – وهي من أقدم القطاعات – لم أجد راقنا واحدا على الآلة الكاتبة العربية كما لم أجد الآلة نفسها وقد اضطررنا إلى تلفيق طاقم من الهيئات التابعة للوزارة. والمتابعة في السكرتارية منعدمة بسبب سوء التنظيم الإداري وندرة الملفات المحفوظة.
ولا يوجد أثر لأي جهاز تلفوني حديث أو لآلة تسهل العمل فنحن ما نزال في هذا المجال في عصر الخمسينات وقد كنت أضطر إلى كتابة الرسائل والتعليمات والأوامر بنفسي.
ومن أصعب التحديات التي واجهتها عند استقبال الخريجين والوجهاء الحصول على أعمال للعاطلين إذ كنت أرفض الضغط على المديرين التابعيين للوزارة مكتفيا بعرض الأمر عليهم في رسالة تضم أسماء واختصاصات المرشحين. ومن الذين تمكنت من حل مشكلتهم مجموعة متخرجة من إحدى الدول العربية رفضتها مديرية البريد لأنها مستعربة وهذا السلوك الذي اتبعته سبب الكثير من التذمر لدى الأقارب والأصدقاء الذين يرون أن على الوزراء اكتتاب الأقارب وتوزيع العطايا والكثير منهم يعلق الآمال على وصول ابن العام إلى موقع يمكنه من قضاء حوائجه".
ويضيف: "واعترف أن أكبر خسارة لي وأنا في الوزارة قطع الصلة مع العديد من أصدقائي الكثيرين وأسرتي الصغيرة التي لم أكن اجتمع بها إلا وقت تناول طعام الإفطار وقد تعثرت دراسة الأطفال بسبب مشاغلي الحكومية كما انشغلت كليا عن نشاطي العادي في الكتابة".
واستعرض المؤلف بإسهاب تجربة الوزير في العهد العسكري التي تميزت بصعوبات بالغة: "وينبغي الاعتراف بأن العهود العسكرية تميزت بالشك المفرط في ولاء الوزراء وعلاقاتهم بغيرهم ومع الدبلوماسيين الأجانب ويجد البعض العذر في ذلك عند العودة بالأذهان إلى ممارسات مثل التي كان يقوم بها علنا وبطريقة مبتذلة بعض الدبلوماسيين والأجانب مع بعض رجال الدولة والمواطنين المحسوبين على تنظيمات تابعة للخارج والتي عرفت بالممارسات "الرُّفيْعية". (نسبة إلى سفير عراقي سابق في نواكشوط بداية الثمانينيات كما بين المؤلف في الهامش.
مواقف طريفة
  كما يستعرض تجربته الشخصية مع الديوان الرئاسي الذي كان من المفترض أن ينهض ببعض المهام البروتوكولية يقول: "فقد كان مقررا أن يزورنا أحد الضيوف واتخذنا الاستعدادات الضرورية على مستوى الوزارة وكلفنا فريقا من الموظفين بالسهر على قضية السكن والمعاش والمتابعة يوميا مع المراسم والديوان إلا أن هذا الأخير رفض تدخلنا في موضوع السيارات. وقد أكد لي رئيس الفريق أن كل شيء جاهز – بعد أن وفرنا من مصروفات التسيير في الوزارة على ضآلتها- النواقص الموجودة في الفيلا المخصصة لاستقبال الضيف من فرش وبطانيات ومناشف وأدوات صحية ثم توجهنا إلى المطار لاستقباله وبعد الوصول خرجنا إلى الموكب المهيأ للانطلاق فوجدنا أن السيارة المخصصة للوزير كانت عتيقة بشكل لافت للنظر بعدما قيل لنا إنها من الدفعة الجديدة التي بدأت تستعمل لاستقبال كبار الزوار، فركبناها وأنا في خوف من أن تتوقف، محاولا تطويل الحدث مع الوزير الزائر لشغله عن الانتباه لوضعها لكن بعد فترة بدأت أصوات مزعجة تصدر منها ومعها دخان العادم ثم وجهت نظري إلى مؤشر البنزين الذي كان يوشك على النفاد .. واستمر السير وأنا أخشى توقف السيارة في الطريق العام إلى أن وصلنا لله الحمد".
وشهد العهد العسكري السابق لحركة 12-12- 1984 أخطاء أضرت بعلاقات موريتانيا مع العديد من الدولن فكم مرة سلّم مبعوث موريتاني رسالة إلى رئيس ليست موجهة إليه أو كُتب اسم آخر على غلاف رسالة موجهة إلى رئيس دولة أخرى، أو تضمنت أو راق اعتماد السفراء أسماء غير صحيحة للقادة المعتمدين لديهم؛ ففي تونس مثلا تسلم الرئيس الحبيب بورقيبة رسالة يحملها وزير موريتاني، وعندما فتحها وجد أنها موجهة إلى الرئيس الشاذلي بن جديد، فما كان منه إلا أن صاح بأعلى صوته "أنا المجاهد الأكبر بورقيبة محرر تونس ورئيسها مدى الحياة، فكيف ألتبس مع العسكر"؟ وقد جرت المقابلة بحضور رئيس الوزراء التونسي ومدير ديوان الرئيس والسفير الموريتاني وآخرين.
وتعني وقائع الحادثة أن الرئيس الشاذلي بن جديد تسلم رسالة الرئيس بورقيبة لأن المبعوث مر بالجزائر قبل تونس؛ ومرة صرح أحد المبعوثين في الدوحة أنه"يحمل رسالة من الرئيس الموريتاني إلى الشيخ عيسى بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر"بينما هو الشيخ خليفة أما الشيخ عيسى بن خليفة فهو أمير دولة البحرين؛ وفي ظروف الديوان الحالية يمكن لمثل هذه الهفوات أن تتكرر".

مجتمع نواكشوط ودور القبيلة
 يستعرض الكاتب نماذج مختلفة للحياة الجديدة في العاصمة الموريتانية نواكشوط خلال مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، فيستعرض في البداية كيف سكن نواكشوط وهي قرية صغيرة ذات مجتمع غير متجانس في العام 1960 فكانت مدينة جميلة نظيفة وغير مكتظة، ولم يكن بها قبل سنة 1964 سجن باستثناء معتقل صغير يقع بجانب حاكم المقاطعة.
ويقارن ولد ودادي حياة سكان نواكشوط منتصف الثمانينيات مع الحياة فيها منتصف الستينيات، حيث كانت تعرف حراكا ثقافيا وسمَرا ليليا ممتعا، مع جلسات الشاي الأسرية المصحوبة بالموسيقى الهادئة والأدب الرفيع، ويستدرك على المدينة في الفترة المتأخرة صخبها وتلوثها وارتفاع معدلات الجريمة والشعوذة والاعتقادات الفاسدة، مع غياب تام للوعظ والتوجيه، وسيطرة الجدل ما بين الأشاعرة والمتصوفة والسلفية، وهي خلافات تتدخل فيها الهيئات الأجنبية وحتى الدبلوماسية، دون أن تتصدى لذلك الجهات الرسمية المعنية، مما قد يلحق الضرر بعلاقات البلاد ببعض الدول الشقيقة التي لا تريد لموريتانيا إلا الخير والاستقرار، ولكنها تجهل تصرفات بعض ممثليها في نواكشوط.
ويصف ولد ودادي ظاهرة التملق التي كانت سائدة في المجتمع الموريتاني وتفاقمت في الفترة الأخيرة ويقول: "انطلاقا من رفض الجمهور لبوادر النفاق السياسي عبر الإذاعة الوطنية، كان أول قرارين اتخذتُهما عند ما عينت مديرا للإذاعة في فبراي   1970 يلغيان مجموعة (أشوار) -أناشيد – بالحسانية كانت تمجد الرئيس المختار ولد داداه، وبرنامجا يوميا قصيرا بعنوان "اغْنَ حزب الشعب"يستهله صاحبه وهو شاعر ووجيه نافذ بقوله: "حزب الشعب ألا من الله"وهو تعبير صالح لأن يكون من المدح والذم؛ وقد أقرت اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب (الذي تتبعه وسائل الإعلام) هذين الإجراءين مما يبرهن على أن القيادة السياسية والرئيس المختار خاصة، لم يكن يحبذ هذه الأساليب، بل يمجها، كما يعرف ذلك مساعدوه". ويسرد المؤلف حكايات وتجارب عن التملق وتأثيره السيئ على الإدارة الحكومية، حيث غابت الروح النقدية والتقييم الموضوعي للأداء.
  ويستعرض المؤلف في الفصل الأخير الصداقة الشخصية التي جمعته بالعقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع، مبرزا جديته وتقشفه وعزوفه عن جمع المال، محللا الطريقة التي وصل بها إلى السلطة، ومعتبرا أن العقيد ولد الطايع كان ذا طموح ورأي سياسي حصيف، مبرزا ملاحظات سلبية تتلخص في سلوكه العسكري الجاف الذي ظل ملازما له طوال سنوات ممارسته للسلطة.
ملاحظات ختامية

1-  يؤخذ على الكتاب إغفاله للكثير من الأسماء التي وردت بشأنها ملاحظات سلبية في ثنايا الحديث وسياقاته، أراد المؤلف على ما يبدوا أن يتجنب بها نقد الكثيرين أو ردودهم، لكن من وجهة النظر التاريخية والتوثيقية، فستظل هذه من أهم النواقص المسجلة على الكتاب.
2-  لم يشأ المؤلف أن يخوض كثيرا في تحليل بعض الأحداث التاريخية التي عاصرها، والخروج بترجيح لبعض وجهات النظر التي تعددت الروايات حولها، بل اكتفى بالإشارة أحيانا لرؤيته للحدث دون إطالة في التفاصيل.
3-  يعتبر الكتاب مرجعا مهما لأنه أعطى صورة عن اجتماعات مجلس الوزراء وأنماط العمل الإداري وتعاطي النخبة السياسية مع الشأن السياسي والعام من جهة، كما هو وثيقة هامة لدراسة أنماط السلوك السياسي في الدولة والمجتمع الموريتانيين.



Article 0

Article 0

$
0
0
موريتانيا والقضية الفلسطسنية

 

تصدى أول نائب موريتاني في بالبرلمان الفرنسي أحمدو بن حرمه لتقسيم فلسطين سنة 1948، في كلمة ألقاها في الجمعية الوطنية الفرنسية، عندما أثير فيها موضوع التقسيم.

في الخمسينيات، ومع بداية انتشار الوعي السياسي في مستعمرة موريتانيا، كان هناك تطلع إلى معرفة أوضاع العالم العربي، ليس فقط في المغرب الأقصى والجزائر، ولكن في المشرق أيضا، كبيت المقدس والحرمين الشريفين ومصر، وبدأ الناس يتداولون ما يصلهم من أخبار عن شعب فلسطين وتشريده، إلا أن ظهور الموضوع في الأدبيات السياسية تأخر إلى فترة الاستقلال. 

أعلن الرئيس المختار بن داداه ـ مباشرة بعد إعلان الاستقلال في 28/11/ 1960 أن موريتانيا تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، منددا بتقسيم فلسطين، ومناديا بتطبيق قرارات الأمم المتحدة، الخاصة بعودة اللاجئين، وإنصافهم، بإعطائهم حقوقهم المغتصبة، رافضا أي اعتراف بالكيان الصهيوني.

من ذلك التاريخ، أصبح تأييد موريتانيا للشعب الفلسطيني عنوانا ثابتا في السياسة الخارجية للدولة الفتية.

لفت هذا الموقف انتباه الرئيس جمال عبد الناصر، فعبر عنه بقوله لأول وفد رسمي موريتاني يزور القاهرة في يونية سنة 1963: "لقد انبهرت بموقف الرئيس المختار بن داداه من القضية الفلسطينية ومن قضايا التحرير عامة، وفي إفريقيا خاصة، وخجلت من أنني لم أكن أعرفه، وكذلك من تجاهلنا لهذا البلد العربي الإفريقي الأصيل".

 نعم كانت القضية الفلسطينية قضية موريتانيا الوحيدة التي يدافع عنها كل الموريتانيين بدون استثناء، ولم يكن غيرُها مطروحا بعد استقلال الجزائر، إلا حماية استقلال موريتانيا نفسها.

 في سنة 1969 وصل إلى نواكشوط أول مبعوث رسمي لمنظمة التحرير إلى موريتانيا هو سعيد العباسي (أبو فهد) ففتح أول مكتب رسمي للمنظمة في نواكشوط، بعد أن أمّنت له الحكومة مكتبا ومنزلا وسيارة، ومبلغا ماليا سنويا، ثم أصبح المكتب سفارة دولة فلسطين في نواكشوط. وانطلق من إذاعة موريتانيا صوت الثورة الفلسطينية بالعربية والفرنسية، ليُسمع في أجزاء واسعة من القارة.

 شكل هذا المكتب مركز انطلاق النشاط الفلسطيني إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وكان أبا لجميع المكاتب التي أنشئت بعد ذلك في عواصم القارة جنوب الصحراء. وكان من سمات الموقف الموريتاني الدائم الامتناع عن التدخل في شؤون الفلسطينيين الذي كان هاجس قادتهم، وسبّب لهم الكثير من المشاكل. 

الدور الموريتاني في موقف القارة الإفريقية من القضية الفلسطينية

يعود إذن إلى الرئيس المختار بن داداه فضل كبير في الاتصال بين الثورة الفلسطينية والقارة السمراء، وتغيير مواقف قادتها لصالح القضية الفلسطينية، فقد كان الرئيس المختار يرتبط بعلاقات حميمة مع زعماء دول القارة، بحكم انتماء موريتانيا للمنظمات الإقليمية والقارية والصلات الشخصية مع زعمائها.

سهل تأسيسُ منظمة الوحدة الإفريقية في 25 مايو 1963 مهمتَه وغيرِه من القادة العرب الأفارقة، حيث زالت التكتلات السياسية القارية السابقة، ومعها عهود من الشك والريبة كان الاستعمار يلعب عليها، وصارت القمم الإفريقية والمؤتمرات الأخرى، منابر رسمية تُطرح فيها جميع القضايا، ومناسباتٍ يحضرها الصحفيون والمثقفون، وصناعُ الرأي، فطُرحت علنا القضية الفلسطينية بأبعادها السياسية، وجذورها التاريخية، وطبيعةِ إسرائيل العدوانية، مما ساهم في إنارة الرأي العام الإفريقي، الذي أدركت شرائح مؤثرةٌ منه، أن هذا الكيان صنيعة للاستعمار ورأس حربة له في المشرق العربي، وقاعدة عسكرية يراد لها أن تمزق التواصل بين إفريقيا وآسيا، مما ساهم في بداية تهاوي حججها بملكية أرض فلسطين.

قبل ذلك، ظل الموقف الرسمي الإفريقي منحازا للكيان الصهيوني، لأسباب عدة، من أهمها ما ورثته تلك الدول الجديدة عن العلاقات الخارجية للدول الاستعمارية المسؤولة عن اغتصاب فلسطين، كبريطانيا وفرنسا.

قدمت إسرائيل نفسها للدول الإفريقية في الستينيات، على أنها دولة صغيرة محاصرة من مائة مليون عربي! مما يجعلها جديرة بالعطف والتأييد، وفي الوقت نفسه دولة نموذجية للشجاعة والتنمية، ينبغي لإفريقيا الاقتداء بها، خاصة في تقنياتها الزراعية واستخراج المعادن الثمينة، مع قدرتها على توفير الأمن للزعماء الأفارقة ومصدرا لأجهزة التجسس والتنصت المتطورة لحمايتهم، بدل تقديم المساعدات المالية أو الغذائية أو الإسهام في مشروعات الإنشاء والتنمية، لأنها هي نفسها تعيش على المساعدات الخارجية.

لكن سنوات من الوجود الإسرائيلي المكثف أثبتت أن الخبراء الزراعيين الإسرائيليين في شرق إفريقيا ووسطها وغربها، لم يفيدوا الزراع الأفارقة في شيء، بل تدهور الإنتاج في المناطق التي دخلوها، وتكشفت فضيحة سرقتهم للكثير من سلالات البذور الزراعية الإفريقية الشهيرة وبذور النباتات، لتتوَّج الفضائحُ إياهم، بما قاموا به في مجال الثروة المعدنية، حيث تبين أنهم سرقوا الألماس، وحولوه للصناعات الإسرائيلية التي أصبحت من أكثر مثيلاتها ازدهارا في العالم؛ أما الحراسات الشخصية، فقد كانت غطاء لإقامة شبكات تجسس، ولم تغن شيئا عن الانقلابات العسكرية، بل ساعدت في بعضها كما وقع في الكونغو وإثيوبيا وليبريا.

بدأت بشائر تغيير موقف دول القارة مع عدوان 5 يونيو 1967 عندما احتلت إسرائيل الأراضي المصرية في سيناء. عندئذ أصغى القادة الإفريقيون في جنوب القارة إلى حجج إخوتهم الشماليين، بوجوب تأييد تحرير الأرض المصرية الإفريقية، على قدم المساواة مع الأراضي الإفريقية التي مازالت تحت الاحتلال الأوروبي، كالمستعمرات البريطانية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية، وهيمنة البيض في جنوب إفريقيا.

 ثم كان المنعطف الكبير، عندما اندلعت حرب أكتوبر التحريرية سنة 1973 واستعاد العرب جزءا من كبريائهم، بإنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأن لا مخرج للعرب إلا بالاستسلام. 

 تضافرت من جراء هذه الأحداث عوامل التضامن الإفريقي مع مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها منظمة تقود نضال شعب يريد الانعتاق، مثل شعب جنوب إفريقيا وأنغولا وزمبابوي وزامبيا، وملاوي وموزنبيق وغيرهم.. وأصبحت الأرضية ممهدة، لقرار منظمة الوحدة الإفريقية التاريخي بقطع العلاقات مع إسرائيل، حيث لم يشذ عن ذلك إلا كينيا التي أبقت على تلك العلاقات فترة قبل أن تلحق بباقي دول القارة.

  خاتمة

 نعم، توطدت العلاقات بين الثورة الفلسطينية والدول الإفريقية، وبين دول جنوب الصحراء والعالم العربي بفضل جهود رجال بارزين من أمثال المختار بن داداه الذي كان الوسيط النزيه بين قادة الجانبين، وهو ما جعل الكثيرين يعترفون له بذلك، وعلى رأسهم ياسر عرفات وجمال عبد الناصر والملك فيصل وحافظ الأسد و"ليوبولد سدار سنغور"و"هوفوت بوانيى"وأحمدو أهيدجو وهواري بو مدين و"تفاوا بليوا"ومعمر القذافي وعمر "بونغو إنديمبا"، والكثير من السياسيين والكتاب والإعلاميين، وبعد موته أشاد الكل بهذا الدور التاريخي.

  توطدت العلاقة بين الثورة الفلسطينية مع القارة، بفضل الزمالة النضالية بين مقاتلي حرب التحرير الفلسطينيين والأفارقة، حيث تدرب الكثير من أبناء القارة، الذين استقلت بلدانهم في السبعينيات، في المعسكرات الفلسطينية في لبنان، إضافة إلى دعم منظمة التحرير لهم بالسلاح والمال، وانضمام ياسر عرفات إلى من سبقوه، من القادة العرب إلى جهود تعزيز العلاقات العربية الإفريقية، وحل الإشكالات في العلاقات بين الطرفين؛ وكانت لذلك ثمار بارزة على رأسها الموقف الإفريقي المتميز في المحافل الدولية من القضية الفلسطينية، واعتبار منظمة التحرير مراقبا دائما في الاتحاد الإفريقي، يستخدمون منبرها البارز للدفاع عن قضيتهم، وهو ما فشلت إسرائيل في الحصول على مثله، بعد عجزها عن إلغائه.

 تسابقت دول إفريقيا للاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما أعلنت بالجزائر في 15-11- 1988، فأقامت معها علاقات دبلوماسية جعلت السفارات الفلسطينية بعد ذلك أكثر بكثير من مثيلاتها الإسرائيلية.

صحيح، تغيرت الحكومات الموريتانية – كغيرها - خلال العقود الأربعة الماضية، لكن موقف موريتانيا ظل كما كان من القضية الفلسطينية، ومن القضايا العربية كافة، كعضو في الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية والمؤتمر الإسلامي، والأمم المتحدة وفي جميع المحافل، حيث تلعب دورها بصدق وتجرد.

لا شك أن القضية الفلسطينية تعيش ظروفا شديدة التعقيد جراء استمرار اليمين الإسرائيلي المتطرف في السلطة، بل اشتداد قبضته يوما بعد يوم عليها، والعدوان الدائم على الضفة الغربية وقطاع غزة، ومواصلة الحصار والتجويع والاعتقال، والقتل الممنهج، وشن اعتداءات دموية مدمرة بأي ذريعة؛ وهي حالة لا ينفع فيها إلا استمرار الصمود البطولي للشعب الفلسطيني، وتضحياتُه التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر؛ وكلما تحققت الوحدة وصمدت بين أبناء الشعب الفلسطيني، كلما اقترب  تحقيق النصر، واستُعيدت قاطرة التضامن العربي والإسلامي، حتى تتحرر فلسطين والقدس الشريف.        

نواكشوط في 5 جمادى 2/ الأبيظ التالي 1444 – 29/11/2022


 

Viewing all 37 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>